قوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } ، أي : وما من أهل الكتاب إلا ليؤمن بعيسى عليه السلام ، هذا قول أكثر المفسرين وأهل العلم ، وقوله { قبل موته } اختلفوا في هذه الكناية ، فقال عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي : إنها كناية عن الكتابي ، ومعناه : وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى عليه السلام قبل موته ، إذا وقع في البأس حين لا ينفعه إيمانه ، سواء احترق ، أو غرق ، أو تردى في بئر ، أو سقط عليه جدار ، أو أكله سبع ، أو مات فجأة ، وهذه رواية عن بن طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهم قال : فقيل لابن عباس رضي الله عنهما : أرأيت إن خر من فوق بيت ؟ قال : يتكلم به في الهواء ، قال : فقيل أرأيت إن ضرب عنق أحدهم ؟ قال : يتلجلج به لسانه . وذهب قومً إلى أن الهاء في موته كناية عن عيسى عليه السلام ، معناه : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى عليه السلام ، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان ، فلا يبقى أحد إلا آمن به ، حتى تكون الملة واحدة ، ملة الإسلام .
وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً ، يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، حتى لا يقبله أحد ، ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويقتل الدجال ، فيمكث في الأرض أربعين سنة . ثم يتوفى ، ويصلي عليه المسلمون .
وقال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } ، قبل موت عيسى ابن مريم ، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات . وروي عن عكرمة : أن الهاء في قوله { ليؤمنن به } كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم يقول : لا يموت كتابي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : هي راجعة إلى الله عز وجل ، يقول : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالله عز وجل ، قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانه .
قوله تعالى : { ويوم القيامة يكون } ، يعني : عيسى عليه السلام .
قوله تعالى : { عليهم شهيداً } أنه قد بلغهم رسالة ربه ، وأقر بالعبودية على نفسه ، كما قال تعالى مخبراً عنه { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } [ المائدة :117 ] وكل نبي شاهد على أمته ، قال الله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء :41 ] .
ونعود من هذا الاستطراد ، مع عودة السياق القرآني إلى بقية هذا الاستدراك :
( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ؛ ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا ) .
وقد اختلف السلف في مدلول هذه الآية ، باختلافهم في عائد الضمير في " موته " فقال جماعة : وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن بعيسى - عليه السلام - قبل موته - أي عيسى - وذلك على القول بنزوله قبيل الساعة . . وقال جماعة وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن بعيسى قبل موته . . أي موت الكتابي - وذلك على القول بأن الميت - وهو في سكرات الموت - يتبين له الحق ، حيث لا ينفعه أن يعلم !
ونحن أميل إلى هذا القول الثاني ؛ الذي ترشح له قراءة أبى : " إلا ليؤمنن به قبل موتهم " . . فهذه القراءة تشير إلى عائد الضمير ؛ وأنه أهل الكتاب . . وعلى هذا الوجه يكون المعنى : أن اليهود الذين كفروا بعيسى - عليه السلام - وما زالوا على كفرهم به ، وقالوا : إنهم قتلوه وصلبوه ، ما من أحد منهم يدركه الموت ، حتى تكشف له الحقيقة عند حشرجة الروح ، فيرى أن عيسى حق ، ورسالته حق ، فيؤمن به ، ولكن حين لا ينفعه إيمان . . ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا .
عطف على جملة { وما قتلوه } [ النساء : 157 ] . وهذا الكلام إخبار عنهم ، وليس أمراً لهم ، لأنّ وقوع لام الابتداء فيه ينادي على الخبرية . و { إن } نافية و { من أهل الكتاب } صفة لموصوف محذوف تقديره : أحد .
والضمير المجرور عائد لعيسى : أيّ ليومنَنّ بعيسى ، والضمير في { موته } يحتمل أن يعود إلى أحد أهل الكتاب ، أي قبل أن يموت الكتابيّ ، ويؤيّده قراءة أبَي بن كعب { إلا ليؤمنن به قبل موته } . وأهل الكتاب يطلق على اليهود والنّصارى ؛ فأمّا النصارى فهم مؤمنون بعيسى من قبل ، فيتعيّن أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود . والمعنى أنّ اليهود مع شدّة كفرهم بعيسى لا يموت أحد منهم إلاّ وهو يؤمن بنبوّته قبل موته ، أي ينكشف له ذلك عند الاحْتضار قبل انزهاق روحه ، وهذه منّة مَنّ الله بها على عيسى ، إذ جعل أعداءه لا يخرجون من الدنيا إلاّ وقد آمنوا به جزاء له على ما لقي من تكذيبهم ، لأنّه لم يتمتّع بمشاهدة أمّةٍ تتبعه . وقيل : كذلك النصرانيّ عند موته ينكشف له أنّ عيسى عبد الله .
وعندي أنّ ضمير { به } راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل { رفعه الله إليه } [ النساء : 158 ] ، ويعمّ قولُه { أهلِ الكتاب } اليهودَ ، والنّصارى ، حيث استووا مع اليهود في اعتقاد وقوع الصلب .
والظاهر أنّ الله يقذف في نفوس أهل الكتابين الشكّ في صحّة الصلب ، فلا يزال الشكّ يخالج قلوبهم ويقوَى حتّى يبلغ مبلغ العلم بعدم صحّة الصلب في آخر أعمارهم تصديقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حيث كذّب أخبارهم فنفَى الصلبَ عن عيسى عليه السلام .
وقيل : الضمير في قوله { موته } عائد إلى عيسى ، أي قبل موت عيسى ، ففرّع القائلون بهذا تفاريع : منها أنّ موته لا يقع إلاّ آخر الدنيا ليتمّ إيمان جميع أهل الكتاب به قبل وقوع الموت ، لأنّ الله جعل إيمانهم مستقبلاً وجعله قبل موته ، فلزم أن يكون موته مستقبلاً ؛ ومنها ما ورد في الحديث : أنّ عيسى عليه السلام ينزل في آخر مدّة الدنيا ليؤمن به أهل الكتاب ، ولا يخفى أنّ عموم قوله : { وإن من أهل الكتاب } يبطل هذا التفسير : لأنّ الَّذين يؤمنون به على حسب هذا التأويل هم الذين سيوجدون من أهل الكتاب لا جميعهم .
والشهيد : الشاهد ؛ يشهد بأنّه بلّغ لهم دعوة ربّهم فأعرضوا ، وبأنّ النّصَارى بدّلوا ، ومعنى الآية مفصّل في قوله تعالى : { يوم يجمع الله الرسل } الآيَات في سورة العقود ( 109 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.