وبعد لمسة البلى والدثور ، وما توقعه في الحس من رهبة وروعة ، وما تثيره في القلب من رجفة ورعشة . يلمس قلوبهم بريشة الحياة النابضة في الموات ؛ ويجول بهم جولة في الأرض الميتة تدب فيها الحياة ، كما جال بهم من قبل في الأرض التي كانت حية فأدركها البلى والممات :
أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز ، فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ? .
فهذه الأرض الميتة البور ، يرون أن يد الله تسوق إليها الماء المحيي ؛ فإذا هي خضراء ممرعة بالزرع النابض بالحياة . الزرع الذي تأكل منه أنعامهم وتأكل منه أنفسهم . وإن مشهد الأرض الجدبة والحيا يصيبها فإذا هي خضراء . . إن هذا المشهد ليفتح نوافذ القلب المغلقة لاستجلاء هذه الحياة النامية واستقبالها ؛ والشعور بحلاوة الحياة ونداوتها ؛ والإحساس بواهب هذه الحياة الجميلة الناضرة ؛ إحساس حب وقربى وانعطاف ؛ مع الشعور بالقدرة المبدعة واليد الصناع ، التي تشيع الحياة والجمال في صفحات الوجود .
وهكذا يطوف القرآن بالقلب البشري في مجالي الحياة والنماء ، بعدما طوف به في مجالي البلى والدثور ، لاستجاشة مشاعره هنا وهناك ، وإيقاظه من بلادة الألفة ، وهمود العادة ؛ ولرفع الحواجز بينه وبين مشاهد الوجود ، وأسرار الحياة ، وعبر الأحداث ، وشواهد التاريخ .
وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ } : يبين تعالى لطفه بخلقه ، وإحسانه إليهم في إرساله الماء إما من السماء أو من السيح ، وهو : ما تحمله الأنهار وينحدر من الجبال إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته ؛ ولهذا قال : { إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ } ، وهي [ الأرض ] {[23160]} التي لا نبات فيها ، كما قال تعالى : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } [ الكهف : 8 ] ، أي : يَبَسًا لا تنبت شيئًا وليس المراد من قوله : { إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ } أرض مصر فقط ، بل هي بعض المقصود ، وإن مثل بها كثير من المفسرين فليست [ هي ]{[23161]} المقصودة وحدها ، ولكنها مرادة قطعًا من هذه الآية ، فإنها في نفسها أرض رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطرًا لتهدمت أبنيتها ، فيسوق الله إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة ، وفيه طين أحمر ، فيغشى أرض مصر ، وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك الماء ، وذلك الطين أيضًا لينبُتَ الزرع فيه ، فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم ، وطين جديد من غير أرضهم ، فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود ابتداء .
قال ابن لَهِيعَة ، عن قيس بن حجاج ، عمن حدثه قال : لما فُتِحَت مصر ، أتى أهلها عمرو بن العاص - [ وكان أميرًا بها ]{[23162]} - حين دخل بؤونة من أشهر العجم ، فقالوا : أيها الأمير ، إن لنيلنا سُنَّة لا يجري إلا بها . قال : وما ذاك ؟ قالوا : إذا كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عَمَدنا إلى جارية بِكْر بين{[23163]} أبويها ، فأرضينا أبويها ، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها في هذا النيل . فقال لهم عمرو : إن هذا لا يكون في الإسلام ، إن الإسلام يهدم ما كان قبله . فأقاموا بؤونة والنيل لا يجري ، حتى هموا بالجلاء ، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك ، فكتب إليه : إنك قد أصبت بالذي فعلت ، وقد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا ، فألقها في النيل . فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر ، أما بعد . . . فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك . قال : فألقى البطاقة في النيل ، وأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة ، وقطع الله تلك السُّنَّة عن أهل مصر إلى اليوم . رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي الطبري في كتاب " السنة " له . {[23164]}
ولهذا قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ } ، كما قال تعالى : { فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ . أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا . ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا . فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا . وَعِنَبًا وَقَضْبًا . وَزَيْتُونًا وَنَخْلا . وَحَدَائِقَ غُلْبًا . وَفَاكِهَةً وَأَبًّا . [ مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ ] } [ عبس : 24 - 32 ] ؛{[23165]} ولهذا قال هاهنا : { أَفَلا يُبْصِرُونَ } . وقال ابن أبي نَجِيح ، عن رجل ، عن ابن عباس في قوله : { إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ } قال : هي التي لا تُمطر إلا مطرًا لا يغني عنها شيئا ، إلا ما يأتيها من السيول .
