قوله تعالى : { ومن نعمره ننكسه في الخلق } قرأ عاصم ، و حمزة بالتشديد ، وقرأ الآخرون بفتح النون الأولى وضم الكاف مخففاً ، أي : نرده إلى أرذل العمر شبه الصبي في أول الخلق . وقيل : ( ( ننكسه في الخلق ) ) أي : نضعف جوارحه بعد قوتها ونردها إلى نقصانها بعد زيادتها . { أفلا يعقلون } فيعتبروا ويعلموا أن الذي قدر على تصريف أحوال الإنسان يقدر على البعث بعد الموت .
ذلك كله حين يحين الموعد الذي يستعجلون . . فأما لو تركوا في الأرض ، وعمروا طويلاً وأمهلهم الوعد المرسوم بعض حين ؛ فإنهم صائرون إلى شر يحمدون معه التعجيل . . إنهم صائرون إلى شيخوخة وهرم ، ثم إلى خرف ونكسة في الشعور والتفكير :
( ومن نعمره ننكسه في الخلق . أفلا يعقلون ) . .
والشيخوخة نكسة إلى الطفولة . بغير ملاحة الطفولة وبراءتها المحبوبة ! وما يزال الشيخ يتراجع ، وينسى ما علم ، وتضعف أعصابه ، ويضعف فكره ، ويضعف احتماله ، حتى يرتد طفلاً . ولكن الطفل محبوب اللثغة ، تبسم له القلوب والوجوه عند كل حماقة . والشيخ مجتوى لا تقال له عثرة إلا من عطف ورحمة ، وهو مثار السخرية كلما بدت عليه مخايل الطفولة وهو عجوز . وكلما استحمق وقد قوست ظهره السنون !
فهذه العاقبة كتلك تنتظر المكذبين ، الذين لا يكرمهم الله بالإيمان الراشد الكريم . .
{ ومن نعمره } ومن نطل عمره . { ننكسه في الخلق } نقلبه فيه فلا يزال يتزايد ضعفه وانتقاض بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره ، وابن كثير على هذه يشبع ضمة الهاء على أصله ، وقرأ عاصم وحمزة " ننكسه " من التنكيس وهو أبلغ والنكس أشهر . { أفلا يعقلون } أن من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسخ فإنه مشتمل عليهما ويزاد غير أنه على تدرج ، وقرأ نافع برواية ابن عامر وابن ذكوان ويعقوب بالتاء لجري الخطاب قبله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن نعمره} فنطول عمره {ننكسه في الخلق أفلا يعقلون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَمَنْ نُعَمّرْهُ" فنمُدّ له في العمر "نُنَكّسْهُ فِي الخَلْقِ": نردّه إلى مثل حاله في الصبا من الهرم والكبر، وذلك هو النكس في الخلق، فيصير لا يعلم شيئا بعد العلم الذي كان يعلمه...
ويعني تعالى ذكره بقوله: "أفَلا يَعْقِلُونَ": أفلا يعقل هؤلاء المشركون قُدْرة الله على ما يشاء بمعاينتهم ما يعاينون من تصريفه خلقه فيما شاء وأحبّ من صغر إلى كبر، ومن تنكيس بعد كبر في هرم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ومن نعمّره نُنكّسه في الخلق} أي نعمّره حتى يدركه الهرم والضعف، يقول: نرده {في الخلق} الأول، لا يعقل فيه كعقله الأول كقوله: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} [النحل: 70] {أفلا يعقلون} أن من فعل هذا، أو قدر على هذا، لا يعجزه شيء، ويستأدي به شكره.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يَرُدُّه إذا استوى شبابُه وقُوَّتُه إلى العكس، فكما كان يزداد في القوة يأخذ في النقصان، إلى أن يبلغَ أرذلَ العمر في السن، فيصير إلى مثل حال الطفولية في الضعف. ثم لا يَبْقَى بعد النقصان شيءٌ، هذا في الجثث والمباني دون الأحوال والمعاني؛ فإن الأحوال في الزيادة إلى أن يبلغ حَدَّ الخَرَفِ فيَخْتَلُّ رأيُه وعَقْلُه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«ننكسه في الخلق» نقلبه فيه فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال ويرتقي من درجة إلى درجة، إلى أن يبلغ أشده ويستكمل قوته، ويعقل ويعلم ما له وما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق فجعلناه يتناقص، حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبيّ في ضعف جسده وقلة عقله وخلّوه من العلم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله.
