فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ} (57)

{ يا أيها الناس } قيل أراد قريشا وقيل هو على العموم وهو الأولى واختاره الطبري وفيه إلتفات ورجوع إلى استمالتهم عقب تحذيرهم من غوائل الضلال وشروع في بيان أدلة الرسالة بعد بيان أدلة التوحيد { قد جاءتكم موعظة } يعني القرآن فيه ما يتعظ به من قرأه وعرف معناه والوعظ في الأصل هو التذكير بالعواقب سواء كان بالترغيب أو الترهيب والواعظ هو كالطبيب ينهى المريض عما يضره وقيل الوعظ زجر مقترن بتخويف وقال الخليل هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب .

{ من ربكم } من لابتداء الغاية وهو مجاز أو للتبعيض أي موعظة كائنة من مواعظ ربكم { وشفاء لما في الصدور } من الشكوك التي تعتري بعض المرتابين لوجود ما يستفاد منه فيه من العقائد الحقة ، واشتماله على تزييف العقائد الباطلة .

عن أبي سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أشتكي صدري : فقال : اقرأ القرآن يقول الله { وشفاء لما في الصدور } أخرجه ابن المنذر وابن مردويه .

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن واثلة ابن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجع حلقه قال : { عليك بقراءة القرآن والعسل فالقرآن شفاء لما في الصدور والعسل شفاء من كل داء } والشفاء في الأصل مصدر جعل وصفا مبالغة أو هو اسم لما يشفى به أي يتداوى فهو كالدواء لما يداوى به ، وإنما خص الصدر بالذكر لأنه موضع القلب وغلافه وهو أعز موضع في بدن الإنسان لمكان القلب فيه ، وداء الجهل أضر للقلب من داء المرض للبدن والقرآن مزيل لأمراض القلب كلها .

{ وهدى ورحمة للمؤمنين } بإنجائهم من الضلال نزل بالعطف تغاير الصفات منزلة تغاير الذات ، والهدى والإرشاد لمن اتبع القرآن وتفكر فيه وتدبر معانيه على الطريق الموصلة إلى الجنة ، والرحمة هي ما يوجد في الكتاب العزيز من الأمور التي يرحم بها عباده فيطلبها من أراد ذلك حتى ينالها فالقرآن العظيم مشتمل على هذه الأمور جامع لهذه الأشياء كلها .

قال الكرخي : والحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة والشفاء إشارة إلى تطهير الباطن عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة والهدى إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة ، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للناقصين وهي النبوة فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية لا يمكن تأخير ما تقدم ذكره إ ه .