قوله تعالى : { قالوا يا ذا القرنين } فإن قيل : كيف قالوا ذلك وهم لا يفهمون ؟ قيل : كلم عنهم مترجم ، دليله : قراءة ابن مسعود : لا يكادون يفقهون قولاً قال الذين من دونهم يا ذا القرنين . { إن يأجوج ومأجوج } ، قرأهما عاصم مهموزين ، والآخرون بغير همز وهما لغتان أصلهما من أجيج النار ، وهو ضوؤها وشررها ، شبهوا به لكثرتهم وشدتهم . وقيل : بالهمزة من شدة أجيج النار ، ويترك الهمز اسمان أعجميان ، مثل : هاروت وماروت ، وهم من أولاد يافث بن نوح . قال الضحاك : هم جيل من الترك . قال السدي : الترك سرية من يأجوج ومأجوج ، خرجت فضرب ذو القرنين السد ، فبقيت خارجة ، فجميع الترك منهم . وعن قتادة : أنهم اثنان وعشرون قبيلة ، بنى ذو القرنين السد على إحدى وعشرين قبيلة فبقيت واحدة فهم الترك ، سموا الترك لأنهم تركوا خارجين . قال أهل التواريخ : أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب والعجم والروم ، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ، ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ، ويأجوج ومأجوج ، قال ابن عباس في رواية عطاء : هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء . روي عن حذيفة مرفوعاً : إن يأجوج أمة ، ومأجوج أمة ، كل أمة أربع آلاف أمة ، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه ، كلهم قد حمل السلاح وهم من ولد آدم ، يسيرون إلى خراب الدنيا . وقيل : هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز ، شجر الشام ، طوله عشرون ومائة ذراع في السماء ، وصنف منهم عرضه وطوله سواء ، عشرون ومائة ذراع ، وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد ، وصنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنه ويلتحف الأخرى ، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ، ومن مات منهم أكلوه ، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان ، يشربون أنهار المشارق وبحيرة طبرية وعن علي أنه قال : منهم من طوله شبر ، ومنهم من هو مفرط في الطول . وقال كعب : هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب ، فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم . وذكر وهب بن منبه : أن ذا القرنين كان رجلاً من الروم ابن عجوز ، فلما بلغ كان عبداً صالحاً . قال الله له : إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم ، منهم أمتان بينهما طول الأرض : إحداهما عند مغرب الشمس ، يقال لها ناسك ، والأخرى عند مطلعها ، يقال لها منسك ، وأمتان بينهما عرض الأرض ، إحداهما : في القطر الأيمن ، يقال لها : هاويل ، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج ، فقال ذو القرنين : بأي قوة أكابرهم ؟ وبأي جمع أكاثرهم ؟ وبأي لسان أناطقهم ؟ قال الله عز وجل : إني سأوطقك وأبسط لك لسانك ، وأشد عضدك فلا يهولنك شيء ، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك ، يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك ، فانطلق ، حتى أتى مغرب الشمس فوجد جمعاً وعدداً لا يحصيه إلا الله فكابرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد ، فدعاهم إلى الله وعبادته ، فمنهم من آمن ، ومنهم من صد عنه ، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب جنداً عظيماً فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك ، ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس ، فعمل فيها وجند منها جنوداً كفعله في الأمتين ، ثم أخذ ناحية الأرض اليسرى فأتى تاويل فعمل فيها كعمله فيما قبلها ، ثم عمد إلى الأمم التي في وسط الأرض ، فلما دنا مما يلي منقطع الترك نحو المشرق ، قالت له أمة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقاً أشباه البهائم يفترسون الدواب والوحوش ، لهم أنياب وأضراس كالسباع ، يأكلون الحيات والعقارب ، وكل ذي روح ، خلق في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم ، ولا شك أنهم سيملؤون الأرض ويظهرون عليها ويفسدون فيها ، " فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً ، قال ما مكني فيه ربي خير " ، قال : أعدوا إليّ الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم ، فانطلق حتى توسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا ، لهم مخاليب كالأظفار في أيدينا وأنياب وأضراس كالسباع ، ولهم هدب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ويتقون به من الحر والبرد ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى يصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى ، يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا ، فلما عاين ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين ، فقاس ما بينهما ، فحفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل حشوه الصخر وطينه النحاس ، يذاب فيصب عليه ، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض . قوله تعالى : { قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } ، قال الكلبي : فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه ولا شيئاً يابساً إلا احتملوه ، وأدخلوه أرضهم ، وقد لقوا منهم أذى شديداً وقتلاً . وقيل : فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس . وقيل : معناه أنهم سيفسدون في الأرض عند خروجهم . { فهل نجعل لك خرجاً } ، قرأ حمزة و الكسائي ( خراجاً ) بالألف ، وقرأ الآخرون ( خرجا ) بغير ألف ، وهما لغتان بمعنى واحد أي : جعلاً وأجراً من أموالنا . وقال أبو عمرو : الخرج ما تبرعت به ، والخراج : ما لزمك أداؤه . وقيل : الخراج : على الأرض ، والخرج : على الرقاب . يقال : أد خرج رأسك وخراج مدينتك . { على أن تجعل بيننا وبينهم سداً } أي حاجزا ً ، فلا يصلون إلينا .
