قوله تعالى :{ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة } ، تذكرة ، { من ربكم وشفاء لما في الصدور } ، أي : دواء للجهل ، لما في الصدور . أي : شفاء لعمى القلوب ، والصدر : موضع القلب ، وهو أعز موضع في الإنسان لجوار القلب ، { وهدىً } ، من الضلالة ، { ورحمة للمؤمنين } ، والرحمة هي النعمة على المحتاج ، فإنه لو أهدى ملك إلى ملك شيئا لا يقال قد رحمه ، وإن كان بذلك نعمة لأنه لم يضعها في محتاج .
ثم يعقبه النداء الجامع للبشرية جميعاً :
( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ، وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين )
جاءتكم في ذلك الكتاب الذي ترتابون فيه . جاءتكم الموعظة ( من ربكم )فليس هو كتاباً مفترى ، وليس ما فيه من عند بشر . جاءتكم الموعظة لتحيي قلوبكم ، وتشفي صدوركم من الخرافة التي تملؤها ، والشك الذي يسيطر عليها ، والزيغ الذي يمرضها ، والقلق الذي يحيرها . جاءت لتفيض عليها البرء والعافية واليقين والاطمئنان والسلام مع الإيمان . وهي لمن يرزق الإيمان هدى إلى الطريق الواصل ، ورحمة من الضلال والعذاب :
يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنزل إليهم من القرآن العظيم على رسوله الكريم : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : زاجر عن الفواحش ، { وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ } أي : من الشُبَه والشكوك ، وهو إزالة ما فيها من رجس ودَنَس ، { وَهُدًى وَرَحْمَةً } أي : محصلٌ لها الهداية والرحمة من الله تعالى . وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه ، كما قال تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] ، وقال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] .
هذه آية خوطب بها جميع العالم ، و «الموعظة » القرآن لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر ويرقق ويوعد ويعد ، وهذه صفة الكتاب العزيز ، وقوله : { من ربكم } يريد لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم بل هي من عند الله و { ما في الصدور } يريد به الجهل والعتو عن النظر في آيات الله ونحو هذا مما يدفع الإيمان ، وجعله موعظة بحسب الناس أجمع ، وجعله { هدى ورحمة } بحسب المؤمنين فقط ، وهذا تفسير صحيح المعنى إذا تؤمل بان وجهه .
استئناف أو اعتراض ، يجوز أن يكون لابتداء غرض جديد وهو خطاب جميع الناس بالتعريف بشأن القرآن وهديه ، بعد أن كان الكلام في جدال المشركين والاحتجاج عليهم بإعجاز القرآن على أنه من عند الله وأن الآتي به صادق فيما جاء به من تهديدهم وتخويفهم من عاقبة تكذيب الأمم رُسلَها ، وما ذيل به ذلك من الوعيد وتحقيق ما توعدوا به ، فالكلام الآن منعطف إلى الغرض المفتتح بقوله : { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله إلى قوله : { ولو كانوا لا يبصرون } [ يونس : 37 43 ] . فعاد الكلام إلى خطاب جميع الناس لما في القرآن من المنافع الصالحة لهم ، والإشارة إلى اختلافهم في مقدار الانتفاع به ، ولذلك كان الخطاب هنا عاماً لجميع الناس ولم يأت فيه ما يقتضي توجيهه لخصوص المشركين من ضمائر تعود إليهم أو أوصاف لهم أو صلات موصول . وعلى هذا الوجه فليس في الخطاب ب { يأيّها الناس } التفات من الغيبة إلى الخطاب ، والمعنى أن القرآن موعظة لجميع الناس وإنما انتفع بموعظته المؤمنون فاهتدوا وكان لهم رحمة .
