قوله تعالى :{ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } معناه ألم تر إلى مد ربك الظل ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، جعله ممدوداً لأنه ظل لا شمس معه ، كما قال :في ظل الجنة ، { وظل ممدود } لم يكن معه شمس { ولو شاء لجعله ساكناً } دائماً ثابتاً لا يزول ولا تذهبه الشمس . قال أبو عبيدة : الظل : ما نسخته الشمس ، وهو بالغداة ، والفيء : ما نسخ الشمس ، وهو بعد الزوال ، سمي فيئاً لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب ، { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً } أي : على الظل . ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل ، ولولا النور لما عرفت الظلمة ، والأشياء تعرف بأضدادها .
( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل - ولو شاء لجعله ساكنا - ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ) . .
إن مشهد الظل الوريف اللطيف ليوحي إلى النفس المجهودة المكدودة بالراحة والسكن والأمان . وكأنما هو اليد الآسية الرحيمة تنسم على الروح والبدن ، وتمسح على القرح والألم ، وتهدهد القلب المتعب المكدود . .
أفهذا الذي يريده الله سبحانه وهو يوجه قلب عبده إلى الظل بعدما ناله من استهزاء ولأواء ? وهو يمسح على قلبه المتعب في هذه المعركة الشاقة ، وهو في مكة يواجه الكفر والكبر والمكر والعناد ، في قلة من المؤمنين وكثرة من المشركين ؛ ولم يؤذن له بعد في مقابلة الاعتداء بمثله وفي رد الأذى والتهجم والاستهزاء ? ! إن هذا القرآن الذي كان يتنزل على قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان هو البلسم المريح ، والظل الظليل ، والروح المحيي في هجير الكفر والجحود والعصيان . وإن الظل - وبخاصة في هجير الصحراء المحرق - لهو المشهد الذي يتناسق مع روح السورة كلها وما فيها من أنداء وظلال .
والتعبير يرسم مشهد الظل ويد الله الخفية التدبير تمده في رفق ، وتقبضه في لطف : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ? ) . . ( ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ) . .
والظل هو ما تلقيه الأجرام من الظلمة الخفيفة حين تحجب أشعة الشمس في النهار . وهو يتحرك مع حركة الأرض في مواجهة الشمس ، فتتغير أوضاعه وامتداداته وأشكاله ؛ والشمس تدل عليه بضوئها وحرارتها ، وتميز مساحته وامتداده وارتداده . ومتابعة خطوات الظل في مده وانقباضه يشيع في النفس نداوة وراحة كما يثير فيها يقظه لطيفة شفيفة ، وهي تتتبع صنع البارى ء اللطيف القدير . . وإن مشهد الظلال والشمس مائلة للمغيب ، وهي تطول وتطول ، وتمتد وتمتد . ثم في لحظة . لحظة واحدة ينظر الإنسان فلا يجدها جميعا . لقد اختفى قرص الشمس وتوارت معه الظلال . أين تراها ذهبت ? لقد قبضتها اليد الخفية التي مدتها . لقد انطوت كلها في الظل الغامر الطامي . ظل الليل والظلام !
إنها يد القدرة القوية اللطيفة . التي يغفل البشر عن تتبع آثارها في الكون من حولهم وهي تعمل دائبة لا يدركها الكلال .
( ولو شاء لجعله ساكنا ) . . فبناء الكون المنظور على هذا النسق ، وتنسيق المجموعة الشمسية هذا التنسيق هو الذي جعل الظل متحركا هذه الحركة اللطيفة . ولو اختلف ذلك النسق أقل اختلاف لاختلفت آثاره في الظل الذي نراه . لو كانت الأرض ثابتة لسكن الظل فوقها لا يمتد ولا يقبض . ولو كانت سرعتها أبطأ أو أسرع مما هي عليه لكان الظل في امتداده وقبضه أبطأ أو أسرع . فتنسيق الكون المنظور على ناموسه هذا هو الذي يسمح بظاهرة الظل ، ويمنحها خواصها التي نراها .
وهذا التوجيه إلى تلك الظاهرة التي نراها كل يوم ، ونمر بها غافلين ، هو طرف من منهج القرآن في استحياء الكون دائما في ضمائرنا ، وفي إحياء شعورنا بالكون من حولنا ، وفي تحريك خوامد إحساسنا التي افقدها طول الألفة إيقاع المشاهد الكونية العجيبة ، وطرف من ربط العقول والقلوب بهذا الكون الهائل العجيب .
استئناف ابتدائي فيه انتقال من إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإثبات أن القرآن من عند الله أنزله على رسوله ، وصفات الرسل وما تخلل ذلك من الوعيد وهو من هذا الاعتبار متصل بقوله : { وقال الذين كفروا لولا نُزِّل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] الآية .
وفيه انتقال إلى الاستدلال على بطلان شركهم وإثبات الوحدانية لله وهو من هذه الجهة متصل بقوله في أول السورة { واتخَذَوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً } [ الفرقان : 3 ] الآية .
وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أن الكلام متصل بنظيره من قوله تعالى : { قل أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض } [ الفرقان : 6 ] . وما عطف عليه { قل أذلك خير } [ الفرقان : 15 ] { وما أرسلنا قبلَك من المرسلين } [ الفرقان : 20 ] { وكفى بربك هادياً } [ الفرقان : 31 ] فكلها مخاطبات للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد جُعل مَدُّ الظل وقبْضُه تمثيلاً لحكمة التدريج في التكوينات الإلهية والعدول بها عن الطَفْرَة في الإيجاد ليكون هذا التمثيل بمنزلة كبرَى القياسسِ للتدليل على أن تنزيل القرآن منجَّماً جارٍ على حكمة التدرج لأنه أمكن في حصول المقصود ، وذلك ما دل عليه قوله سابقاً { كذلك لنُثَبّت به فؤادك } [ الفرقان : 32 ] . فكان في قوله : { ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظّل . . . } الآية زيادةٌ في التعليل على ما في قوله { كذلك لِنُثبّت به فؤادك } [ الفرقان : 32 ] .
ويستتبع هذا إيماءً إلى تمثيل نزول القرآن بظهور شمس في المواضع التي كانت مظلَّلة إذ قال تعالى : { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً } فإن حال الناس في الضلالة قبل نزول القرآن تشبَّه بحال امتداد ظلمة الظل ، وصار ما كان مظلّلاً ضاحياً بالشمس وكان زوال ذلك الظل تدريجاً حتى ينعدم الفيء .
فنظم الآية بما اشتمل عليه من التمثيل أفاد تمثيل هيئة تنزيل القرآن منجَّماً بهيئة مدّ الظل مدرّجاً ولو شاء لجعله ساكناً .
وكان نظْمُها بحمله على حقيقة تركيبه مفيداً العبرة بمد الظل وقبضِه في إثبات دقائق قدرة الله تعالى ، وهذان المُفادان من قبيل استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه الذي ذكرناه في المقدمة التاسعة . وكان نظم الكلام بمعنى ما فيه من الاستعارة التصريحية من تشبيه الهداية بنور الشمس ، وتقلّص ضلال الكفر بانقباض الظل بعد أن كان مديداً قبل طلوع الشمس . وبهذه النكتة عُطف قوله { ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً } إلى قوله { وجعل النهار نشوراً } [ الفرقان : 47 ] .
والاستفهام تقريري فهو صالح لطبقات السامعين : مِن غافل يُسأل عن غفلته ليُقِرَّ بها تحريضاً على النظر ، ومِن جَاحد يُنكَر عليه إهماله النظر ، ومن موفق يُحَثّ على زيادة النظر .
والرؤية بصرية ، وقد ضمن الفعل معنى النظر فعدّي إلى المرْئي بحرف ( إلى ) . والمدّ : بسط الشيء المنقبض المتداخل يقال : مد الحبل ومد يده ، ويطلق المد على الزيادة في الشيء وهو استعارة شائعة ، وهو هنا الزيادة في مقدار الظل .
ثم إذا كان المقصود بفعل الرؤية حالةً من أحوال الذات تصحّ رؤيتها فلك تعدية الفعل إلى الحالة كقوله تعالى : { ألم ترَ كيفَ فَعَل ربّك بأصحاب الفيل } [ الفيل : 1 ] { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً } [ نوح : 15 ] ، وصحّ تعديته إلى اسم الذات مقيّدة بالحالة المقصودة بحال أو ظرف أو صلة نحو { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } [ الغاشية : 17 ] { ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه } [ البقرة : 258 ] { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيء لهم ابعث لنا ملكاً } [ البقرة : 246 ] .
والفرق بين التعديتين أن الأولى يقصد منها العناية بالحالة لا بصاحبها ، فالمقصود من آية سورة الفيل : الامتنان على أهل مكة بما حلّ بالذين انتهكوا حرمتَها من الاستئصال ، والمقصود من آية سورة الغاشية العبرة بكيفية خلقه الإبل لِما تشتمل عليه من عجيب المنافع ، وكذلك الآيتان الأخِيرتان . وإذ قد كان المقام هنا مقام إثبات الوحدانية والإلهية الحقّ لله تعالى ، أوثرَ تعلق فعل الرؤية باسم الذات ابتداء ثم مجيء الحال بعد ذلك مجيئاً كمجيء بدل الاشتمال بعد ذكر المبدَل منه .
وأما قوله في سورة نوح ( 15 ) { ألم تَروا كيف خلق الله } دون أن يقال : ألم تروا رَبَّكم كيف خلق ، لأن قومه كانوا متصلبين في الكفر وكان قد جادلهم في الله غيرَ مرة فعَلِم أنه إن ابتدأهم بالدعوة إلى النظر في الوحدانية جعلوا أصابعهم في آذانهم فلم يسمعوا إليه فبادأهم باستدعاء النظر إلى كيفية الخلق .
وعلى كل فإن { كيف } هنا مجردة عن الاستفهام وهي اسم دال على الكيفية فهي في محلّ بدل الاشتمال من { ربك } ، والتقدير : ألم ترَ إلى ربك إلى هيئة مده الظل . وقد تقدم ذكر خروج ( كيف ) عن الاستفهام عند قوله تعالى : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } في سورة آل عمران ( 6 ) ، فإنه لا يخلو النهار من وجود الظل .