وعن ابن عباس ، ومجاهد : هي أرض باليمن .
وقال الحسن ، رحمه الله : هي قرى فيما بين اليمن والشام .
وقال عِكْرِمة ، والضحاك ، وقتادة ، والسُّدِّيّ ، وابن زيد : الأرض الجرز : التي لا نبات فيها وهي مغبرة .
قلت : وهذا كقوله : { وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ . وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ . لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ } [ يس : 33 - 35 ] .
عطف على ( أو لم يهد لهم ) . ونيط الاستدلال هنا بالرؤية لأن إحياء الأرض بعد موتها ثم إخراج النبت منها دلالة مشاهدة . واختير المضارع في قوله ( نسوق ) لاستحضار الصورة العجيبة الدالة على القدرة الباهرة .
والسوق : إزجاء الماشي من ورائه
والماء : ماء المزن وسوقه إلى الأرض هو سوق السحاب الحاملة إياه بالرياح التي تنقل السحاب من جو إلى جو ؛ فشبهت هيئة الرياح والسحاب بهيئة السائق للدابة . والتعريف في ( الأرض ) تعريف الجنس
والجرز : اسم للأرض التي انقطع نبتها وهو مشتق من الجرز وهو : انقطاع النبت والحشيش إما بسبب يبس الأرض أو بالرعي والجرز : القطع . وسمي السيف القاطع جرازا قال الراجز يصف أسنان ناقة :
تنحي على الشوك جرازا مقضبا *** والهرم تذريه إذدراء عجبا
فالأرض الجرز : التي انقطع نبتها . ولا يقال للأرض التي لا تنبت كالسباخ جرز . والزرع : ما نبت بسبب بذر حبوبه في الأرض كالشعير والبر والفصفصة وأكل الأنعام غالبه من الكلأ لا من الزرع فذكر الزرع بلفظه ثم ذكر أكل الأنعام يدل على تقدير : وكلأ . ففي الكلام اكتفاء . والتقدير : ونخرج به زرعا وكلأ تأكل منه أنعامهم وأنفسهم . والمقصود : الاستدلال على البعث وتقريبه وإمكانه بإخراج النبت من الأرض بعد أن زال ؛ فوجه الأول . وأدمج في هذا الاستدلال امتنان بقوله { تأكل منه أنعامهم وأنفسهم } .
ثم فرع عليه استفهام تقريري بجملة ( أفلا يبصرون ) . وتقدم بيان مثله آنفا في قوله ( أفلا يسمعون ) . ونيط الحكم بالإبصار هنا دلالة إحياء الأرض بعد موتها دلالة مشاهدة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم وعظهم ليوحدوا فقال سبحانه: {أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز} يعني الملساء ليس فيها نبت {فنخرج به} بالماء.
{زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون} هذه الأعاجيب فيوحدون ربهم عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أو لم ير هؤلاء المكذّبون بالبعث بعد الموت والنشر بعد الفناء، أنا بقُدرتنا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها وأصله من قولهم: ناقة جرز: إذا كانت تأكل كلّ شيء، وكذلك الأرض الجروز: التي لا يبقى على ظهرها شيء إلاّ أفسدته، نظير أكل الناقة الجراز كلّ ما وجدته، ومنه قولهم للإنسان الأكول: جَرُوز... ومنه قيل للسيف إذا كان لا يبقي شيئا إلاّ قطعه: سيف جراز... عن ابن عباس، في قوله "إلى الأرْضِ الجُرُزِ "قال: الجرز: التي لا تُمطر إلاّ مطرا لا يغني عنها شيئا، إلاّ ما يأتيها من السيول...
عن الضحاك "إلى الأرْضِ الجُرُزِ" ليس فيها نبت...
عن قتادة "أوَ لَمْ يَرَوْا أنّا نَسوقُ المَاءَ إلى الأرْضِ الجُرُز": المغبرة...
"فنخرجُ به زرعا تأكلُ منهُ أنعامهُمْ وَأنْفُسهُمْ" يقول تعالى ذكره: فنخرج بذلك الماء الذي نسوقه إليها على يبسها وغلظها وطول عهدها بالماء زرعا خضرا تأكل منه مواشيهم، وتغذَى به أبدانهم وأجسامهم فيعيشون به.
"أفَلا يُبْصرُونَ" يقول تعالى ذكره: أفلا يرون ذلك بأعينهم، فيعلموا برؤيتهموه أن القدرة التي بها فعلت ذلك لا يتعذّر عليّ أن أحيى بها الأموات وأُنشرهم من قبورهم، وأعيدهم بهيئاتهم التي كانوا بها قبل وفاتهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذه الآية ذكرت في الاحتجاج عليهم لإنكارهم البعث.