ويجوز أن يكون خطاباً للمشركين بناء على الأكثر في خطاب القرآن ب { يأيها الناس } فيكون ذكر الثناء على القرآن بأنه هدًى ورحمة للمؤمنين إدماجاً وتسجيلاً على المشركين بأنهم حَرموا أنفسهم الانتفاع بموعظة القرآن وشفائه لما في الصدور ، فانتفع المؤمنون بذلك .
وافتتاح الكلام ب { قد } لتأكيده ، لأن في المخاطبين كثيراً ممن ينكر هذه الأوصاف للقرآن .
والمجيء : مستعمل مجازاً في الإعلام بالشيء ، كما استعمل للبلوغ أيضاً ، إلا أن البلوغ أشهر في هذا وأكثر ، يُقال : بلغني خبر كذا ، ويقال أيضاً : جاءني خبر كذا أو أتاني خبر كذا . وإطلاق المجيء عليه في هذه الآية أعز .
والمراد بما جاءهم وبلغهم هو ما أنزل من القرآن وقرىء عليهم ، وقد عبر عنه بأربع صفات هي أصول كماله وخصائصه وهي : أنه موعظة ، وأنه شفاء لما في الصدور ، وأنه هدى ، وأنه رحمةٌ للمؤمنين .
والموعظة : الوعظ ، وهو كلام فيه نصح وتحذير مما يضر . وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى : { فأعرض عنهم وعظهم } في سورة [ النساء : 63 ] ، وعند قوله تعالى : { موعظة وتفصيلاً لكل شيء } في سورة [ الأعراف : 145 ] . ووصفها ب من ربكم } للتنبيه على أنها بالغة غاية كمال أمثالها .
والشفاء تقدم عند قوله تعالى : { ويشف صدور قوم مؤمنين } في سورة [ براءة : 14 ] . وحقيقته : زوال المرض والألم ، ومجازه : زوال النقائص والضلالات وما فيه حرج على النفس ، وهذا هو المراد هنا .
والمراد بالصدور النفوس كما هو شائع في الاستعمال .
والهدى تقدم في قوله تعالى : { هدى للمتقين } في طالع سورة [ البقرة : 2 ] ، وأصله : الدالة على الطريق الموصل إلى المقصود . ومجازه : بيان وسائل الحصول على المنافع الحقة .
والرحمة تقدمت في تفسير البسملة .
وقد أومأ وصف القرآن بالشفاء إلى تمثيل حال النفوس بالنسبة إلى القرآن ، وإلى ما جاء به بحال المعتل السقيم الذي تغير نظام مزاجه عن حالة الاستقامة فأصبح مضطرب الأحوال خائر القوى فهو يترقب الطبيب الذي يدبر له بالشفاء ، ولا بد للطبيب من موعظة للمريض يحذره بها مما هو سبب نشء علته ودوامها ، ثم ينعت له الدواء الذي به شفاؤه من العلة ، ثم يصف له النظام الذي ينبغي له سلوكه لتدوم له الصحة والسلامة ولا ينتكسَ له المرض ، فإن هو انتصح بنصائح الطبيب أصبح معافى سليماً وحيي حياة طيبة لا يعتوره ألم ولا يشتكي وَصَبَا ، وقد كان هذا التمثيل لكماله قابلاً لتفريق تشبيه أجزاء الهيئة المشبَّهة بأجزاء الهيئة المشبَّه بها ، فزواجرُ القرآن ومواعظه يُشبَّه بنصح الطبيب على وجه المكنية ، وإبطالُه العقائد الضالة يشبه بنعت الدواء للشفاء من المضار على وجه التصريحية ، وتعاليمُه الدينية وآدابه تشبَّه بقواعد حفظ الصحة على وجه المكنية ، وعبر عنها بالهَدى ، ورحمتُه للعالمين تشبه بالعيش في سلامة على وجه المكنية .