وفي وجود الظل دقائقُ من أحوالِ النظام الشمسي فإن الظل مقدار محدد من الظلمة يحصل من حيلولة جسم بين شعاع الشمس وبين المكان الذي يقع عليه الشعاعُ فينطبع على المكان مقدار من الظل مقدَّر بمقدار كيفية الجسم الحائل بين الشعاع وبين موقع الشعاع على حسب اتجاه ذلك الجسم الحائل من جهته الدقيقة أو الضخمة ، ويكون امتداد تلك الظلمة المكيَّفية بكيفية ذلك الجسم متفاوتاً على حسب تفاوت بُعد اتجاه الأشعة من موقعها ومن الجسم الحائل ومختلفاً باستواء المكان وتحدُّبه ، فذلك التفاوت في مقادير ظل الشيء الواحد هو المعبر عنه بالمَدّ في هذه الآية لأنه كلما زاد مقدار الظلمة المكيّفية لكيفية الحائل زاد امتداد الظل . فتلك كلها دلائل كثيرة من دقائق التكوين الإلهي والقدرة العظيمة .
وقد أفاد هذا المعنى كاملاً فعلُ { مَدّ } .
وهذا الامتداد يكثر على حسب مقابلة الأشعة للحائل فكلّما اتجهت الأشعة إلى الجسم من أخفض جهةٍ كان الظل أوسع ، وإذا اتجهت إليه مرتفعةً عنه تقلّص ظلّه رويداً رويداً إلى أن تصير الأشعة مُسامتة أعلى الجسم ساقطة عليه فيزول ظِله تماماً أو يكاد يزول ، وهذا معنى قوله تعالى : { ولو شاء لجعله ساكناً } أي غير متزايد لأنه لما كان مدّ الظل يشبه صورة التحرك أطلق على انتفاء الامتدادِ اسم السكون بأن يلازم مقداراً واحداً لا ينقص ولا يزيد ، أي لو شاء الله لجعل الأرض ثابتة في سَمت واحد تُجاه أشعة الشمس فلا يختلف مقدار ظل الأجسام التي على الأرض وتلزم ظلالُها حالة واحدة فتنعدم فوائد عظيمة .
ودلت مقابلة قوله : { مد الظل } بقوله { لجعله ساكناً } على حالة مطوية من الكلام ، وهي حالة عموم الظل جميع وجه الأرض ، أي حالة الظلمة الأصلية التي سبقت اتجاه أشعة الشمس إلى وجه الأرض كما أشار إليه قول التوراة « وكانت الأرض خالية ، وعلى وجه القمر ظلمة » ثم قال « وقال الله ليكن نور فكان نور . . . » وفصل الله بين النور والظلمة ( إصحاح واحد من سفر الخروج ) ، فاستدلال القرآن بالظل أجدى من الاستدلال بالظلمة لأن الظلمة عدم لا يكاد يحصل الشعور بجمالها بخلاف الظل فهو جامع بين الظلمة والنور فكلا دلالتيه واضحة .
وجملة { ولو شاء لجعله ساكناً } معترضة للتذكير بأن في الظل منّة .
وقوله : { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً } عطف على جملة { مد الظل } وأفادت { ثُمّ } أن مدلول المعطوف بها متراخ في الرتبة عن مدلول المعطوف عليه شأن { ثُم } إذا عطفت الجملة . ومعنى تراخي الرتبة أنها أبعد اعتباراً ، أي أنها أرفع في التأثير أو في الوجود فإن وجود الشمس هو علة وجود الظّل للأجسام التي على الأرض والسبب أرفع رتبة من المسبّب ، أي أن الله مد الظل بأن جعل الشمس دليلاً على مقادير امتداده . ولم يفصح المفسرون عن معنى هذه الجملة إفصاحاً شافياً .
والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله : { ثم جعلنا } لأن ضمير المتكلم أدخل في الامتنان من ضمير الغائب فهو مشعر بأن هذا الجعل نعمة وهي نعمة النور الذي به تمييز أحوال المرئيات وعليه فقوله ( تعالى ) : { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً } ارتقاء في المنّة .
والدليل : المرشد إلى الطريق والهادي إليه ، فجُعل امتداد الظل لاختلاف مقاديره كامتداد الطريق وعلامات مقادير مثلَ صُوى الطريق ، وجعلت الشمس من حيث كانت سبباً في ظهور مقادير الظل كالهادي إلى مَراحلَ ، بطريقة التشبيه البليغ ، فكما أن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق ، كذلك الشمس بتسببها في مقادير امتداد الظل تعرّف المستدل بالظل بأوقات أعماله ليشرع فيها .
وتعدية { دليلاً } بحرف ( على ) تفيد أن دلالة الشمس على الظل هنا دلالة تنبيه على شيء قد يخفى كقول الشاعر : « إلا عليّ دليل »{[295]} . . . وشمل هذا حالتي المد والقبض .