البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيۡفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوۡ شَآءَ لَجَعَلَهُۥ سَاكِنٗا ثُمَّ جَعَلۡنَا ٱلشَّمۡسَ عَلَيۡهِ دَلِيلٗا} (45)

لما بيِّن تعالى جهل المعترضين على دلائل الصانع وفساد طريقتهم ذكر أنواعاً من الدلائل الواضحة التي تدل على قدرته التامة لعلهم يتدبرونها ويؤمنون بمن هذه قدرته وتصرفه في عالمه ، فبدأ بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال وأن ذلك جار على مشيئته .

وتقدم الكلام على { ألم تر } في البقرة في قصة الذي حاجّ إبراهيم .

والمعنى { ألم تر إلى } صنع { ربك } وقدرته .

و { كيف } سؤال عن حال في موضع نصب بمد .

والجملة في موضع متعلق { ألم تر } لأن { تر } معلقة والجملة الاستفهامية التي هي معلق عنها فعل القلب ليس باقي على حقيقة الاستفهام .

فالمعنى ألم تر إلى مدّ ربك الظل .

وقال الجمهور : { الظل } هنا من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مثل ظل الجنة ظل ممدود لا شمس فيه ولا ظلمة .

واعترض بأنه في غير النهار بل في بقايا الليل ولا يسمى ظلاً .

وقيل : { الظل } الليل لا ظل الأرض وهو يغمر الدنيا كلها .

وقيل : من غيبوبة الشمس إلى طلوعها وهذا هو القول الذي قبله ولكن أورده كذا .

وقيل : ظلال الأشياء كلها كقوله { أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله } وقال أبو عبيدة : { الظل } بالغداة والفيء بالعشي .

وقال ابن السكيت : { الظل } ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس .

وقيل : ما لم تكن عليه الشمس ظل وما كانت عليه فزالت فيء .

{ ولو شاء لجعله ساكناً } قال ابن عباس وقتادة وابن زيد : كظل الجنة الذي لا شمس تذهبه .

وقال مجاهد : لا تصيبه ولا تزول .

وقال الحسن : { لو شاء } لتركه ظلاً كما هو .

وقيل : لأدامه أبداً بمنع طلوع الشمس بعد غيبوبتها ، فلما طلعت الشمس دلت على زوال الظل وبدا فيه النقصان فبطلوع الشمس يبدو النقصان في الظل ، وبغروبها تبدو الزيادة في الظل فبالشمس استدل أهل الأرض على الظل وزيادته ونقصه ، وكلما علت الشمس نقص الظل ، وكلما دنت للغروب زاد وهو قوله { ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً } يعني في وقت علو الشمس بالنهار ينقص الظل نقصاناً يسيراً بعد يسير وكذلك زيادته بعد نصف النهار يزيد يسيراً بعد يسير حتى يعم الأرض .

كلها فأما زوال الظل كله فإنما يكون في البلدان المتوسطة في وقت .

وقال الزمخشري : ومعنى { مد الظل } أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس .

{ ولو شاء لجعله ساكناً } أي لاصقاً بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجر وغير منبسط فلم ينتفع به أحد ، سمي انبساط الظل وامتداده تحركاً منه وعدم ذلك سكوناً ومعنى كون الشمس دليلاً أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتاً في مكان وزائلاً ومتسعاً ومتقلصاً فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك .

وقبضه إليه أن ينسخه بظل الشمس { يسيراً } أي على مهل وفي هذا القبض اليسير شيئاً بعد شيء من المنافع ما لا يعد ولا يحصى ، ولو قبض دفعة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً فإن قلت : ثم في هذين الموضعين كيف موقعها ؟ قلت : موقعها البيان تفاضل الأمور الثلاثة كأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم من الثاني تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت .

ووجه آخر وهو أنه بنى الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض لعدم النير .

{ ولو شاء الله لجعله ساكناً } مستقراً على تلك الحالة ثم خلق الشمس وجعله على ذلك الظل سلطها عليه وجعلها دليلاً متبوعاً لهم كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد بها وينقص ويمتد ويقلص ، ثم نسخه بها قبضه قبضاً سهلاً يسيراً غير عسير ، ويحتمل أن يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه ، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه وقوله { قبضناه إلينا } يدل عليه وكذلك قوله { يسيراً } كما قال { ذلك حشر علينا يسير } انتهى وقوله : سمى انبساط الظل وامتداده تحركاً منه لم يسم الله ذلك إنما قال كيف مد الظل وقوله : ويحتمل أن يريد قبضه عند قيامه الساعة فهذا يبعد احتماله لأنه إنما ذكر آثار صنعته وقدرته لتشاهد ثم قال { مد الظل } وعطف عليه ماضياً مثله فيبعد أن يكون التقدير ثم قبضه عند قيام الساعة مع ظهور كونه ماضياً مستداماً أمثاله .

وقال ابن عطية : { ولو شاء لجعله ساكناً } أي ثابتاً غير متحرك ولا منسوخ ، لكنه جعل الشمس ونسخها إياه بطردها له من موضع إلى موضع دليلاً عليه مبيناً لوجوده ولوجه العبرة فيه .

وحكى الطبري : أنه لولا الشمس لم يعلم أن الظل شيء إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها .

وقال ابن عباس : { يسيراً } معجلاً .

وقال مجاهد لطيفاً أي شيئاً بعد شيء ، ويحتمل أن يريد سهلاً قريب التناول .

وقال أبو عبد الله الرازي : أكثر الناس في تأويل هذه الآية ويرفع الكلام فيها إلى وجهين .

الأول : أن الظل لا ضوء خالص ولا ظلمة خالصة ، وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وكذلك الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأبنية الجدارات ، وهي أطيب الأحوال لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الخالص يحير الحس البصري ويحدث السخونة القوية وهي مؤذية ، ولهذا قيل في الجنة { وظل ممدود } والناظر إلى الجسم الملون كأنه يشاهد بالظل شيئاً سوى الجسم وسوى اللون والظل ليس أمراً ثالثاً ولا معرفة به إلاّ إذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم ثم مال عرف للظل وجود وماهية ، ولولاها ما عرف لأن الأشياء تدرك بأضدادها ، فظهر للعقل أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون ولذلك قال { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً } أي جعلنا الظل أولاً بما فيه من المنافع واللذات ، ثم هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت دليلاً على وجود الظل .