والضمير في { قالوا } : للقوم الذين من دون السدين ، و { يأجوج ومأجوج } : قبيلتان من بني آدم لكنهم ينقسمون أنواعاً كثيرة ، اختلف الناس في عددها ، فاختصرت ذكره لعدم الصحة ، وفي خلقهم تشويه : منهم المفرط الطول ، ومنهم مفرط القصر ، على قدر الشبر ، وأقل ، وأكثر ، ومنهم صنف : عظام الآذان ، الأذن الواحدة وبرة والأخرى زعراء ، ُيَصِّيف بالواحدة ويشتو في الأخرى وهي تعمه ، واختلفت القراءة فقرأ عاصم وحده «يأجوج ومأجوج » بالهمز وقرأ الباقون : «ياجوج وماجوج » بغير همزة فأما من همز ، فاختلف : فقالت فرقة : هو أعجمي علتاه في منع الصرف : العجمة والتأنيث ، وقالت فرقة : هو معرب من أجج وأج ، علتاه في منع الصرف التعريف والتأنيث ، وأما من لم يهمز فإما أن يراهما اسمين أعجميين ، وإما أن يسهل من الهمز ، وقرأ رؤبة بن العجاج : «آجوج ومأجوج » بهمزة بدل الياء ، واختلف الناس في «إفسادهم » الذي وصفوهم به ، فقال سعيد بن عبد العزيز : «إفسادهم » : أكل بني آدم ، وقالت فرقة «إفسادهم » إنما عندهم توقعاً ، أي سيفسدون ، فطلبوا وجه التحرز منهم ، وقالت فرقة : «إفسادهم » هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر ، وهذا أظهر الأقوال ، لأن الطائفة الشاكية إنما تشكت من ضرر قد نالها ، وقولهم { فهل نجعل لك خرجاً } استفهام على جهة حسن الأدب ، و «الخرج » : المجبي ، وهو الخراج ، وقال فوم : الخرج : المال يخرج مرة ، والخراج المجبي المتكرر ، فعرضوا عليه أن يجمعوا له أموالاً يقيم بها أمر السد ، قال ابن عباس { خرجاً } : أجراً وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «خرجاً » وقرأ حمزة والكسائي «خراجاً » وهي قراءة طلحة بن مصرف والأعمش والحسن بخلاف عنه وروي في أمر { يأجوج ومأجوج } أن أرزاقهم هي من التنين يمطرونها ، ونحو هذا مما لم يصح ، وروي أيضاً أن الذكر منهم لا يموت حتى يولد له ألف ، والأنثى لا تموت حتى تخرج من بطنها ألف ، فهم لذلك إذا بلغوا العدد ماتوا ، ويروى أنهم يتناكحون في الطرق كالبهائم ، وأخبارهم تضيق بها الصحف ، فاختصرتها لضعف صحتها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 92]
يقول تعالى ذكره: ثم سار طرقا ومنازل، وسلك سبلاً "حَتَى إذَا بَلَغَ بينَ السّدّيْنِ"...
والسَّد والسُّد جميعا: الحاجز بين الشيئين، وهما ههنا فيما ذُكر جبلان سدّ ما بينهما، فردم ذو القرنين حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم، ليقطع مادّ غوائلهم وعيثهم عنهم...