فقد ذكرنا أن قوله تعالى: {ألم أعهد إليكم} [يس: 60] قطع للأعذار بسبق الإنذار، ثم لما قرر ذلك وأتمه، شرع في قطع عذر آخر: وهو أن الكافر يقول لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيرا، ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيرا، فقال الله تعالى: أفلا تعقلون أنكم كلما دخلتم في السن ضعفتم، وقد عمرناكم مقدار ما تتمكنون من البحث والإدراك كما قال تعالى: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} ثم إنكم علمتم أن الزمان كلما يعبر عليكم يزداد ضعفكم فضيعتم زمان الإمكان، فلو عمرناكم أكثر من ذلك لكان بعده زمان الإزمان، ومن لم يأت بالواجب زمان الإمكان ما كان يأتي به زمان الإزمان.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
قصد بذكر ذلك هنا للاستدلال على قدرته تعالى على مسخ الكفار كما قدر على تنكيس الإنسان إذا هرم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
المراد من هذا -والله أعلم- الإخبارُ عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال، لا دار دوام واستقرار؛ ولهذا قال: {أَفَلا يَعْقِلُونَ} أي: يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ثم صيرورتهم إلى [نفس] الشَّبيبَة، ثم إلى الشيخوخة؛ ليعلموا أنهم خُلقوا لدار أخرى، لا زوال لها ولا انتقال منها، ولا محيد عنها، وهي الدار الآخرة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت هذه أموراً فرضية يتأتى لبعض المعاندين اللد الطعن فيها مكابرة، وكان كونه صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة مانعاً من المفأجاة بالتعذيب بعذاب الاستئصال بها، دل عليها بما يشاهدونه من باهر قدرته وغريب حكمته في صنعته، فقال دالاً بالعاطف على غير معطوف عليه ظاهر على أن التقدير: فقد خلقناهم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم أولدناهم لا يعلمون شيئاً ولا يقدرون على شيء، ثم درجناهم في أطوار الأسنان معلين لهم في معارج القوى الظاهرة والباطنة إلى أن صاروا إلى حد الأشد -وهو استكمال القوى البشرية- فأوقفنا قواهم الظاهرة والباطنة، فلم نجر العادة بأن نحدث فيهم إذ ذاك قوة لم تكن أيام الشباب: {ومن نعمره} أي نطل عمره إطالة كبيرة منهم بعد ذلك.
{ننكسه} وقراءة عاصم وحمزة بضم أوله وفتح ثانيه وكسر الكاف مشددة دالة على تفاوت الناس في النكس، ولم يقل "في خلقه "لئلا يظن أن المراد أن المعمر له خلق أنشأه وأبدعه.
{في الخلق} أي فيما أبدعناه من تقدير بدنه وروحه؛ أي نرده على عقبه نازلاً في المدارج التي أصعدناه فيها إلى أن تضمحل قواه الحسية فيكون كالطفل فلا يقدر على شيء، والمعنوية فلا يعلم شيئاً، ومن قدر على مثل هذا التحويل من حالة إلى أخرى لم تكن طرداً وعكساً، قدر على مثل ما مضى من التحويل بلا فرق، غير أنهم لكثرة إلفهم لذلك صيره عندهم هيناً، ولقلة وجود الأول صيره عندهم بعيداً، ولذلك سبب عن الكلام قوله: على الأسلوب الماضي في قراءة الجماعة، ولفتاً إلى الخطاب عند المدنيين ويعقوب؛ لأنه أقرب إلى الاستعطاف وإعلاماً بأن الوعظ عام لكل صالح للخطاب: {أفلا يعقلون} وقال بعض العارفين: قيد بالخلق احترازاً عن الأمر، فإن المؤتمر كلما زاد سنّاً ازداد لربه طاعة وبه علماً، يعني أن النكس في البدن أمر لا بد منه، وأما في المعارف فتارة وتارة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{أَفَلَا