في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (10)

هذه السنة يخوف الله بها المشركين الذين كانوا يواجهون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بالإسراف عليه ، وتكذيبه ، وإيذائه والمؤمنين معه . وينبههم إلى أنه رحمة بهم لم يرسل إليهم بخارقة مادية ، يتبعها هلاكهم ، إذا هم كذبوا بها كما كذب من قبلهم . إنما أرسل إليهم بكتاب يشرفهم لأنه بلغتهم ، ويقوم حياتهم ، ويخلق منهم أمة ذات سيادة في الأرض وذكر في الناس . وهو مفتوح للعقول تتدبره ، وترتفع به في سلم البشرية :

( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم . أفلا تعقلون ? ) . .

إن معجزة القرآن معجزة مفتوحة للأجيال ، وليست كالخوارق المادية التي تنقضي في جيل واحد ، ولا يتأثر بها إلا الذين يرونها من ذلك الجيل .

ولقد كان به ذكر العرب ومجدهم حين حملوا رسالته فشرقوا بها وغربوا . فلم يكن لهم قبله ذكر ، ولم يكن معهم ما يعطونه للبشرية فتعرفه لهم وتذكرهم به . ولقد ظلت البشرية تذكرهم وترفعهم طالما استمسكوا بهذا الكتاب ، وقادوا به البشرية قرونا طويلة ، فسعدوا وسعدت بما معهم من ذلك الكتاب . حتى إذا تخلوا عنه تخلت عنهم البشرية ، وانحط فيها ذكرهم ، وصاروا ذيلا للقافلة يتخطفهم الناس ، وكانوا بكتابهم يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون !

وما يملك العرب من زاد يقدمونه للبشرية سوى هذا الزاد . وما يملكون من فكرة يقدمونها للإنسانية سوى هذه الفكرة . فإن تقدموا للبشرية بكتابهم ذاك عرفتهم وذكرتهم ورفعتهم ، لأنها تجد عندهم ما تنتفع به . فأما إذا تقدموا إليها عربا فحسب بجنسية العرب . فما هم ? وما ذاك ? وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب ? إن البشرية لم تعرفهم إلا بكتابهم وعقيدتهم وسلوكهم المستمد من ذلك الكتاب وهذه العقيدة . . لم تعرفهم لأنهم عرب فحسب . فذلك لا يساوي شيئا في تاريخ البشرية ، ولا مدلول له في معجم الحضارة ! إنما عرفتهم لأنهم يحملون حضارة الإسلام ومثله وفكرته . وهذا أمر له مدلوله في تاريخ البشرية ومعجم الحضارة !

. . ذلك ما كان يشير إليه القرآن الكريم ، وهو يقول للمشركين ، الذين كانوا يواجهون كل جديد يأتيهم منه باللهو والإعراض والغفلة والتكذيب : ( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم . أفلا تعقلون ? ) .