اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا} (159)

قوله تعالى : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } ]{[10307]}

لما ذكر فَضَائِح اليَهُود وقبحَ أفْعَالِهِم ، وأنَّهم قَصَدُوا قَتْل عِيسَى عليه الصلاة والسلام ، وأنَّه{[10308]} لم يَحْصُل لهم ذَلِكَ المَقْصُود ، وأنَّ عيسى - عليه السلام - حَصَل له أعْظَمُ المَنَاصِبِ ، بَيَّن أن هؤلاء اليهُود الذين بَالَغُوا في عَدَاوَتِهِ ، لا يَخْرُجُ أحَدٌ مِنْهُم من الدُّنْيَا إلا بَعْدَ أن يُؤمِنَ به ، فقال : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } ، " إنْ " هنا نافيةٌ بمعنى " مَا " ، و " مِنْ أهْلِ " يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه صفة لمبتدأ محذوف ، والخبرُ الجملةُ القسمية المحذوفة وجوابها ، والتقدير : وما أحدٌ من أهل الكتاب إلاَّ واللَّهِ ليُؤمِننَّ به ، فهو كقوله : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] ، أي : ما أحدٌ مِنَّا ، وكقوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }

[ مريم : 71 ] أي : مَا أحَدٌ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُها ، هذا هو الظاهر .

والثاني - وبه قال الزمخشري وأبو البقاء{[10309]} - : أنه في محلِّ الخبر ، قال الزمخشري : " وجملة " لَيُؤْمِنَنَّ به " جملةٌ قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف ، تقديره : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتاب أحَدٌ إلاَّ ليُؤمِنَنَّ بِهِ ، ونحوه : { وما منا إلا له مقام معلوم } { وإن منكم إلا واردها } ، والمعنى : " وما من اليهود أحَدٌ إلاَّ ليُؤمنَنَّ " ، قال أبو حيان{[10310]} : " وهو غلطٌ فاحشٌ ؛ إذ زعم أن " لَيُؤْمِنَنَّ بِه " جملة قسمية واقعةٌ صفةً لموصوف محذوف إلى آخره ، وصفة " أحَد " المحذوف إنما الجار والمجرور ؛ كما قَدَّرناه ، وأمَّا قوله : " لَيُؤْمِنَنَّ بِه " ، فليستْ صفةً لموصوف ، ولا هي جملة قسمية ، إنما هي جملة جواب القَسَم ، والقسم محذوفٌ ، والقسمُ وجوابُه خبر للمبتدأ ، إذ لا ينتظم من " أحَد " ، والمجرور إسناد ؛ لأنه لا يفيد ، وإنما ينتظم الإسنادُ بالجملة القسمية وجوابها ، فذلك هو مَحَطُّ الفائدةِ ، وكذلك أيضاً الخبرُ هو { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } ، وكذلك " إِلاَّ وَارِدُهَا " ؛ إذ لا ينتظم مما قبل " إلاَّ " تركيب إسناديٌّ " . [ قال شهاب الدين ]{[10311]} وهذا - كما تَرَى - قد أساء العبارة في حق الزمخشريِّ ؛ بما زعم أنه غلط ، وهو صحيح مستقيم ، وليت شعري كيف لا ينتظم الإسنادُ من " أحَد " الموصوفِ بالجملة التي بعده ، ومن الجارِّ قبله ؟ ونظيرُه أن تقول : " مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ إلاَّ صَالِحٌ " فكما أن " فِي الدَّار " خبر مقدَّم ، و " رَجُلٌ " مبتدأ مؤخر ، و " إلاَّ صَالِحٌ " صفته ، وهو كلامٌ مفيد مستقيمٌ ، فكذلك هذا ، غايةُ ما في الباب أنَّ " إلاَّ " دخلت على الصفة ؛ لتفيدَ الحصْر ، وأما ردُّه عليه حيث قال : جملةٌ قسميَّة ، وإنما هي جوابُ القسَم ، فلا يَحْتاجُ إلى الاعتذار عنه ، ويكفيه مثلُ هذه الاعتراضاتِ .

