معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (10)

قوله تعالى :{ لقد أنزلنا إليكم كتاباً } يا معشر قريش { فيه ذكركم } يعني : شرفكم ، كما قال وإنه لذكر لك ولقومك وهو شرف لمن آمن به . وقال مجاهد : فيه حديثكم . وقال الحسن : فيه ذكركم أي ما تحتاجون إليه من أمر دينكم . { أفلا تعقلون* }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (10)

هذه السنة يخوف الله بها المشركين الذين كانوا يواجهون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بالإسراف عليه ، وتكذيبه ، وإيذائه والمؤمنين معه . وينبههم إلى أنه رحمة بهم لم يرسل إليهم بخارقة مادية ، يتبعها هلاكهم ، إذا هم كذبوا بها كما كذب من قبلهم . إنما أرسل إليهم بكتاب يشرفهم لأنه بلغتهم ، ويقوم حياتهم ، ويخلق منهم أمة ذات سيادة في الأرض وذكر في الناس . وهو مفتوح للعقول تتدبره ، وترتفع به في سلم البشرية :

( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم . أفلا تعقلون ? ) . .

إن معجزة القرآن معجزة مفتوحة للأجيال ، وليست كالخوارق المادية التي تنقضي في جيل واحد ، ولا يتأثر بها إلا الذين يرونها من ذلك الجيل .

ولقد كان به ذكر العرب ومجدهم حين حملوا رسالته فشرقوا بها وغربوا . فلم يكن لهم قبله ذكر ، ولم يكن معهم ما يعطونه للبشرية فتعرفه لهم وتذكرهم به . ولقد ظلت البشرية تذكرهم وترفعهم طالما استمسكوا بهذا الكتاب ، وقادوا به البشرية قرونا طويلة ، فسعدوا وسعدت بما معهم من ذلك الكتاب . حتى إذا تخلوا عنه تخلت عنهم البشرية ، وانحط فيها ذكرهم ، وصاروا ذيلا للقافلة يتخطفهم الناس ، وكانوا بكتابهم يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون !

وما يملك العرب من زاد يقدمونه للبشرية سوى هذا الزاد . وما يملكون من فكرة يقدمونها للإنسانية سوى هذه الفكرة . فإن تقدموا للبشرية بكتابهم ذاك عرفتهم وذكرتهم ورفعتهم ، لأنها تجد عندهم ما تنتفع به . فأما إذا تقدموا إليها عربا فحسب بجنسية العرب . فما هم ? وما ذاك ? وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب ? إن البشرية لم تعرفهم إلا بكتابهم وعقيدتهم وسلوكهم المستمد من ذلك الكتاب وهذه العقيدة . . لم تعرفهم لأنهم عرب فحسب . فذلك لا يساوي شيئا في تاريخ البشرية ، ولا مدلول له في معجم الحضارة ! إنما عرفتهم لأنهم يحملون حضارة الإسلام ومثله وفكرته . وهذا أمر له مدلوله في تاريخ البشرية ومعجم الحضارة !

. . ذلك ما كان يشير إليه القرآن الكريم ، وهو يقول للمشركين ، الذين كانوا يواجهون كل جديد يأتيهم منه باللهو والإعراض والغفلة والتكذيب : ( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم . أفلا تعقلون ? ) .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (10)

استئناف جوابٌ عن قولهم { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 5 ] بإيقاظهم إلى أن الآية التي جاءتهم هي أعظم من الآيات التي أرسل بها الأولون ، وتجهيلاً لألبابهم التي لم تُدرك عِظم الآية التي جاءتهم كما أنبأ بذلك موقع هذه الجملة في هذا المكان .

وفي ضمير ذلك تحقيق لكون القرآن حقاً ، وتذكير بما يشتمل عليه من المنافع التي عَمُوا عنها فيما حكي عنهم أول السورة بقوله تعالى : { ما يأتيهم من ذكر من ربهم مُحدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم } [ الأنبياء : 23 ] كما أنبأ بذلك ظاهر معنى الآية .

ولقصد هذا الإيقاظ صُدِّرت الجملة بما يفيد التحقيق من لام القسم وحرف التحقيق وجعل إنزال الكتاب إليهم كما اقتضته تعدية فعل { أنزلنا } بحرف ( إلى ) شأن تعدية فعل الإنزال أن يكون المجرور ب « إلى » هو المنزّل إليه فجعل الإنزال إليهم لكونهم بمنزلة من أنزل إليه نظراً إلى أن الإنزال كان لأجلهم ودعوتهم . وذلك أبلغ من أن يقال : لقد أنزلنا لكم .

وتنكير { كتاباً } للتعظيم إيماء إلى أنه جمع خصلتين عظيمتين : كونه كتاب هدى ، وكونه آية ومعجزة للرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو مُدَانِيه .

والذكر يطلق على التذكير بما فيه الصلاح ، ويطلق على السمعة والصيت كقوله { ذكر رحمة ربك عبده زكرياء } [ مريم : 2 ] . وقد أوثر هذا المصدر هنا وجُعل معرفاً بالإضافة إلى ضمير المخاطبين ليكون كلاماً موجهاً فيصح قصد المعنيين معاً من كلمة ( الذكر ) بأن مجيء القرآن مشتملاً على أعظم الهدى ، وهو تذكير لهم بما به نهاية إصلاحهم ، ومجيئه بلغتهم ، وفي قومهم ، وبواسطة واحد منهم ، سمعةٌ عظيمة لهم كما قال تعالى : { بلسان عربي مبين } [ الشعراء : 195 ] وقال { كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم } [ البقرة : 151 ] .

وقد فسر السلف هذه الآية بالمعنيين . وفي « تفسير الطبري » هنا قال جماعة : معنى « فيه ذكركم » أنه الشرَف ، أي فيه شرفكم . وقال ابن عطية : يحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما تذكر عظام الأمور ، وقد فُسر بمثل ذلك قوله تعالى { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] .

وعلى المعنيين يكون لِتفريع قوله تعالى { أفلا تعقلون } أحسنُ موقع لأن الاستفهام الإنكاري لنفي عقلهم متجه على كلا المعنيين فإن من جاءه ما به هديه فلم يهتد يُنكَر عليه سوء عقله ، ومن جاءه ما به مجده وسمعته فلم يعبأ به ينكر عليه سوء قدره للأمور حق قدرها كما يكون الفضل في مثله مضاعفاً .

وأيضاً فهو متفرع على الإقناع بإنزال القرآن آية تفوق الآيات التي سألوا مثلها وهو المفاد من الاستئناف ومن تأكيد الجملة بالقسم وحرففِ التحقيق قال تعالى : { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } في سورة [ العنكبوت : 51 ] ، وذلك لإعجازه اللفظي والمعنوي .