البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ} (57)

قيل : نزلت في قريش الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أحق هو ؟ فالناس هم كفار قريش .

وقال ابن عطية : هو خطاب لجميع العالم .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ، ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدّي إليها وهو القرآن ، والمتصف بهذه الأوصاف الشريفة هو القرآن .

قال الزمخشري : أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد ، هو شفاء أي : دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة ، ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم انتهى .

ومن ربكم يحتمل أن يتعلق بجاءتكم ، فمن لابتداء الغاية .

ويحتمل أن يكون في موضع الصفة أي : من مواعظ ربكم ، فتتعلق بمحذوف ، فمن للتبعيض .

وفي قوله : من ربكم تنبيه على أنه من عند الله ليس من عند أحد .

قال ابن عطية : وجعله موعظة بحسب الناس أجمع ، وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين ، وهذا تقسيم صحيح المعنى إذا تؤوّل بأن وجهه انتهى .

وذكر أبو عبد الله الرازي هنا كلاماً كثيراً ممزوجاً بما يسمونه حكمة ، نعلم قطعاً أنّ العرب لا تفهم ذلك الذي قرره من ألفاظ القرآن ، وطوّل في ذلك ، وضرب أمثلة حسية يوقف عليها من تفسيره ، ثم قال آخر كلامه : فالحاصل أنّ الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة ، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة ، والهدى إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة ، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال ، والإشراق إلى حيث تصير تكمل الناقصين وهي النبوّة .

فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية ، لا يمكن تأخر ما تقدّم ذكره ، ولا تقدم ما تأخر ذكره .