ومعلوم أن ألفاظ المكنية يصح أن تكون مستعملة في حقائق معانيها كما هنا ، ويصح أن تجعل تخييلاً كأظفار المنية . ثم إن ذلك يتضمن تشبيه شأن باعث القرآن بالطبيب العليم بالأدواء وأدويتها ، ويقوم من ذلك تشبيه هيئة تلقي الناس للقرآن وانتفاعهم به ومعالجة الرسول إياهم بتكرير النصح والإرشاد بهيئة المرضى بين يدي الطبيب وهو يصف لهم ما فيه برؤهم وصلاح أمزجتهم فمنهم القابل المنتفع ومنهم المتعاصي الممتنع .
فالأوصاف الثلاثة الأُول ؛ ثابتة للقرآن في ذاته سواء في ذلك مَن قَبِلها وعمل بها ، ومن أعرض عنها ونبذها ، إلا أن وصفه بكونه هدًى لمَّا كان وصفاً بالمصدر المقتضي للمبالغة بحيث كأنه نفس الهدى كان الأنسب أن يراد به حصول الهدى به بالفعل فيكون في قران الوصف الرابع . والوصف الرابع وهو الرحمة ، خاص بمن عمل بمقتضى الأوصاف الثلاثة الأُول ، فانتفع بها فكان القرآن رحمة له في الدنيا والآخرة . وهو ينظر إلى قوله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } [ الإسراء : 82 ] .
فقَيْد { للمؤمنين } متعلق ب { رحمة } بلا شبهة وقد خصه به جمهور المفسرين . ومن المحققين من جعله قيداً ل { هدى ورحمة } ناظراً إلى قوله تعالى : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] فإنه لم يجعله هدى لغير المتقين وهم المؤمنون .
والوجه أن كونه موعظة وصف ذاتي له ، لأن الموعظة هي الكلام المحذّر من الضر ولهذا عقبت بقوله : { من ربكم } فكانت عامة لمن خوطب ب { يأيُّها الناس } . وأما كونه شفاء فهو في ذاته صالح للشفاء لكن الشفاء بالدواء لا يحصل إلا لمن استعمله .
وأما كونه هدى ورحمة فإن تمام وصف القرآن بهما يكون بالنسبة لمن حَصَلت له حقيقتُهما ، وأما لمن لم تحصل له آثارهما ، فوصف القرآن بهما بمعنى صلاحيته لذلك ، وهو الوصف بالقوة في اصطلاح أهل المنطق .
وقد وقع التصريح في الآية الأخرى بأنه { شفاء ورحمة للمؤمنين } [ الإسراء : 82 ] ، وصرح في آية [ البقرة : 2 ] بأنه { هدى للمتقين } ، فالأظهر أن قيد للمؤمنين راجع إلى { هدى ورحمة } معاً إلى قاعدة القيد الوارد بعد مفردات ، وأما رجوعه إلى { شفاء } فمحتمل ، لأن وصف { شفاء } قد عُقب بقيد { لما في الصدور } فانقطع عن الوصفين اللذين بعده ، ولأن تعريف { الصدور } باللام يقتضي العموم ، فليحمل الشفاء على معنى الدواء الذي هو صالح للشفاء للذي يتناوله . وهو إطلاق كثير . وصَدَّر به في « اللسان » و« القاموس » ، وجعلوا منه قوله تعالى في شأن العسل { فيه شفاء للناس } [ النحل : 69 ] .
وأما تعليق فعل المجيء بضمير الناس في قوله : { قد جاءتكم } فباعتبار كونهم المقصود بإنزال القرآن في الجملة . ثم وقع التفصيل بالنسبة لما اختلفت فيه أحوال تلقيهم وانتفاعهم ، كما دل عليه قوله بعده : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } [ يونس : 58 ] أي المؤمنون . وعبر عن الهدى بالفضل في قوله تعالى : { يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً } [ النساء : 174 ، 175 ] فعمم في مجيء البرهان وإنزال النور جميع الناس ، وخصص في الرحمة والفضل والهداية المؤمنين ، وهذا منتهى البلاغة وصحة التقسيم .