( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) قال العوفي ، عن ابن عباس : ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه . وكذا قال عكرمة ، والضحاك ، وأبو صالح ، وقتادة ، والسدي ، واختاره ابن جرير{[29701]} .
وقال مجاهد : هذه كقوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } [ الإنسان : 3 ] أي : بينا {[29702]} له ووضحناه وسهلنا عليه عمله{[29703]} وهكذا قال الحسن ، وابن زيد . وهذا هو الأرجح والله أعلم .
واختلف المتأولون في معنى قوله : { ثم السبيل يسره } فقال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي : هي سبيل الخروج من بطن المرأة ورحمها ، وقال الحسن ما معناه : إن { السبيل } هي سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان ، وتيسره له هو هبة العقل ، وقال مجاهد : أراد { السبيل } عامة اسم الجنس في هدى وضلال أي يسر قوماً لهذا كقوله تعالى : { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً }{[11627]} [ الإنسان : 3 ] ، وقوله تعالى : { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ]
وحرف { ثم } من قوله : { ثم السبيل يسره } للتراخي الرتبي لأن تيسير سبيل العمل الإنساني أعجب في الدلالة على بديع صنع الله لأنه أثَرُ العقل وهو أعظم ما في خلق الإنسان وهو أقوى في المنة .
و { السبيل } : الطريق ، وهو هنا مستعار لما يفعله الإنسان من أعماله وتصرفاته تشبيهاً للأعمال بطريق يمشي فيه الماشي تشبيهَ المحسوس بالمعقول .
ويجوز أن يكون مستعاراً لمسقط المولود من بطن أمه فقد أطلق على ذلك المَمر اسم السبيل في قولهم : « السبيلان » فيكون هذا من استعمال اللفظ في مجازيه . وفيه مناسبة لقوله بعده : { ثم أماته فأقبره } ، ف { أماته } مقابل { خلقه } و { أقبره } مقابل { ثم السبيل يسره } لأن الإِقبار إدخال في الأرض وهو ضد خروج المولود إلى الأرض .
والتيسير : التسهيل ، و { السبيل } منصوب بفعل مضمر على طريق الاشتغال ، والضمير عائد إلى { السبيل } . والتقدير : يسّر السبيل له ، كقوله : { ولقد يسرنا القرآن للذكر } [ القمر : 17 ] أي لذِكر الناس .
وتقديم { السبيل } على فعله للاهتمام بالعبرة بتيسير السبيل بمعنييه المجازيين ، وفيه رعاية للفواصل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ" أحوالاً؛ نطفة تارة، ثم عَلَقة أخرى، ثم مُضْغة، إلى أن أتت عليه أحواله، وهو في رحم أمه.
"ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ" يقول: ثم يسّره للسبيل، يعني للطريق. واختلف أهل التأويل في السبيل الذي يسّره لها؛
فقال بعضهم: هو خروجه من بطن أمه...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: طريق الحقّ والباطل، بيّناه له وأعملناه، وسهلنا له العمل به...
وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب. قول من قال: ثم الطريق، وهو الخروج من بطن أمه يسّره. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب، لأنه أشبههما بظاهر الآية، وذلك أن الخبر من الله قبلها وبعدها عن صفته خلقه، وتدبيره جسمه، وتصريفه إياه في الأحوال، فالأولى أن يكون أوسط ذلك نظير ما قبله وبعده...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
ثم امتن عليه فقال: {ثم السبيل يسره} وهذا إشارة على ما تيسر له في مدة حياته إلى الموت...
قال أبو مسلم: المراد من هذه الآية، هو المراد من قوله: {وهديناه النجدين} فهو يتناول التمييز بين كل خير وشر يتعلق بالدنيا، وبين كل خير وشر يتعلق بالدين، أي جعلناه متمكنا من سلوك سبيل الخير والشر، والتيسير يدخل فيه الإقدار والتعريف والعقل وبعثة الأنبياء، وإنزال الكتب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... وفيه إيماء إلى أن الدنيا دار الممر، والمقصد غيرها وهو الأخرى التي تدل عليها الدنيا،...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: يسر له الأسباب الدينية والدنيوية، وهداه السبيل، وبينه وامتحنه بالأمر والنهي،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فمهد له سبيل الحياة. أو مهد له سبيل الهداية. ويسره لسلوكه بما أودعه من خصائص واستعدادات. سواء لرحلة الحياة، أو للاهتداء فيها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحرف {ثم} من قوله: {ثم السبيل يسره} للتراخي الرتبي لأن تيسير سبيل العمل الإنساني أعجب في الدلالة على بديع صنع الله لأنه أثَرُ العقل وهو أعظم ما في خلق الإنسان وهو أقوى في المنة. و {السبيل}: الطريق، وهو هنا مستعار لما يفعله الإنسان من أعماله وتصرفاته تشبيهاً للأعمال بطريق يمشي فيه الماشي تشبيهَ المحسوس بالمعقول. ويجوز أن يكون مستعاراً لمسقط المولود من بطن أمه فقد أطلق على ذلك المَمر اسم السبيل في قولهم: « السبيلان» فيكون هذا من استعمال اللفظ في مجازيه. وفيه مناسبة لقوله بعده: {ثم أماته فأقبره}، ف {أماته} مقابل {خلقه} و {أقبره} مقابل {ثم السبيل يسره} لأن الإِقبار إدخال في الأرض وهو ضد خروج المولود إلى الأرض. والتيسير: التسهيل، و {السبيل} منصوب بفعل مضمر على طريق الاشتغال، والضمير عائد إلى {السبيل}. والتقدير: يسّر السبيل له، كقوله: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر: 17] أي لذِكر الناس. وتقديم {السبيل} على فعله للاهتمام بالعبرة بتيسير السبيل بمعنييه المجازيين، وفيه رعاية للفواصل...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
تتضمن تقرير كون الله قد بين للناس الطريق القويم ويسر لهم سلوكه وأوجد فيهم قابلية القدرة على هذا السلوك. وفي هذا توكيد للتقريرات القرآنية السابقة في هذا الصدد كما هو ظاهر...
