قوله تعالى : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } . قال الرواة : إن الله تعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء ، فدحيت الأرض من تحتها . فلما أهبط الله آدم إلى الأرض ، استوحش فشكا إلى الله تعالى ، فأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر ، باب شرقي وباب غربي ، فوضعه على موضع البيت وقال : يا آدم إني أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي ، تصلي عنده كما يصلي عند عرشي ، وأنزل الحجر وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية ، فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشياً ، وقيض الله له ملكاً يدله على البيت ، فحج البيت وأقام المناسك ، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا : بر حجك يا آدم ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام . قال ابن عباس رضي الله عنه : حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه ، فكان على ذلك إلى أيام الطوفان ، فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه يوم القيامة ، وبعث جبريل عليه السلام حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق ، فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم ، ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يذكر فيه ، فسأل الله عز وجل أن يبين له موضعه ، فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت ، وهي ريح خجوج لها رأسان شبه الحية ، فأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة ، فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة فتطوقت السكينة على موضع البيت كتطوق الجحفة هذا قول علي والحسن . وقال ابن عباس : بعث الله سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافق مكة ووقفت على موضع البيت ، فنودي منها إبراهيم أن ابن على ظلها لا تزداد ولا تنقص ، وقيل : أرسل الله جبريل ليدله على موضع البيت فذلك قوله تعالى ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجر ، فذلك قوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) يعني أسسه واحدتها قاعدة . وقال الكسائي : جدر البيت ، قال ابن عباس : إنما بني البيت من خمسة أجبل ، طور سيناء وطور زيتا ولبنان وهو جبل بالشام ، والجودي وهو جبل بالجزيرة وبنيا قواعده من حراء وهو جبل بمكة فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل ائتني بحجر حسن يكون للناس علماً ، فأتاه بحجر فقال : ائتني بأحسن من هذا ، فمضى إسماعيل يطلبه فصاح أبو قبيس : يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها ، فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه . وقيل : إن الله تعالى بنى في السماء بيتاً وهو البيت المعمور ويسمى ضراح ، وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله ، وقيل : أول من بنى الكعبة آدم واندرس في زمن الطوفان ثم أظهره الله لإبراهيم حتى بناه .
قوله تعالى : { ربنا تقبل منا } . فيه إضمار أي ويقولان : ربنا تقبل منا بناءنا .
ثم يرسم مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود . . يرسمه مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن :
( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا وتب علينا ، إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويزكيهم ، إنك أنت العزيز الحكيم ) . . إن التعبير يبدأ بصيغة الخبر . . حكاية تحكى :
( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) . .
وبينما نحن في انتظار بقية الخبر ، إذا بالسياق يكشف لنا عنهما ، ويرينا إياهما ، كما لو كانت رؤية العين لا رؤيا الخيال . إنهما أمامنا حاضران ، نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان :
( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم . . ربنا . . )
فنغمة الدعاء ، وموسيقى الدعاء ، وجو الدعاء . . كلها حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة . . وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل . رد المشهد الغائب الذاهب ، حاضرا يسمع ويرى ، ويتحرك ويشخص ، وتفيض منه الحياة . . إنها خصيصة " التصوير الفني " بمعناه الصادق ، اللائق بالكتاب الخالد .
وماذا في ثنايا الدعاء ؟ إنه أدب النبوة ، وإيمان النبوة ، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود . وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء ، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء :
( ربنا تقبل منا . إنك أنت السميع العليم ) . .
إنه طلب القبول . . هذه هي الغاية . . فهو عمل خالص لله . الاتجاه به في قنوت وخشوع إلى الله . والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول . . والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع للدعاء . عليهم بما وراءه من النية والشعور .
{ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت } حكاية حال ماضية ، و{ القواعد } جمع قاعدة وهي الأساس صفة غالبة من القعود ، بمعنى الثبات ، ولعله مجاز من المقابل للقيام ، ومنه قعدك الله ، ورفعها البناء عليها فإنه ينقلها عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، ويحتمل أن يراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدة ما يوضع فوقه ويرفعها بناؤها . وقيل المراد رفع مكانته وإظهار شرفه بتعظيمه ، ودعاء الناس إلى حجه ، وفي إبهام القواعد وتبيينها تفخيم لشأنها . { وإسماعيل } كان يتناوله الحجارة ، ولكنه لما كان له مدخل في البناء عطف عليه . وقيل : كانا يبنيان في طرفين ، أو على التناوب . { ربنا تقبل منا } أي يقولان ربنا تقبل منا ، وقد قرئ به والجملة حال منهما . { إنك أنت السميع } لدعائنا { العليم } بنياتنا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.