واللام في " ليُؤمِنَنَّ " جوابُ قسمٍ محذوف ، كما تقدَّم . وقال أبو البقاء{[10312]} : " ليُؤمِنَنَّ جواب قسمٍ محذوفٍ ، وقيل : أكَّدَ بها في غير القسَم ؛ كما جاء في النفي والاستفهام " ، فقوله : " وقيل . . . إلى آخره " إنما يستقيم ذلك ، إذا أعَدْنا الخلاف إلى نونِ التوكيد ؛ لأنَّ نون التوكيد قد عُهِد التأكيدُ بها في الاستفهام باطِّرادٍ ، وفي النفي على خلاف فيه ، وأما التأكيدُ بلام الابتداء في النفي والاستفهام ، فلم يُعْهَد ألبتة ، وقال{[10313]} أيضاً قبل ذلك : " وما مِنْ أَهْلِ الكتاب أحدٌ ، وقيل : المحذوفُ " مَنْ " وقد مرَّ نظيره ، إلا أنَّ تقديرَ " مَنْ " هنا بعيدٌ ، لأن الاستثناء يكون بعد تمام الاسْمِ ، و " مَنْ " الموصولة والموصوفةُ غيرُ تامَّة " ، يعني أن بعضهم جعل ذلك المحذوفَ لفظَ " مَنْ " ، فيقدِّر : وإنْ مِنْ أهْلِ مَنْ إلاَّ ليُؤمِنَنَّ ، فجعلَ موضع " أحَد " لفظ " مَنْ " ، وقوله : " وقَدْ مرَّ نظيره " ، يعني قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } [ آل عمران : 199 ] ومعنى التنظير فيه أنه قد صرَّح بلفظ " من " المقدَّرةِ ههنا .

وقرأ أبَيٌّ{[10314]} : " ليُؤمِنُنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ " بضم النون الأولى مراعاة لمعنى " أحَد " المحذوف ، وهو وإن كان لفظه مفرداً ، فمعناه جمع ، والضمير في " به " لعيسى - عليه السلام - ، وقيل : لله تعالى ، وقيل : لمحمَّد - عليه السلام - ، وفي " مَوْته " لعيسى ، ويُروى في التفسير ؛ أنه حين ينزل إلى الأرض يُؤمِنُ به كلُّ أحدٍ ، حتى تصيرَ المِلّةُ كلُّها إسلامية وهو قَوْلُ قَتادَة ، وابن زَيْدٍ{[10315]} وغيرِهِما ، وهو اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ .

وقيل : يَعُود على " أحَد " المُقدَّر ، أي : لا يَمُوت كِتَابِيٌّ حتى يُؤمن بعيسى قبل مَوْتِهِ عند المُعَايَنَةِ حين لا يَنْفَعُهُ .

ونُقِل عن ابن عَبَّاسٍ ذلك ، فقال له عِكْرِمة ، أفَرأيْتَ إن خَرَّ بَيْتٌ أو احْتَرَق أو أكَلَهُ سَبُعٌ ؟ قال : لا يمُوتُ حَتَّى يُحَرِّكَ بها شَفَتَيْهِ ، أي : بالإيمَانِ بعيسى{[10316]} .

وروى شَهْر بن حَوْشب [ عن الحَجَّاج ؛ أنه ]{[10317]} قال يا شهر آية في كتاب الله ما قَرأتُهَا إلاَّ في نفسي مِنْهَا شَيْءٌ ، يعني : هذه الآيَةَ ؛ فإني أضْرِبُ عُنُقَ اليَهُودِي ، ولا أسْمَعُ منه ذلِك{[10318]} ، فقُلْتُ : إن اليَهُودِي إذا حَضَرَهُ المَوْتُ ضَرَبَت الملائِكَة وَجْهَهُ وَدبُرَهُ ، وقالوا{[10319]} : يا عَدُوَّ اللَّهِ ، أتاك عِيسَى نَبِيّاً فكَذَّبْت [ به ، فيقُولُ : ]{[10320]} آمنْتُ أنه عَبْدُ الله ، وتقول للنَّصْرَانِيِّ : أتَاك عِيسَى نَبِيّاً فَزَعَمْت أنَّه اللَّهُ وابْنُ اللَّهِ ، فيقول : آمَنْتُ أنه عَبْدُ الله ، فأهْلُ الكِتَابِ [ يؤمِنُون ]{[10321]} به ، ولكن حَيْثُ لا يَنْفَعُهُم ذَلِك الإيمانُ ، فاسْتَوَى الحَجَّاج جَالِساً فقال : مِمَّن نَقَلْتَ هذا ؟ فقال : حَدَّثَنِي [ به ]{[10322]} محمد بن عَلِيّ ابن الحَنفِيَّة ، فأخذ يَنْكُتُ في الأرْضِ بِقَضيبٍ ، ثم قال : أخَذْتهَا من عَيْنٍ صَافِيَةٍ{[10323]} .

وقرأ الفياض بن غزوان{[10324]} " وإن من أهل الكتاب " بتشديد " إن " ، وهي قراءة مردودة لإشكالها .

فصل

روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، وتميل{[10325]} في زمانه الملل كلها إلى الإسلام ، ويقتل الدجال ، فيمكث في الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون " وقال أبو هريرة اقرءوا إن شئتم : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } أي : قبل موت عيسى ابن مريم-[ عليه السلام ]{[10326]}- ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات{[10327]} .

قال الزمخشري : والفائدة في إخبار الله- تعالى- بإيمانهم بعيسى قبل موتهم- أنهم متى علموا أنه{[10328]} لا بد لهم من الإيمان به لا محالة ، مع كونه لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت ، فلا يؤمنوا به حال ما ينفعهم ذلك الإيمان .

قوله سبحانه { ويوم القيامة } العامل فيه " شهيدا " وفيه دليل على جواز تقدم خبر " كان " عليها ؛ لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل ، وأجاز أبو البقاء{[10329]} أن يكون منصوبا ب " يكون " وهذا على رأي من يجيز ل " كان " أن تعمل في الظرف وشبهه ، والضمير في " يكون " لعيسى يعني : يكون عيسى عليهم شهيدا : أنه قد بلغهم رسالة ربه ، وأقر بالعبودية على نفسه مخبرا عنهم { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } [ المائدة : 117 ] وكل نبي شاهد على أمته ، وقيل : الضمير في " يكون " لمحمد-عليه السلام- .


[10307]:سقط في أ.
[10308]:في أ: عليه السلام وأنهم.
[10309]:ينظر: الإملاء 1/201.
[10310]:ينظر: البحر المحيط 3/408.
[10311]:ينظر: الدر المصون 2/459.
[10312]:ينظر: الإملاء 1/202.
[10313]:ينظر: الإملاء 1/202.
[10314]:ينظر البحر المحيط 3/408، والدر المصون 2/460.
[10315]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/380، 381) عن قتادة وابن زيد.
[10316]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/383) عن ابن عباس.
[10317]:سقط في أ.
[10318]:في أ: فلك.
[10319]:في أ: ويقولوا.
[10320]:سقط في أ.
[10321]:سقط في أ.
[10322]:سقط في أ.
[10323]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/427) وعزاه لابن المنذر عن شهر بن حوشب.
[10324]:ينظر: المحور الوجيز 2/134، والبحر المحيط 3/409، والدر المصون 2/460.
[10325]:في ب: وتميل.
[10326]:سقط في أ.
[10327]:متفق عليه، أخرجه البخاري في الصحيح 4/414، كتاب البيوع "باب قتل الخنزير" الحديث(2222) وفي 6/490-491، كتاب الأنبياء: باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام الحديث (3448)، ومسلم في الصحيح 1/135-136 كتاب الإيمان: باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الحديث (242/155).
[10328]:في ب: أنهم.
[10329]:ينظر: الإملاء 1/202.