{ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فبين تعالى أن سنته في عبيده إرسال الرسل إليهم ، وأمرهم بعبادة الله ونهيهم عن عبادة الطاغوت .
ثم قال : { فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } والمعنى : أنه تعالى وإن أمر الكل بالإيمان ، ونهى الكل عن الكفر ، إلا أنه تعالى هدى البعض وأضل البعض ، فهذه سنة قديمة لله تعالى مع العباد ، وهي أنه يأمر الكل بالإيمان وينهاهم عن الكفر ، ثم يخلق الإيمان في البعض والكفر في البعض . ولما كانت سنة الله تعالى في هذا المعنى سنة قديمة في حق كل الأنبياء وكل الأمم والملل ، وإنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلها منزها عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين ، كان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجبا للجهل والضلال والبعد عن الله . فثبت أن الله تعالى إنما حكم على هؤلاء باستحقاق الخزي واللعن ، لا لأنهم كذبوا في قولهم : { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } بل لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الأنبياء والرسل وهذا باطل ، فلا جرم استحقوا على هذا الاعتقاد مزيد الذم واللعن . فهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب . وأما من تقدمنا من المتكلمين والمفسرين فقد ذكروا فيه وجها آخر فقالوا : إن المشركين ذكروا هذا الكلام على جهة الاستهزاء كما قال قوم شعيب عليه السلام له :{ إنك لأنت الحليم الرشيد } ولو قالوا ذلك معتقدين لكانوا مؤمنين ، والله أعلم .
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى لما حكى هذه الشبهة قال : { كذلك فعل الذين من قبلهم } أي هؤلاء للكفار أبدا كانوا متمسكين بهذه الشبهة .
ثم قال : { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } أما المعتزلة فقالوا : معناه أن الله تعالى ما منع أحدا من الإيمان وما أوقعه في الكفر ، والرسل ليس عليهم إلا التبليغ ، فلما بلغوا التكاليف وثبت أنه تعالى ما منع أحدا عن الحق كانت هذه الشبهة ساقطة . أما أصحابنا فقالوا : معناه أنه تعالى أمر الرسل بالتبليغ . فهذا التبليغ واجب عليهم ، فأما أن الإيمان هل يحصل أم لا يحصل فذلك لا تعلق للرسول به ، ولكنه تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه .
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا في بيان أن الهدى والضلال من الله بقوله : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وهذا يدل على أنه تعالى كان أبدا في جميع الملل والأمم آمرا بالإيمان وناهيا عن الكفر .
ثم قال : { فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } يعني : فمنهم من هداه الله إلى الإيمان والصدق والحق ، ومنهم من أضله عن الحق وأعماه عن الصدق . وأوقعه في الكفر والضلال ، وهذا يدل على أن أمر الله تعالى لا يوافق إرادته ، بل قد يأمر بالشيء ولا يريده وينهى عن الشيء ويريده كما هو مذهبنا . والحاصل أن المعتزلة يقولون : الأمر والإرادة متطابقان . أما العلم والإرادة فقد يختلفان ، ولفظ هذه الآية صريح في قولنا وهو : أن الأمر بالإيمان عام في حق الكل ، أما إرادة الإيمان فخاصة بالبعض دون البعض .
أجاب الجبائي : بأن المراد : { فمنهم من هدى الله } لنيل ثوابه وجنته : { ومنهم من حقت عليه الضلالة } أي العقاب . قال : وفي صفة قوله : { حقت عليه } دلالة على أنها العذاب دون كلمة الكفر ، لأن الكفر والمعصية لا يجوز وصفهما بأنهما حق . وأيضا قال تعالى بعده : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } وهذه العاقبة هي آثار الهلاك لمن تقدم من الأمم الذين استأصلهم الله تعالى بالعذاب ، وذلك يدل على أن المراد بالضلال المذكور هو عذاب الاستئصال .
وأجاب الكعبي عنه بأنه قال : قوله : { فمنهم من هدى الله } أي من اهتدى فكان في حكم الله مهتديا ، { ومنهم من حقت عليه الضلالة } يريد : من ظهرت ضلالته ، كما يقال للظالم : حق ظلمك وتبين ، ويجوز أن يكون المراد : حق عليهم من يكون المراد : حق عليهم من الله أن يضلهم إذا ضلوا كقوله : { ويضل الله الظالمين } .
واعلم أنا بينا في آيات كثيرة بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والإضلال لا يكونان إلا من الله تعالى فلا فائدة في الإعادة ، وهذه الوجوه المتعسفة والتأويلات المستكرهة قد بينا ضعفها وسقوطها مرارا ، فلا حاجة إلى الإعادة ، والله أعلم .
المسألة الرابعة : في الطاغوت قولان : أحدهما : أن المراد به : اجتنبوا عبادة ما تعبدون من دون الله ، فسمى الكل طاغوتا ، ولا يمتنع أن يكون المراد : اجتنبوا طاعة الشيطان في دعائه لكم .
المسألة الخامسة : قوله تعالى : { ومنهم من حقت عليه الضلالة } يدل على مذهبنا ، لأنه تعالى لما أخبر عنه أنه حقت عليه الضلالة امتنع أن لا يصدر منه الضلالة ، وإلا لانقلب خبر الله الصدق كذبا ، وذلك محال . ومستلزم المحال محال ، فكان عدم الضلالة منهم محالا ، ووجود الضلالة منهم واجبا عقلا ، فهذه الآية دالة على صحة مذهبنا في هذه الوجوه الكثيرة ، والله أعلم . ونظائر هذه الآية كثيرة منها قوله : { فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } وقوله : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون } وقوله : { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون } .
ثم قال تعالى : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } والمعنى : سيروا في الأرض معتبرين لتعرفوا أن العذاب نازل بكم كما نزل بهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.