إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} (36)

{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً } تحقيقٌ لكيفية تعلقِ مشيئتِه تعالى بأفعال العبادِ بعد بيانِ أن الإلجاءَ ليس من وظائف الرسالةِ ولا من باب المشيئةِ المتعلقةِ بما يدور عليه الثوابُ والعقاب من الأفعال الاختياريةِ لهم ، أي بعثنا في كل أمة من الأمم الخالية رسولاً خاصاً بهم { أَنِ اعبدوا الله } يجوز أن تكون ( أن ) مفسرةً لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدريةً ، أي بعثنا بأن اعبدوا الله وحده { واجتنبوا الطاغوت } هو الشيطانُ وكلُّ ما يدعو إلى الضلالة { فَمِنْهُمْ } أي من تلك الأمم ، والفاء فصيحة ، أي فبلَّغوا ما بُعثوا به من الأمر بعبادة الله وحده واجتنابِ الطاغوت فتفرقوا فمنهم { مَّنْ هَدَى الله } إلى الحق الذي هو عبادتُه واجتنابُ الطاغوت بعد صَرْفِ قدرتهم واختيارِهم الجزئيّ إلى تحصيله { وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } أي وجبت وثبتت إلى حين الموت لعِناده وإصرارِه عليها وعدمِ صرفِ قدرته إلى تحصيل الحق ، وتغيير الأسلوبِ للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارِهم كقوله تعالى : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } فلم يكن كلٌّ من مشيئة الهدايةِ وعدمِها إلا حسبما حصل منهم من التوجهُ إلى الحق وعدمِه ، لا بطريق القسرِ والإلجاءِ حتى يُستدلَ بعدمهما على عدم تعلقِ مشيئتِه تعالى بعبادتهم له تعالى وحده { فَسِيرُواْ } يا معشرَ قريش { في الأرض فانظروا } في أكنافها { كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } من عاد وثمودَ ومن سار سيرتَهم ممن حقت عليهم الضلالةُ لعلكم تَعتبرون حين تشاهدون في منازلهم وديارهم آثارَ الهلاك والعذابِ . وترتيبُ الأمرِ بالسير على مجرد الإخبارِ بثبوت الضلالةِ عليهم من غير إخبارٍ بحلول العذابِ للإيذان بأنه غنيٌّ عن البيان وأنْ ليس الخبرُ كالعِيان ، وترتيبُ النظر على السير لما أنه بعده وأن مَلاك الأمر في تلك العاقبة هو التكذيبُ والتعلّلُ بأنه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء .