قوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً } أي : كما بعثنا فيكم ، { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ، وهو كل معبود من دون الله ، { فمنهم من هدى الله } أي : هداه الله إلى دينه ، { ومنهم من حقت عليه الضلالة } أي : وجبت بالقضاء السابق حتى مات على كفره ، { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } أي : مآل أمرهم ، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك .
فالله سبحانه لا يريد لعباده الشرك ، ولا يرضى لهم أن يحرموا ما أحله لهم من الطيبات . وإرادته هذه ظاهرة منصوص عليها في شرائعه ، على ألسنة الرسل الذين كلفوا التبليغ وحده فقاموا به وأدوه : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) فهذا أمره وهذه إرادته لعباده . والله - تعالى - لا يأمر الناس بأمر يعلم أنه منعهم خلقة من القدرة عليه ، أو دفعهم قسرا إلى مخالفته . وآية عدم رضاه عن مخالفة أمره هذا ما أخذ به المكذبين ( فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) .
إنما شاءت إرادة الخالق الحكيم أن يخلق البشر باستعداد للهدى وللضلال ، وأن يدع مشيئتهم حرة في اختيار أي الطريقين ؛ ومنحهم بعد ذلك العقل يرجحون به أحد الاتجاهين ، بعد ما بث في الكون من آيات الهدى ما يلمس العين والأذن والحس والقلب والعقل حيثما اتجهت آناء الليل وأطراف النهار . . ثم شاءت رحمة الله بعباده بعد هذا كله ألا يدعهم لهذا العقل وحده ، فوضع لهذا العقل ميزانا ثابتا في شرائعه التي جاءت بها رسله ، يثوب إليه العقل كلما غم عليه الأمر ، ليتأكد من صواب تقديره أو خطئه عن طريق الميزان الثابت الذي لا تعصف به الأهواء . ولم يجعل الرسل جبارين يلوون أعناق الناس إلى الإيمان ، ولكن مبلغين ليس عليهم إلا البلاغ ، يأمرون بعبادة الله وحده واجتناب كل ما عداه من وثنية وهوى وشهوة وسلطان :
( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) . .
ففريق استجاب : ( فمنهم من هدى الله ) وفريق شرد في طريق الضلال ( ومنهم من حقت عليه الضلالة ) وهذا الفريق وذلك كلاهما لم يخرج على مشيئة الله ، وكلاهما لم يقسره الله قسرا على هدى أو ضلال ، إنما سلك طريقه الذي شاءت إرادة الله أن تجعل إرادته حرة في سلوكه ، بعد ما زودته بمعالم الطريق في نفسه وفي الآفاق .
كذلك ينفي القرآن الكريم بهذا النص وهم الإجبار الذي لوح به المشركون ، والذي يستند إليه كثير من العصاة والمنحرفين . والعقيدة الإسلامية عقيدة ناصعة واضحة في هذه النقطة . فالله يأمر عباده بالخير وينهاهم عن الشر ، ويعاقب المذنبين أحيانا في الدنيا عقوبات ظاهرة يتضح فيها غضبه عليهم . فلا مجال بعد هذا لأن يقال : إن إرادة الله تتدخل لترغمهم على الانحراف ثم يعاقبهم عليه الله ! إنما هم متروكون لاختيار طريقهم وهذه هي إرادة الله . وكل ما يصدر عنهم من خير أو شر . من هدى ومن ضلال . يتم وفق مشيئة الله على هذا المعنى الذي فصلناه .
لما أشار قوله تعالى : { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } [ النحل : 35 ] إلى إقامة الحجة حسبما ذكرناه بين ذلك في هذه الآية ، أي إنه بعث الرسل آمراً بعبادته وتجنب عبادة غيره ، و { الطاغوت } في اللغة كل ما عُبد من دون الله من آدمي راض بذلك ، أو حجر أو خشب ، ثم أخبر أن منهم من اعتبر وهداه الله ونظر ببصيرته ، ومنهم أيضاً من أعرض وكفر { فحقت عليه الضلالة } ، وهي مؤدية إلى النار حتماً ، ومنه من أدته إلى عذاب الله في الدنيا ، ثم أحالهم في علم ذلك على الطلب في الأرض واستقراء الأمم والوقوف على عواقب الكافرين المكذبين .
