قوله عز وجل { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } يشبه بعضه بعضاً في الحسن ، ويصدق بعضه بعضاً ليس فيه تناقض ولا اختلاف { مثاني } يثنى فيه ذكر الوعد والوعيد ، والأمر والنهي ، والأخبار والأحكام . { تقشعر } تضطرب وتشمئز { منه جلود الذين يخشون ربهم } والاقشعرار تغير في جلد الإنسان عند الوجل والخوف وقيل : المراد من الجلود القلوب ، أي : قلوب الذين يخشون ربهم { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } أي : لذكر الله ، أي : إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله ، وإذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم ، كما قال الله تعالى :{ ألا بذكر الله تطمئن القلوب } ( الرعد-28 ) . وحقيقة المعنى : أن قلوبهم تقشعر عند الخوف ، وتلين عند الرجاء .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد ، حدثنا موسى بن محمد بن علي ، حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل ، حدثنا يحيى ابن عبد الحميد الحمامي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن يزيد بن الهادي ، عن محمد ابن إبراهيم التيمي ، عن أم كلثوم بنت عمر ، عن العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه ، كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد بهذا الإسناد ، وقال : " إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار " . قال قتادة : هذا نعت أولياء الله نعتهم بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم . إنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا شيبة ، حدثنا حمدان بن داود ، حدثنا سلمة بن شيبة ، حدثنا خلف بن سلمة ، حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن عبد الله بن عروة بن الزبير ، قال : قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر : كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن ؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله عز وجل . تدمع أعينهم ، وتقشعر جلودهم . قال : فقلت لها : إن ناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشياً عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . وبه عن سلمة ، حدثنا يحيى ، بن يحيى ، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي ، أن ابن عمر مر برجل من أهل العراق ساقطا ، ً فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط ، قال ابن عمر : إنا لنخشى الله وما نسقط . وقال ابن عمر : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ، ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن ، فقال : بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطاً رجليه ، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره ، فإن رمى بنفسه فهو صادق . { ذلك } يعني : أحسن الحديث .
كذلك تصور الآية الثانية هيئة تلقي المؤمنين لهذا القرآن . هذا الكتاب المتناسق الذي لا اختلاف في طبيعته ولا في اتجاهاته ، ولا في روحه ، ولا في خصائصه . فهو( متشابه )وهو( مثاني )تكرر مقاطعه وقصصه وتوجيهاته ومشاهده . ولكنها لا تختلف ولا تتعارض ، إنما تعاد في مواضع متعددة وفق حكمة تتحقق في الإعادة والتكرار . في تناسق وفي استقرار على أصول ثابتة متشابهة . لا تعارض فيها ولا اصطدام .
والذين يخشون ربهم ويتقونه ، ويعيشون في حذر وخشية ، وفي تطلع ورجاء ، يتلقون هذا الذكر في وجل وارتعاش ، وفي تأثر شديد تقشعر منه الجلود ؛ ثم تهدأ نفوسهم ، وتأنس قلوبهم بهذا الذكر فتلين جلودهم وقلوبهم وتطمئن إلى ذكر الله . .
وهي صورة حية حساسة ترسمها الكلمات ، فتكاد تشخص فيها الحركات .
( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ) . .
فما ترتعش القلوب هكذا إلا حين تحركها أصبع الرحمن إلى الهدى والاستجابة والإشراق . والله يعلم من حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى أو بالضلال :
( ومن يضلل الله فما له من هاد ) . .
فهو يضله بما يعلمه من حقيقته المستقرة على الضلال ، التي لا تقبل الهدى ولا تجنح إليه بحال .
{ الله نزل أحسن الحديث } يعني القرآن ، روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له حدثنا فنزلت . وفي الابتداء باسم الله وبناء نزل عليه تأكيد للإسناد إليه وتفخيم للمنزل واستشهاد على حسنه . { كتابا متشابها } بدل من { أحسن } أو حال منه ، وتشابهه تشابه أبعاضه في الإعجاز وتجاوب النظم وصحة المعنى والدلالة على المنافع العامة . { مثاني } جمع مثنى أو مثنى أو مثن على ما مر في " الحجر " وصف به كتابا باعتبار تفاصيله كقولك : القرآن سور وآيات ، والإنسان : عظام وعروق وأعصاب ، أو جعل تمييزا من { متشابها } كقولك : رأيت رجلا حسنا شمائله . { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } تشمئز خوفا مما فيه من الوعيد ، وهو مثل في شدة الخوف واقشعرار الجلد تقبضه وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس بزيادة الراء ليصير رباعيا كتركيب اقمطر من القمط وهو الشد . { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } بالرحمة وعموم المغفرة ، والإطلاق للإشعار بأن أصل أمره الرحمة وأن رحمته سبقت غضبه ، والتعدية ب { إلى } لتضمين معنى السكون والاطمئنان ، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها . { ذلك } أي الكتاب أو الكائن من الخشية والرجاء . { هدى الله يهدي به من يشاء } هدايته . { ومن يضلل الله } ومن يخذله . { فما له من هاد } يخرجهم من الضلال .
وقوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } يريد به القرآن ، وروي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن قوماً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وأخبرنا بأخبار الدهر ، فنزلت الآية في ذلك .
وقوله : { متشابهاً } معناه : مستوياً لا تناقض فيه ولا تدافع ، بل يشبه بعضه بعضاً في وصف اللفظ ووثاقة البراهين وشرف المعاني ، إذ هي اليقين في العقائد في الله تعالى وصفاته وأفعاله وشرعه .
وقوله : { مثاني } معناه : موضع تثنية للقصص والأقضية ، والمواعظ شتى فيه ولا تمل مع ذلك ولا يعرضها ما يعرض الحديث المعاد . قال ابن عباس : ثنى فيه الأمر مراراً . ولا ينصرف { مثاني } لأنه جمع لا نظير له في الواحد .
وقوله تعالى : { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } عبارة عن قفّ شعر الإنسان عندما يداخله خوف ولين قلب عن سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه ، وهذه علامة وفزع المعنى المخشع في قلب السامع ، وفي الحديث أن أبي بن كعب قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم فرقت القلوب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة » وقال العباس بن عبد المطلب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتُّ عن الشجرة اليابسة ورقها » وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن ، قيل لها : إن أقواماً اليوم إذا سمع أحدهم القرآن خر مغشياً عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان ، وقال ابن عمر : وقد رئي ساقطاً عند سماع القرآن فقال : إنا لنخشى الله وما نسقط ، هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم . وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذي يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطاً رجليه ثم يقرأ القرآن كله ، فإن رمى بنفسه فهو صادق .
وقوله : { ذلك هدى الله } يحتمل أن يشير إلى القرآن ، أي ذلك الذي هذه صفته هدى الله ، ويحتمل أن يشير إلى الخشية واقشعرار الجلود ، أي ذلك أمارة هدى الله ، ومن جعل { تقشعر } في موضع الصفة لم يقف على { مثاني } ، ومن جعله مستأنفاً وإخباراً منقطعاً وقف على { مثاني } وباقي الآية بين .