وقوله:"وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْما لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً "يقول عزّ ذكره: وجد من دون السدّين قوما لا يكادون يفقهون قول القائل سوى كلامهم.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله "يَفْقَهُونَ"؛
فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة "يَفْقَهُونَ قَوْلاً" بفتح القاف والياء، من فقَه الرجل يفقه فقها. وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة «يُفْقِهُونَ قَوْلاً» بضمّ الياء وكسر القاف: من أفقهت فلانا كذا أفقهه إفقاها: إذا فهمته ذلك.
والصواب عندي من القول في ذلك، أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، غير دافعة إحداهما الأخرى وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولاً لغيرهم عنهم، فيكون صوابا القراءة بذلك. وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل: إما بألسنتهم، وإما بمنطقهم، فتكون القراءة بذلك أيضا صوابا.
وقوله: "إنّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ"...
اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتين الأمتين؛ فقال بعضهم: كانوا يأكلون الناس...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون... الذين قالوا لذي القرنين "إنّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ" إنما أعلموه خوفَهم ما يُحدث منهم من الإفساد في الأرض، لا أنهم شَكَوا منهم فسادا كان منهم فيهم أو في غيرهم، والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد في الأرض، ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنين السدّ الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفساد.
فإذا كان ذلك كذلك بالذي بيّنا، فالصحيح من تأويل قوله "إنّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ": إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض.
وقوله: "فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجا" اختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأته عامّة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: "فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجا" كأنهم نحوا به نحو المصدر من خَرْج الرأس، وذلك جعله. وقرأته عامّة قرّاء الكوفيين: «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا» بالألف، وكأنهم نحوا به نحو الاسم، وعنوا به أجرة على بنائك لنا سدّا بيننا وبين هؤلاء القوم.
وأولى القراءتين في ذلك عدنا بالصواب قراءة من قرأه: «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا» بالألف، لأن القوم فيما ذُكر عنهم، إنما عرضوا على ذي القرنين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السدّ، وقد بين ذلك بقوله: "فَأعِينُونِي بقُوّةٍ أجْعَلْ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ رَدْما" ولم يعرضوا عليه جزية رؤوسهم. والخراج عند العرب: هو الغلة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقالت فرقة: «إفسادُهم» هو الظُّلْمُ والغَشْمُ... وسائرُ وجوهِ الإفسادِ المعلومِ من البشر...
{فَهَلْ نَجْعَلُ لكَ خَرْجاً} استفهامٌ على جِهة حُسْنِ الأدبِ... فعَرَضوا عليه أن يَجمَعوا له أموالاً يُقيم بها أمْرَ السّدِّ...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْخَرْجُ: الْجَزَاءُ وَالْأُجْرَةُ، وَكَانَ مَلِكًا يَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ، وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ جَزَاءً فِي أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ مَا يَجِدُونَهُ من عَادِيَةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَعَلَى الْمَلِكِ فَرْضُ أَنْ يَقُومَ بِحِمَايَةِ الْخَلْقِ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهِمْ، وَسَدِّ فُرْجَتِهِمْ، وَإِصْلَاحِ ثَغْرِهِمْ من أَمْوَالِهِمْ الَّتِي تَفِيءُ عَلَيْهِمْ، وَحُقُوقِهِمْ الَّتِي يَجْمَعُهَا خَزَنَتُهُمْ تَحْتَ يَدِهِ وَنَظَرِهِ، حَتَّى لَوْ أَكْلَتهَا الْحُقُوقُ، وَأَنْفَدَتْهَا الْمُؤَنُ، وَاسْتَوْفَتْهَا الْعَوَارِضُ، لَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبْرُ ذَلِكَ من أَمْوَالِهِمْ، وَعَلَيْهِ حُسْنُ النَّظَرِ لَهُمْ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
الْأَوَّلُ: أَلَّا يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ عَلَيْهِمْ.