فيخبرهم إن من قدر على سوق الماء إلى الأرض الميتة اليابسة وإحيائها لقادر على إحيائكم بعد الموت؛ إذ الأعجوبة والقدرة في إحياء الأرض الميتة اليابسة: إن لم يكن أكثر، فلا تكون دون ما أنكروا، فكيف أنكرتم القدرة على إحياء الموتى، وقد عاينتم ما هو أكثر أو مثله؟
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الجرز} الأرض التي جرز نباتها أي قطع: إمّا لعدم الماء، وإمّا لأنه رعي وأزيل، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ: جرز. ويدل عليه قوله: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً}.
قدم الأنعام على الأنفس في الأكل لوجوه؛
أحدها: أن الزرع أول ما ينبت يصلح للدواب ولا يصلح للإنسان.
والثاني: وهو أن الزرع غذاء الدواب وهو لا بد منه، وأما غذاء الإنسان فقد يحصل من الحيوان، فكأن الحيوان يأكل الزرع، ثم الإنسان يأكل من الحيوان.
الثالث: إشارة إلى أن الأكل من ذوات الدواب والإنسان يأكل بحيوانيته أو بما فيه من القوة العقلية فكماله بالعبادة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{فنخرج به}...خص الزرع بالذكر، وإن كان يخرج الله به أنواعاً كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره، تشريفاً للزرع، ولأنه أعظم ما يقصد من النبات، وأوقع الزرع موقع النبات. وقدمت الأنعام... بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف، وهم بنو آدم.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
بعد أن بين قدرته على الإهلاك أرشد إلى قدرته على الإحياء ليبين أن النفع والضر بيده تعالى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا يطوف القرآن بالقلب البشري في مجالي الحياة والنماء، بعدما طوف به في مجالي البلى والدثور، لاستجاشة مشاعره هنا وهناك، وإيقاظه من بلادة الألفة، وهمود العادة؛ ولرفع الحواجز بينه وبين مشاهد الوجود، وأسرار الحياة، وعبر الأحداث، وشواهد التاريخ.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ونيط الاستدلال هنا بالرؤية لأن إحياء الأرض بعد موتها ثم إخراج النبت منها دلالة مشاهدة. واختير المضارع في قوله (نسوق) لاستحضار الصورة العجيبة الدالة على القدرة الباهرة.
والماء: ماء المزن وسوقه إلى الأرض هو سوق السحاب الحاملة إياه بالرياح التي تنقل السحاب من جو إلى جو؛ فشبهت هيئة الرياح والسحاب بهيئة السائق للدابة. والتعريف في (الأرض) تعريف الجنس
المراد هنا مشاهدة تمعن وتذكر وعظة وتعقّل، نهتدي من خلالها على قدرة الخالق عز وجل.
"أَنَّا نَسُوقُ".. فيه دليل على قيوميته تعالى على الخلق، فإن كان سوق الماء يتم بواسطة الملائكة المكلفين به، إلا أنه تعالى صاحب الأمر الأول والمتتبع لعملية تنفيذه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الطريف هنا أنّ جملة: (أفلا يبصرون) قد وردت في نهاية الآية مورد البحث، في حين أنّ الآية السابقة التي كانت تتحدّث عن أطلال قصور الأقوام الغابرة قد ختمت بجملة: (أفلا يسمعون)؛ وعلّة هذا الاختلاف هو أنّ الجميع يرون بأمّ أعينهم منظر الأراضي الميّتة وهي تحيا على أثر نزول الأمطار ونموّ نباتها وينع ثمرها، في حين أنّهم يسمعون المسائل المرتبطة بالأقوام السابقين كإخبار غالباً.
ويستفاد من مجموع الآيتين أعلاه أنّ الله تعالى يقول لهؤلاء العصاة المتمردّين: انتبهوا جيّداً، وافتحوا عيونكم وأسماعكم، فاسمعوا الحقائق، وانظروا إليها، وتفكّروا كيف أمرنا الرياح يوماً أن تحطّم قصور قوم عاد ومساكنهم وتجعلها أطلالا وآثاراً، وفي يوم آخر نأمر ذات الرياح أن تحمل السحاب الممطر إلى الأراضي الميّتة البور لتحيي تلك الأراضي وتجعلها خضراء نضرة، ألا تستسلمون وتذعنون لهذه القدرة؟!