مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} (36)

{ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فبين تعالى أن سنته في عبيده إرسال الرسل إليهم ، وأمرهم بعبادة الله ونهيهم عن عبادة الطاغوت .

ثم قال : { فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } والمعنى : أنه تعالى وإن أمر الكل بالإيمان ، ونهى الكل عن الكفر ، إلا أنه تعالى هدى البعض وأضل البعض ، فهذه سنة قديمة لله تعالى مع العباد ، وهي أنه يأمر الكل بالإيمان وينهاهم عن الكفر ، ثم يخلق الإيمان في البعض والكفر في البعض . ولما كانت سنة الله تعالى في هذا المعنى سنة قديمة في حق كل الأنبياء وكل الأمم والملل ، وإنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلها منزها عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين ، كان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجبا للجهل والضلال والبعد عن الله . فثبت أن الله تعالى إنما حكم على هؤلاء باستحقاق الخزي واللعن ، لا لأنهم كذبوا في قولهم : { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } بل لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الأنبياء والرسل وهذا باطل ، فلا جرم استحقوا على هذا الاعتقاد مزيد الذم واللعن . فهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب . وأما من تقدمنا من المتكلمين والمفسرين فقد ذكروا فيه وجها آخر فقالوا : إن المشركين ذكروا هذا الكلام على جهة الاستهزاء كما قال قوم شعيب عليه السلام له :{ إنك لأنت الحليم الرشيد } ولو قالوا ذلك معتقدين لكانوا مؤمنين ، والله أعلم .

المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى لما حكى هذه الشبهة قال : { كذلك فعل الذين من قبلهم } أي هؤلاء للكفار أبدا كانوا متمسكين بهذه الشبهة .

ثم قال : { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } أما المعتزلة فقالوا : معناه أن الله تعالى ما منع أحدا من الإيمان وما أوقعه في الكفر ، والرسل ليس عليهم إلا التبليغ ، فلما بلغوا التكاليف وثبت أنه تعالى ما منع أحدا عن الحق كانت هذه الشبهة ساقطة . أما أصحابنا فقالوا : معناه أنه تعالى أمر الرسل بالتبليغ . فهذا التبليغ واجب عليهم ، فأما أن الإيمان هل يحصل أم لا يحصل فذلك لا تعلق للرسول به ، ولكنه تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه .

المسألة الثالثة : احتج أصحابنا في بيان أن الهدى والضلال من الله بقوله : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وهذا يدل على أنه تعالى كان أبدا في جميع الملل والأمم آمرا بالإيمان وناهيا عن الكفر .

ثم قال : { فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } يعني : فمنهم من هداه الله إلى الإيمان والصدق والحق ، ومنهم من أضله عن الحق وأعماه عن الصدق . وأوقعه في الكفر والضلال ، وهذا يدل على أن أمر الله تعالى لا يوافق إرادته ، بل قد يأمر بالشيء ولا يريده وينهى عن الشيء ويريده كما هو مذهبنا . والحاصل أن المعتزلة يقولون : الأمر والإرادة متطابقان . أما العلم والإرادة فقد يختلفان ، ولفظ هذه الآية صريح في قولنا وهو : أن الأمر بالإيمان عام في حق الكل ، أما إرادة الإيمان فخاصة بالبعض دون البعض .

أجاب الجبائي : بأن المراد : { فمنهم من هدى الله } لنيل ثوابه وجنته : { ومنهم من حقت عليه الضلالة } أي العقاب . قال : وفي صفة قوله : { حقت عليه } دلالة على أنها العذاب دون كلمة الكفر ، لأن الكفر والمعصية لا يجوز وصفهما بأنهما حق . وأيضا قال تعالى بعده : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } وهذه العاقبة هي آثار الهلاك لمن تقدم من الأمم الذين استأصلهم الله تعالى بالعذاب ، وذلك يدل على أن المراد بالضلال المذكور هو عذاب الاستئصال .

وأجاب الكعبي عنه بأنه قال : قوله : { فمنهم من هدى الله } أي من اهتدى فكان في حكم الله مهتديا ، { ومنهم من حقت عليه الضلالة } يريد : من ظهرت ضلالته ، كما يقال للظالم : حق ظلمك وتبين ، ويجوز أن يكون المراد : حق عليهم من يكون المراد : حق عليهم من الله أن يضلهم إذا ضلوا كقوله : { ويضل الله الظالمين } .

واعلم أنا بينا في آيات كثيرة بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والإضلال لا يكونان إلا من الله تعالى فلا فائدة في الإعادة ، وهذه الوجوه المتعسفة والتأويلات المستكرهة قد بينا ضعفها وسقوطها مرارا ، فلا حاجة إلى الإعادة ، والله أعلم .

المسألة الرابعة : في الطاغوت قولان : أحدهما : أن المراد به : اجتنبوا عبادة ما تعبدون من دون الله ، فسمى الكل طاغوتا ، ولا يمتنع أن يكون المراد : اجتنبوا طاعة الشيطان في دعائه لكم .

المسألة الخامسة : قوله تعالى : { ومنهم من حقت عليه الضلالة } يدل على مذهبنا ، لأنه تعالى لما أخبر عنه أنه حقت عليه الضلالة امتنع أن لا يصدر منه الضلالة ، وإلا لانقلب خبر الله الصدق كذبا ، وذلك محال . ومستلزم المحال محال ، فكان عدم الضلالة منهم محالا ، ووجود الضلالة منهم واجبا عقلا ، فهذه الآية دالة على صحة مذهبنا في هذه الوجوه الكثيرة ، والله أعلم . ونظائر هذه الآية كثيرة منها قوله : { فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } وقوله : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون } وقوله : { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون } .

ثم قال تعالى : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } والمعنى : سيروا في الأرض معتبرين لتعرفوا أن العذاب نازل بكم كما نزل بهم .