الثَّانِي: أَنْ يَبْدَأَ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ فَيُعِينُهُمْ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُسَوِّيَ فِي الْعَطَاءِ بَيْنَهُمْ عَلَى مِقْدَارِ مَنَازِلِهِمْ، فَإِذَا فَنِيَتْ بَعْدَ هَذَا ذَخَائِرُ الْخِزَانَةِ وَبَقِيَتْ صِفْرًا فَأَطْلَعَتْ الْحَوَادِثُ أَمْرًا بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ قَبْلَ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ فَأَمْوَالُهُمْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَتُصْرَفُ بِأَحْسَنِ تَدْبِيرٍ. فَهَذَا ذُو الْقَرْنَيْنِ لَمَّا عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَالَ قَالَ: لَسْت أَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَحْتَاجُ إلَيْكُمْ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ، أَيْ اخْدِمُوا بِأَنْفُسِكُمْ مَعِي، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ عِنْدِي وَالرِّجَالَ عِنْدَكُمْ؛ وَرَأَى أَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُغْنِي دُونَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إنْ أَخَذُوهَا أُجْرَةً نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَعَادَ عَلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ، فَكَانَ التَّطَوُّعُ بِخِدْمَةِ الْأَبْدَانِ أَوْلَى. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الْفَيْءِ وَالْخَرَاجِ وَالْأَمْوَالِ من شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا شَافِيًا، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ من الْأَحْكَامِ، وَتَمَامُهُ هُنَالِكَ. وَضَبْطُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَعْرِضُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْمَالُ جَهْرًا لَا سِرًّا، وَيُنْفَقُ بِالْعَدْلِ لَا بِالِاسْتِئْثَارِ، وَبِرَأْيِ الْجَمَاعَةِ لَا بِالِاسْتِبْدَادِ بِالرَّأْيِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ...
{قالُوا يا ذا القَرْنَيْنِ إنّ يأجوجَ ومأجوجَ مُفْسِدونَ في الأرضِ} فإنْ قيل: كيف فَهِمَ ذو القرنين منهم هذا الكلامَ بعد أن وَصَفَهم اللهُ بقوله: {لا يَكادونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} والجواب: أن نقول كاد فيه قولان:
الأول: أن إثباته نفيٌ، ونفيه إثباتٌ، فقوله: {لا يَكادونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} لا يدلّ على أنهم لا يَفهمون شيئا، بل يدل على أنهم قد يَفهمون على مشقّةٍ وصعوبةٍ. والقول الثاني: أن كاد معناه المُقارَبة، وعلى هذا القولِ فقولُه: {لا يَكادونَ يَفْقَهون قَوْلاً} أي لا يَعْلَمون وليس لهم قُرْبٌ مِن أنْ يَفْقَهوا. وعلى هذا القول فلا بُدَّ من إضمارٍ، وهو أن يقال: لا يكادون يَفهمونه إلا بَعْدَ تقريبٍ ومشقةٍ مِن إشارةٍ ونحوِها، وهذه الآية تَصْلُحُ أن يُحْتَجَّ بها على صحة القولِ الأوّلِ في تفسير كاد...
{فهل نَجْعَلُ لكَ خَرْجاً على أنْ تَجْعَلَ بينَنا وبينَهم سُدّاً}... قيل: الخرج بغير ألف هو الجُعْلُ لأن الناس يُخْرِج كلُّ واحدٍ منهم شيئاً منه فيُخْرِج هذا أشياءَ وهذا أشياءَ...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ودَلَّ ذلك على عدم اقتدارهم بأنفُسهم على بُنْيان السّدِّ، وعَرفوا اقتدارَ ذي القرنين عليه، فبَذَلوا له أُجْرةً، لِيَفعل ذلك، وذَكروا له السببَ الداعيَ، وهو: إفسادُهم في الأرض، فلم يكن ذو القرنين ذا طَمَعٍ، ولا رغبةٍ في الدنيا، ولا تاركاً لإصلاح أحوال الرّعِيّة، بل كان قَصْدُه الإصلاحَ، فلذلك أجاب طَلِبَتَهم لِما فيها مِن المصلحة، ولم يأخذ منهم أجرةً، وشَكَرَ ربَّه على تمكينه واقتدارِه، فقال لهم: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعندما وَجَدوه فاتِحاً قويّاً، وتَوَسَّموا فيه القدرةَ والصّلاحَ.. عَرَضوا عليه أن يُقيم لهم سدّاً في وجه يأجوج ومأجوج الذين يُهاجِمونهم من وراء الحاجزَيْن، ويُغِيرون عليهم من ذلك المَمَرّ، فيَعِيثون في أرضهم فساداً...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {قَالُوا} استئناف للمحاورة. وقد بينا في غير موضع أن جمل حكاية القول في المحاورات لا تقترن بحرف العطف كما في قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] الآية. فعلى أول الاحتمالين في معنى {لا يَكَادونَ يَفْقَهونَ قَولاً} أنهم لا يدركون ما يطلب منهم من طاعة ونظام ومع ذلك يعربون عما في نفوسهم من الأغراض مثل إعراب الأطفال، وعلى الاحتمال الثاني أنهم أمكنهم أن يفهم مرادهم بعد لأي.
