اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَٰمِ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (25)

قوله تعالى : { والله يدعوا إلى دَارِ السلام } الآية .

لمَّا نفر العقلاء عن الميل إلى الدُّنيا ، رغَّبهُم في الآخرة بهذه الآية ، قال قتادة : " السَّلام هو الله ، وداره الجنَّة " {[18395]} .

وسمِّي الله - تعالى - بالسَّلام لوجوه :

أحدها : أنَّه لمَّا كان واجب الوُجُودِ لذاته ، فقد سَلِمَ من الفناء والتَّغيير ، وسلم في ذاته وصفاته من الافتقار إلى الغير ، وهذه الصِّفةُ ليست إلاَّ له - سبحانه .

وثانيها : وصف بالسلام ، أي : أنَّ الخَلْق سَلِمُوا من ظُلْمِهِ ؛ ولأنَّ كل ما سواه فهو مُلْكُه ومِلْكُه ، وتصرُّفُ المالك في ملك نفسه لا يكون ظُلْماً .

وثالثها : قال المُبَرِّد : " وصف بالسلام ، أي : لا يقدر على السَّلام إلاَّ هو ، والسَّلام : عبارة عن تخليص العاجزين عن الآفات ، وهو المنتصف للمظلُومين من الظالمين " وعلى هذا التقدير : السَّلام مصدر " سَلِمَ " .

وقيل : سُمِّيت الجنَّة دارَ السلام ؛ لأنَّ من دخلها سلم من الآفات ، وقيل : المرادُ بالسَّلام : التَّحية ؛ لأنَّه - تعالى - يُسَلِّم على أهلها ، قال - تعالى - : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] ، والملائكةُ يُسلِّمُون عليهم أيضاً ، قال - تعالى - : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } [ الرعد : 23-24 ] ، وهم يُحيُّون بعضهم بعضاً بالسَّلام ، قال - تعالى - : { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [ يونس : 10 ] .

وروى جابرٌ ، قال : " جاءت ملائكةُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو نائمٌ ، فقالوا : إنَّ لصاحبكُم هذا مثلاً ، مثله كمثل رجُل بنى داراً ، وجعل فيها مأدُبَةً ، وبعثَ داعياً فمنْ أجاب الدَّاعِي ، دخل الدَّار ، وأكل من المَأدبة ، ومنْ لمْ يُجبِ الدَّاعي ، لم يدخُل الدَّار ، ولمْ يأكلْ من المأدُبةِ ، فالدَّارُ الجنَّة ، والدَّاعي محمَّدٌ ، فمن أطاع محمداً ، فقد أطاعَ اللهَ ، ومنْ عَصَى مُحمداً ، فقد عصى الله " {[18396]} .

فصل

قال ابن عبَّاسٍ : " الجِنان سبعٌ : دار الجلال ، ودار السَّلام ، وجنَّة عدن ، وجنَّةُ المأوى ، وجنَّة الخُلْدِ ، وجنَّة الفردوس ، وجنَّة النَّعيم " {[18397]} .

ثم قال تعالى : { وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } : وهو الإسلام .

وروي عن عليِّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال : سمعت رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الصِّراط المستقيم : كتابُ الله{[18398]} .

وقال قتادة ، ومجاهد : هو الحق{[18399]} .

وقيل : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر{[18400]} .

واحتجَّ أهلُ السُّنَّة : على أنَّ الكفر والإيمان بقضاء الله - تعالى - ؛ لأنَّه - تعالى - بيَّن في هذه الآيةِ ، أنَّه دعا جميع الخلق إلى دار السَّلام ، ثم بيَّن أنَّه ما هدى إلاَّ بعضهم ، فهذه الهدايةُ الخاصَّةُ ، يجبُ أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامَّة ، ولا شكَّ أنَّ الإقدار ، والتمكين ، وإرسال الرُّسُل ، وإنزال الكُتُب أمورٌ عامَّة ، فوجب أن تكون الهداية الخاصَّة مغايرة لكلِّ هذه الأشياء ، وما ذاك إلاَّ أنَّه - تعالى - خصَّه بالعلم والمعرفة ، دُون غيره .

وأجاب القاضي بوجهين :

الأول : أن المراد : ويهدي الله من يشاء ، إلى إجابة تلك الدَّعوة ، أي : أنَّ من أجاب الدُّعاء ، وأطاع واتَّقَى ، فإنَّ الله يهديه إليها .

والثاني : أن المراد بهذه الهداية الألطافُ ، وأجيب عن هذين الوجهين ، بأنَّ عندكم يجب على الله فعل هذه الهداية ، وما يكون واجباً ، لا يكون معلَّقاً بالمشيئةِ ، فامتنع حمله على ما ذكرتم .


[18395]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/548) عن قتادة وذكره البغوي في "تفسيره" (2/350). وورد مثله عن ابن عباس ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/545) وعزاه إلى أبي نعيم والدمياطي في "معجمه" من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه بلفظ.....والله السلام والجنة داره.
[18396]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/549) والحاكم (2/339) من حديث جابر وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[18397]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (8/210).
[18398]:انظر: المصدر السابق.
[18399]:انظر: المصدر السابق.
[18400]:انظر: المصدر السابق.