يَعْقِلُونَ} أن الآدمي ناقص من كل وجه، فيتداركوا قوتهم وعقولهم، فيستعملونها في طاعة ربهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك كله حين يحين الموعد الذي يستعجلون.. فأما لو تركوا في الأرض، وعمروا طويلاً وأمهلهم الوعد المرسوم بعض حين؛ فإنهم صائرون إلى شر يحمدون معه التعجيل.. إنهم صائرون إلى شيخوخة وهرم، ثم إلى خرف ونكسة في الشعور والتفكير: (ومن نعمره ننكسه في الخلق. أفلا يعقلون).. والشيخوخة نكسة إلى الطفولة. بغير ملاحة الطفولة وبراءتها المحبوبة! وما يزال الشيخ يتراجع، وينسى ما علم، وتضعف أعصابه، ويضعف فكره، ويضعف احتماله، حتى يرتد طفلاً. ولكن الطفل محبوب اللثغة تبسم له القلوب والوجوه عند كل حماقة. والشيخ مجتوى لا تقال له عثرة إلا من عطف ورحمة، وهو مثار السخرية كلما بدت عليه مخايل الطفولة وهو عجوز، وكلما استحمق وقد قوست ظهره السنون! فهذه العاقبة كتلك تنتظر المكذبين، الذين لا يكرمهم الله بالإيمان الراشد الكريم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قد يلوح في بادئ الرأي أن موقع هذه الآية كالغريب عن السياق، فيظن ظانّ أنها كلام مستأنف انتقل به من غرض الحديث عن المشركين وأحوالهم والإِملاء لهم إلى التذكير بأمر عجيب من صنع الله حتى يخال أن الذي اقتضى وقوع هذه الآية في هذا الموقع أنها نزلت في تِباع نزول الآيات قبلها لسبب اقتضى نزولها.
فجعل كثير من المفسرين موقعها موقع الاستدلال على أن قدرة الله تعالى لا يستصعب عليها طمس أعينهم ولا مسخهم كما غيّر خلقة المعمرين من قوة إلى ضعف، فيكون قياس تقريب من قبيل ما يسمى في أصول الفقه بالقياس الخَفيّ وبالأدْوَن، فيكون معطوفاً على علة مقدرة في الكلام كأنه قيل: لو نشاء لطمسنا الخ لأنا قادرون على قلب الأحوال، ألا يرون كيف نقلب خلق الإِنسان فنجعله على غير ما خلقناه أولاً.
وبعد هذا كله فموقع واو العطف غير شديد الانتظام. وجعلها بعض المفسرين واقعة موقع الاستدلال على المكان البعيد، أي أن الذي قدر على تغيير خلقهم من شباب إلى هرم قادر على أن يبعثهم بعد الموت فهو أيضاً قياس تقريب بالخفيّ وبالأدون.
ومنهم من تكلم عليها معرضاً عما قبلها فتكلموا على معناها وما فيها من العبرة ولم يبيّنوا وجه اتصالها بما قبلها.
ومنهم من جعلها لقطع معذرة المشركين في ذلك اليوم أن يقولوا: ما لبثنا في الدنيا إلاّ عمراً قليلاً ولو عُمِّرنا طويلاً لما كان منا تقصير، وهو بعيد عن مقتضى قوله: {نَنْكُسْهُ في الخَلْقِ}. وكل هذه التفاسير تحوم حول جعل الخلق بالمعنى المصدري، أي في خلقته أو في أثر خلقه.
وكل هذه التفسيرات بعيد عن نظم الكلام، فالذي يظهر أن الذي دفع المفسرين إلى ذلك هو ما ألِفه الناس من إطلاق التعمير على طول عمر المُعمّر، فلما تأولوه بهذا المعنى ألحقوا تأويل {نَنْكُسْهُ في الخَلْقِ} على ما يناسب ذلك.
والوجه عندي أن لكون جملة {ومَن نُعَمِرهُ} عطفاً على جملة {ولو نشَاءُ لمَسخْناهُم على مكانتِهم} [يس: 67] فهي جملة شرطية عطفت على جملة شرطية، فالمعطوف عليها جملة شرط امتناعي، والمعطوفة جملة شرط تعليقي، والجملة الأولى أفادت إمهالهم والإِملاء لهم، والجملة المعطوفة أفادت إنذارهم بعاقبة غير محمودة ووعيدَهم بحلولها بهم، أي إن كنا لم نمسخهم ولم نطمس على عيونهم فقد أبقيناهم ليكونوا مغلوبين أذلة، فمعنى {ومَن نُّعَمِرْهُ} من نعمره منهم.