وافتتاحهم الكلام بالنداء أنهم نادوه نداء المستغيثين المضطرين، ونداؤهم إياه بلقب ذي القرنين يدل على أنه مشهور بمعنى ذلك اللقب بين الأمم المتاخمة لبلاده.
وياجوج وماجوج أمة كثيرة العدد فيحتمل أن الواو الواقعة بين الاسمين حرف عطف فتكون أمة ذات شعبين...
والاستفهام في قوله {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ}، مستعمل في العَرض.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولكنهم مع أنهم لا يَعرفون الشرائعَ، ولا نُظُمَ الأحكام يَرَوْنَ المَضَارَّ تتوالى عليهم مِن جِيرانٍ أشَدَّ جَهالةً، ولا يَخضَعون لِنظامٍ، ولا يُقِرّون حُقوقاً، ولا يَخضعون لِواجبٍ، وهم يأجوج ومأجوج، وهم يَسْكُنون في مناطق منغوليا ومنشوريا، أو هم منهم، ولذا لَمّا وَجدوا ذا القرنين وما يَحْمِل معه مِن نُظُمٍ إصلاحيّةٍ مانعةٍ من الظلم دافعةٍ للفساد. {قالوا يا ذا القرنَيْن إنّ يَأجوجَ ومَأجوجَ مُفْسِدونَ في الأرض فهَلْ نَجْعَلُ لكَ خَرْجاً على أنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وبَيْنَهم سَدّاً 94}...
نادَوْا ذا القرنين بهذا اللقب مما يَدلّ على أنه كان... مُتطامِناً قريباً، وذلك أَوَّلُ أَماراتِ الحاكم الصالح بأنْ يكون قريباً منهم يَأْلَفُهم، ويَألَفونه لا يكون مُتَحَجِّباً دونَهم، حتى لا يَصعُب على صاحب الحقِّ الوصولُ إليه...
{فهَلْ نَجْعَلُ لكَ خَرْجاً على أنْ تَجْعَلَ بينَنا وبينَهم سدّاً}، الخَرْجُ قالوا إنه ضرائبُ يَفرِضونها على أنفُسهم، وعَبّروا عن الضرائب بالخَرْج لأنها تَخرُج من أيديهم إليه، ولأنه يكون كخَراج الأرض أو الأنفُس على حسب ما يراه هو، إمّا أن يأخذ الضرائبَ على النفوس أو المالِ أو العَقارِ... {فَهل نَجْعَلُ لكَ خَرْجاً}، أي هل يَسُوغُ أنْ تَجعَل لكَ خَرْجاً، والفاء للإفصاح عن شرطٍ مُقَدَّرٍ، أي إذا كانوا مُفْسدين فاجْعَلْ لكَ خَرْجاً على أنْ تَبْنِيَ لنا سدّاً...
{قالُوا يا ذا القرنين}... يبدو أنه خاطَبَهم بلُغة الإشارة، واحتالَ على أن يَجعل من حركاتهم كلاماً يَفهمُه ويُنَفِّذ لهم ما يريدون، ولاشك أن هذه العملية احتاجتْ منه جهداً وصبراً حتى يُفْهِمَهم ويَفْهَمَ منهم، وإلا فقد كان في وسْعه أن ينصرِف عنهم بحُجّةِ أنهم لا يتكلَّمون ولا يتفاهَمون. فهو مثالٌ للرَّجل المؤمن الحريصِ على عمل الخير، والذي لا يَأْلُو جهداً في نفْع القوم وهدايتهِم...
ولها قواعد ودارسون يتفاهمون بها، كما نتفاهم نحن الآن مع الأخرس.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يمكن أن نستفيد مِن الآية الشريفة أنَّ تلك المجموعة مِن الناس كانت ذات وضع جيِّد مِن حيث الإِمكانات الاقتصادية، إِلاَّ أنّهم كانوا ضعفاء في المجال الصناعي والفكري والتخطيطي، لذا فقد تقبلوا بتكاليف بناء هذا السد المهم، بشرط أن يتكفل ذو القرنين ببنائه وهندسته...