عطف على جملة { كذلك فعل الذين من قبلهم } [ سورة النحل : 35 ] . وهو تكملة لإبطال شبهة المشركين إبطالاً بطريقة التفصيل بعد الإجمال لزيادة تقرير الحجّة ، فقوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة } بيان لمضمون جملة { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } [ النحل : 35 ] .
وجملة فمنهم من هدى الله إلى آخرها بيان لمضمون جملة { كذلك فعل الذين من قبلهم } .
والمعنى : أن الله بيّن للأمم على ألسنة الرسل عليهم السلام أنّه يأمرهم بعبادته واجتناب عبادة الأصنام ؛ فمن كل أمّة أقوام هداهم الله فصدّقوا وآمنوا ، ومنهم أقوام تمكّنت منهم الضلالة فهلكوا . ومن سار في الأرض رأى دلائل استئصالهم .
و { أن } تفسيرية لجملة { بعثنا } لأنّ البعث يتضمّن معنى القول ، إذ هو بعث للتبليغ .
و { الطاغوت } : جنس ما يعبد من دون الله من الأصنام . وقد يذكرونه بصيغة الجمع ، فيقال : الطواغيت ، وهي الأصنام . وتقدّم عند قوله تعالى : { يؤمنون بالجبت والطاغوت } في سورة النساء ( 51 ) .
وأسندت هداية بعضهم إلى الله مع أنه أمر جميعهم بالهدى تنبيهاً للمشركين على إزالة شبهتهم في قولهم : { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } [ سورة النحل : 35 ] بأن الله بيّن لهم الهُدى ، فاهتداء المهتدين بسبب بيانه ، فهو الهادي لهم .
والتّعبير في جانب الضلالة بلفظ حقّت عليهم دون إسناد الإضلال إلى الله إشارة إلى أن الله لما نهاهم عن الضلالة فقد كان تصميمهم عليها إبقاء لضلالتهم السابقة فحقّت عليهم الضلالة ، أي ثبتت ولم ترتفع .
وفي ذلك إيماء إلى أن بقاء الضلالة من كسب أنفسهم ؛ ولكن ورد في آيات أخرى أن الله يضلّ الضالّين ، كما في قوله : { ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً } [ سورة الأنعام : 125 ] ، وقوله عقب هذا { فإن الله لا يهدي من يضلّ } [ سورة النحل : 37 ] على قراءة الجمهور ، ليحصل من مجموع ذلك علم بأن الله كَوّنَ أسباباً عديدة بعضها جاءٍ من توالد العقول والأمزجة واقتباس بعضها من بعض ، وبعضها تابع للدعوات الضالّة بحيث تهيّأت من اجتماع أمور شتّى لا يحصيها إلا الله ، أسباب تامّة تحول بين الضالّ وبين الهدى . فلا جرم كانت تلك الأسباب هي سبب حقّ الضلالة عليهم ، فباعتبار الأسباب المباشرة كان ضلالهم من حالات أنفسهم ، وباعتبار الأسباب العالية المتوالدة كان ضلالهم من لدن خالق تلك الأسباب وخالق نواميسها في متقادم العصور . فافْهَم .
ثم فرّع على ذلك الأمَر بالسير في الأرض لينظروا آثار الأمم فيروا منها آثار استئصال مخالف لأحوال الفناء المعتاد ، ولذلك كان الاستدلال بها متوقّفاً على السير في الأرض ، ولو كان المراد مطلق الفناء لأمرهم بمشاهدة المقابر وذكر السّلف الأوائل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.