فالتعمير بمعنى الإبقاء، أي من نُبْقِيه منهم ولا نستأصله منهم، أي من المشركين فجعله بين الأمم ذليلاً، فالتعمير المرادُ هنا كالتعمير الذي في قوله تعالى: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} [فاطر: 37]، بأن معناها: ألم نبقكم مدة من الحياة تكفي المتأمل وهو المقدر بقوله: {ما يتذكر فيه من تذكر}.
وليس المراد من التعمير فيها طول الحياة وإدراك الهرم كالذي في قولهم: فلان من المُعَمَّرين، فإن ذلك لم يقع بجميع أهل النار الذين خوطبوا بقوله: {أولم نعمركم}. وقد طويت في الكلام جملة تقديرها: ولو نشاء لأهلكناهم، يدل عليها قوله: ومن نعمره} أي نبقه حياً.
والنكس: حقيقته قلب الأعلى أسفل أو ما يقرب من الأسفل، قال تعالى: {ناكسوا رؤوسهم} [السجدة: 12]. ويطلق مجازاً على الرجوع من حال حسنة إلى سيئة، ولذلك يقال: فلان نكِس، إذا كان ضعيفاً لا يرجى لنجدة، وهو فَعِل بمعنى مفعول كأنه منكوس في خلائق الرجولة، ف {ننكسْهُ} مجاز لا محالة إلا أنا نجعله مجازاً في الإِذلال بعد العزة وسوء الحالة بعد زهرتها.
و {الخلق}: مصدر خلقه، ويطلق على المخلوق كثيراً وعلى الناس. وفي حديث عائشة عن الكنيسة التي رأتها أم سلمة وأم حبيبة بالحبشة قال النبي صلى الله عليه وسلم « وأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» أي شرار الناس.
ووقوع حرف {في} هنا يعين أن الخلق هنا مراد به الناس، أي تجعله دليلاً في الناس وهو أليق بهذا المعنى دون معنى في خلقته؛ لأن الإِنكاس لا يكون في أصل الخلقة، وإنما يكون في أطوارها، وقد فسر بذلك قوله تعالى: {وزادكم في الخلق بسطة} [الأعراف: 69] أي زادكم قوة وسعة في الأمم، أي في الأمم المعاصرة لكم، فهو وعيد لهم ووعد للمؤمنين بالنصر على المشركين ووقوعهم تحت نفوذ المسلمين، فإن أولئك الذين كانوا رؤوساً للمشركين في الجاهلية صاروا في أسر المسلمين يوم بدر وفي حكمهم يوم الفتح فكانوا يُدْعَون الطلقاء.
وقرأ الجمهور: {نَنْكُسْه بفتح النون الأولى وسكون النون الثانية وضمّ الكاف مخففة وهو مضارع نكس المتعدّي، يقال: نكس رأسه. وقرأه عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح النون الثانية وكسر الكاف مشددة مضارع نكس المضاعف.
وفرّع على الجمل الشرطية الثلاث وما تفرع عليها قوله: أفَلاَ يَعْقِلُونَ} استئنافاً إنكارياً لعدم تأملهم في عظيم قدرة الله تعالى الدالة على أنه لو شاء لطمَس على أعينهم ولو شاء لمسخهم على مكانتهم، وأنه إن لم يفعل ذلك فإنهم لا يسلمون من نصره المسلمين عليهم؛ لأنهم لو قاسوا مقدورات الله تعالى المشاهدة لهم؛ لعلموا أن قدرته على مسخهم فما دونه من إنزال مكروه بهم أيسر من قدرته على إيجاد المخلوقات العظيمة المتقنة، وأنه لا حائل بين تعلق قدرته بمسخهم إلا عدم إرادته ذلك لحكمة علمها فإن القدرة إنما تتعلق بالمقدورات على وفق الإرادة.