( ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون . حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم : لم شهدتم علينا ? قالوا : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة ، وإليه ترجعون . وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون . وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم ، فأصبحتم من الخاسرين . فإن يصبروا فالنار مثوى لهم . وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين . . )
إنها المفاجأة الهائلة في الموقف العصيب . وسلطان الله الذي تطيعه جوارحهم وتستجيب . وهم يوصمون بأنهم أعداء الله . فما مصير أعداء الله ? إنهم يحشرون ويجمع أولهم على آخرهم وآخرهم على أولهم كالقطيع ! إلى أين ? إلى النار ! حتى إذا كانوا حيالها وقام الحساب ، إذا شهود عليهم لم يكونوا لهم في حساب . إن ألسنتهم معقودة لا تنطق ، وقد كانت تكذب وتفتري وتستهزىء . وإن أسماعهم وأبصارهم وجلودهم تخرج عليهم ، لتستجيب لربها طائعة مستسلمة ، تروي عنهم ما حسبوه سراً . فقد يستترون من الله . ويظنون أنه لا يراهم وهم يتخفون بنواياهم ، ويتخفون بجرائمهم . ولم يكونوا ليستخفوا من أبصارهم وأسماعهم وجلودهم . وكيف وهي معهم ? بل كيف وهي أبعاضهم ? ! وها هي ذي تفضح ما حسبوه مستوراً عن الخلق أجمعين . وعن الله رب العالمين !
يا للمفاجأة بسلطان الله الخفي ، يغلبهم على أبعاضهم فتلبي وتستجيب !
( وقالوا لجلودهم : لم شهدتم علينا ? ) . .
فإذا هي تجبههم بالحقيقة التي خفيت عليهم في غير مواربة ولا مجاملة :
( قالوا : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء )?
أليس هو الذي جعل الألسنة هي الناطقة ? وإنه لقادر على أن يجعل سواها . وقد أنطق كل شيء فهو اليوم يتحدث وينطق ويبين .
( وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون ) . .
فإليه المنشأ وإليه المصير ، ولا مفر من قبضته في الأول وفي الأخير .
{ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا } سؤال توبيخ أو تعجب ، ولعل المراد به نفس التعجب . { وقالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } أي ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ، أو ليس نطقنا بعجب من قدرة الله الذي أنطق كل حي ، ولو أول الجواب والنطق بدلالة الحال بقي الشيء عاما في الموجودات الممكنة . { وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون } يحتمل أن يكون تمام كلام الجلود وأن يكون استئنافا .
ثم ذكر الله تعالى محاورتهم لجلودهم في قولهم : { لم شهدتم علينا } أي وعذابنا عذاب لكم .
واختلف الناس ما المراد بالجلود ؟ فقال جمهور الناس : هي الجلود المعروفة . وقال عبد الله بن أبي جعفر : كنى بالجلود عن الفروج ، وإياها أراد . وأخبر تعالى أن الجلود ترد جوابهم بأن الله الخالق المبدئ المعيد هو الذي أنطقهم .
وقوله : { أنطق كل شيء } يريد كل ناطق مما هي فيه عادة أو خرق عادة .
وإنما قالوا لجلودهم { لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا } دون أن يقولوه لسمعهم وأبصارهم لأن الجلود مواجهة لهم يتوجهون إليها بالملامة . وإجراء ضمائر السمع والبصر والجلود بصيغتي ضمير جمع العقلاء لأن التحاور معها صيرها بحالة العقلاء يومئذٍ . ومن غريب التفسير قول من زعموا أن الجلود أريد بها الفروج ونسب هذا للسدي والفراء ، وهو تعنت في محمل الآية لا داعي إليه بحال ، وعلى هذا التفسير بنى أحمد الجرجاني في كتاب « كنايات الأدباء » فعدَّ الجلود من الكنايات عن الفُروج وعزاه لأهل التفسير فجازف في التعبير .
والاستفهام في قولهم : { لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا } مستعمل في الملامة وهم يحسبون أن جلودهم لكونها جزءاً منهم لا يحق لها شهادتها عليهم لأنها تجر العذاب إليها . واستعمال الاستفهام عن العلة في معرض التوبيخ كثير كقوله تعالى : { فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } [ آل عمران : 66 ] .
وقول الجلود { أنطَقَنَا الله } اعتذار بأن الشهادة جرت منها بغير اختيار . وهذا النطق من خوارق العادات كما هو شأن العالم الأخروي . وقولهم : { الَّذِي أنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } تمجيد لله تعالى ولا علاقة له بالاعتذار ، والمعنى : الذي أنطق كل شيء له نطق من الحيوان واختلاف دلالة أصواتها على وجدانها ، فعموم { كُلَّ شَيْءٍ } مخصوص بالعرف .
{ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ ترجعون }
يجوز أن تكون هذه الجملة والتي عطفت عليها من تمام ما أنطق الله به جلودهم قُتفِّيَ على مقالتها تشهيراً بخطئهم في إنكارهم البعث والمصير إلى الله لزيادة التنديم والتحسير ، وهذا ظاهر كون الواو في أول الجملة واو العطف فيكون التعبير بالفعل المضارع في قوله : { وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ } لاستحضار حالتهم فإنهم ساعتئذٍ في قبضة تصرف الله مباشرة . وأما رجوعهم بمعنى البعث فإنه قد مضى بالنسبة لوقت إحضارهم عند جهنم ، أو يكون المراد بالرجوع الرجوع إلى ما ينتظرهم من العذاب .
ويجوز أن تكون هذه الجملة وما بعدها اعتراضاً بين جملة { وَيَوْمَ نُحْشَرُ أعْدَاءَ الله إلى النَّارِ } وجملة { فَإنْ يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوىً لَهُم } [ فصلت : 24 ] موجهاً من جانب الله تعالى إلى المشركين الأحياء لتذكيرهم بالبعث عقب ذكر حالهم في القيامة انتهازاً لفرصة الموعظة السابقة عند تأثرهم بسماعها .
ويكون فعل { تُرْجَعُونَ } مستعملاً في الاستقبال على أصله ، والكلام استدلال على إمكان البعث . قال تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] . وتقديم متعلق { تُرْجَعُونَ } عليه للاهتمام ورعاية الفاصلة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.