لأنه من الممكن أن يبدأ خلقك ثم بعد ذلك يتركك حرّاً طليقاً تفعل ما تشاء، ولكنه لم يتركك، فقد خلقك بقدرته، ثم أمدّك بقيوميته، أي إنك لن تستطيع الاستغناء عنه...
وحين قال الحق سبحانه وتعالى في هذه السورة: {قتل الإنسان ما أكفره (17)} من أيّ شيءٍ خلقه (18) من نطفة خلقه فقدّره (19)} [عبس]. فهو لم يتركنا نبحث عن الجواب؛ لأننا سنعجز عن الجواب، ولكنه أجاب هو سبحانه وتعالى بمنه علينا، ثم بعد ذلك أطلقها إطلاقاً، ثم يأتي بعد ذلك العلم التشريحي والمعملي فيثبت المسائل كما أخبر بها الحق سبحانه وتعالى تماماً.
{ثمّ السبيل يسّره} ولم يقل الله عز وجل: يسره سبيله؛ لأن منطق الآية لو كان على الصورة الثانية وهي التعريف بالإضافة لكان المعنى أن كل إنسان يمشي في طريقه على حدة، ولكن يجب أن يعرف الناس أن كلا ميسر لم خلق له، أي أنك ميسر لأن تقول كلمة: «لا إله إلا الله»، والكافر ميسر لأن يقول: «لا إله» فقط.. والعياذ بالله، فيدك مثلاً تستطيع أن تضرب بها إنساناً، وتستطيع أن تقيل بها عثرة إنسان آخر.
فيسر الله عز وجل السبيل على إطلاقه، فيستطيع أن يكون خيّراً، ويستطيع أن يكون غير ذلك، فأنت عندما تختار لا تختار شيئاً لم يجعل الله لك فيه صلاحية، بل خلقك صالحاً لهذا وصالحاً لذلك أيضاً، وأعطاك الفكرة؛ كي ترجح أي سبيل تسلكه...
{ثم السّبيل يسّره} يسّرك لما خلقت له، فهل تدري لماذا أنت خلقت؟ لقد خلقت للخلافة في الأرض، والخلافة منهج من قبيل المنهج العبادي (منهج العبادة)، تلك هي مهمتك، وأنت حين تكلف بمهمة فإن الله عز وجل ييسرك لها، فلا يكلفك الله عز وجل إلا بما يعلم أنه في وسعك؛ لذلك فيجب عليك أن تنظر إلى التكليف، لا أن تنظر إلى الوسع، لا تأخذ من مناط التكليف أولاً، وإنما خذ التكليف أولاً لتحقق به الوسع، فما دام الله قد كلفك بشيء فمعنى ذلك أنه بوسعك أن تفعله، فلتبحث أولاً من زاوية: أكلفني الله ذلك أم لم يكلفني؟ فإن كان قد كلفك فقد حكم بأن ذلك في وسعك، فلا تجعل وسعك هو الحكم، ثم ترى أنك غير قادر، وبالتالي فأنت غير مكلف به، كلا، فإن الذي كلفك يعلم جيداً أن ذلك بوسعك، بدليل أنه حين يرى أن الشيء الذي تكلف به وأنت في عادة استقامتك وتناسق ملكاتك تقدر عليه فيكلفك، فإذا اختل فيك شيء أسقط عنك هذا التكليف، فيأمرك مثلاً بالصلاة، ثم تسافر، وفي السفر مشقة؛ فيكون الأمر بقصر الصلاة وجمعها.
إذاً فالتكليف هو الأصل، فإذا ثبت التكليف من الله فإنه بوسعك، وأنت صالح وميسر لما كلفك الله به، فإذا ما عرض لك أي ظرف فإنه يخفف عنك ذلك التكليف، بل قد يسقطه بالكلية، وما ذاك إلا لأن الحق سبحانه وتعالى يعلمك ويعلم ما تقدر عليه أكثر مما تعرف أنت نفسك عن نفسك.. {ألا يعلم من خلق (14)} [الملك].