قوله تعالى : { وهو على كل شيء قدير ولئن أرسلنا ريحا } باردة مضرة فأفسدت الزرع ، { فرأوه مصفراً } أي : رأوا النبت والزرع مصفراً بعد الخضرة ، { لظلوا } لصاروا ، { من بعده } أي : بعد اصفرار الزرع ، { يكفرون } يجحدون ما سلف من النعمة ، يعني : أنهم يفرحون عند الخصب ، ولو أرسلت عذاباً على زرعهم جحدوا سالف نعمتي .
يمضي في تصوير حالهم لو كانت الريح التي رأوها مصفرة بما تحمل من رمل وتراب لا من ماء وسحاب - وهي الريح المهلكة للزرع والضرع - أو التي يصفر منها الزرع فيصير حطاما :
( ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون ) . .
يكفرون سخطا ويأسا ، بدلا من أن يستسلموا لقضاء الله ، ويتوجهوا إليه بالضراعة ليرفع عنهم البلاء . وهي حال من لا يؤمن بقدر الله ، ولا يهتدي ببصيرته إلى حكمة الله في تدبيره ، ولا يرى من وراء الأحداث يد الله التي تنسق هذا الكون كله ؛ وتقدر كل أمر وكل حادث . وفق ذلك التنسيق الشامل للوجود المترابط الأجزاء .
ثم قال تعالى : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } ، يقول { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا } يابسة على الزرع الذي زرعوه ، ونبت وشب واستوى على سوقه ، فرأوه مصفرا ، أي : قد اصفر وشرع في الفساد ، لظلوا من بعده ، أي : بعد هذا الحال يكفرون ، أي : يجحدون ما تقدم [ إليهم ]{[22891]} من النعم ، كما قال : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ . لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ . إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [ الواقعة : 63 - 67 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع ، حدثنا هُشَيْم{[22892]} ، عن يَعْلَى بن عطاء ، عن أبيه{[22893]} عن عبد الله بن عمرو ، قال : الرياح ثمانية ، أربعة منها رحمة ، وأربعة عذاب ، فأما الرحمة فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات . وأما العذاب فالعقيم والصرصر ، وهما في البر ، والعاصف والقاصف ، وهما في البحر [ فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحْمته ، ولاقحًا للسحاب تلقحه بحمله الماء ، كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل ، وإن شاء حركه بحركة العذاب فجعله عقيمًا ، وأودعه عذابًا أليمًا ، وجعله نقمة على من يشاء من عباده ، فيجعله صرصرًا وعاتيًا ومفسدًا لما يمر عليه ، والرياح مختلفة في مهابها : صبا ودبور ، وجنوب ، وشمال ، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف ، فريح لينة رطبة تغذي النبات وأبدان الحيوان ، وأخرى تجففه ، وأخرى تهلكه وتعطبه ، وأخرى تسيره وتصلبه ، وأخرى توهنه وتضعفه ]{[22894]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو{[22895]} عبُيَد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي ، حدثنا عبد الله بن عَيْاش{[22896]} ، حدثني عبد الله بن سليمان ، عن دراج ، عن عيسى بن هلال الصدَفي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الريح مسخرة من الثانية - يعني الأرض الثانية - فلما أراد الله أن يهلك عادًا ، أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحًا تهلك عادًا ، فقال : يا رب ، أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور . قال له الجبار تبارك وتعالى : لا إذًا تكفأ الأرض وما عليها ، ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم " ، فهي التي قال الله في كتابه : { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ }{[22897]} [ الذرايات : 42 ] . هذا حديث غريب ، ورفعه منكر . والأظهر أنه من كلام عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنه .
{ ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا } فرأوا الأثر أو الزرع فإنه مدلول عليه بما تقدم ، وقيل السحاب لأنه إذا كان { مصفرا } لم يمطر واللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط وقوله : { لظلوا من بعده يكفرون } جواب سد مسد الجزاء ولذلك فسر بالاستقبال . وهذه الآية ناعية على الكفار بقلة تثبتهم وعدم تدبرهم وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم وسوء رأيهم ، فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله ويلتجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس القطر عنهم ولا ييأسوا من رحمته ، وأن يبادروا إلى الشكر والاستدامة بالطاعة إذا أصابهم برحمته ولم يفرطوا في الاستبشار وأن يصبروا على بلائه إذا ضرب زرعهم بالاصفرار ولا يكفروا نعمه .
ثم أخبر تعالى عن حال تقلب ابن آدم في أنه بعيد الاستبشار بالمطر أن بعث الله ريحاً فاصفر بها النبات ظلوا يكفرون قلقاً منهم وقلة توكل وتسليم لله تعالى ، والضمير في { رأوه } للنبات كما قلنا أو للأثر وهو ُحَّوة النبات الذي أحييت به الأرض وقال قوم هو للسحاب ، وقال قوم هو للريح ، وهذا كله ضعيف ، واللام في { لئن } مؤذنة بمجيء القسم ، وفي { لظلوا } لام القسم ، وقوله «ظلوا » فعل ماض نزله منزلة المستقبل واستنابه منابه لأن الجزاء هنا لا يكون إلا بفعل مستقبل لكن يستعمل الماضي بدل المستقبل في بعض المواضع توثيقاً لوقوعه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.