ثم بين أن التحريم والتحليل يكون بالوحي والتنزيل ، فقال : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } . أي شيء محرما ، وروي أنهم قالوا : فما المحرم إذاً فنزل : { قل } يا محمد { لا أجد في ما أوحي إلي محرما } .
قوله تعالى : { على طاعم يطعمه } ، آكل يأكله .
قوله تعالى : { إلا أن يكون ميتةً } ، قرأ ابن عامر وأبو جعفر { تكون } بالتاء ، { ميتة } رفع أي : إلا أن تقع ميتة ، وقرأ ابن كثير وحمزة { تكون } بالتاء ، { ميتة } نصب على تقدير اسم مؤنث ، أي : إلا أن تكون النفس ، أو : الجثة ميتة ، وقرأ الباقون { يكون } بالياء { ميتة } نصب ، يعني إلا أن يكون المطعوم ميتة .
قوله تعالى : { أو دماً مسفوحاً } ، أي : مهراقاً سائلاً ، قال ابن عباس : يريد ما خرج من الحيوان ، وهن أحياء ، وما يخرج من الأوداج عند الذبح ، ولا يدخل فيه الكبد والطحال ، لأنهما جامدان ، وقد جاء الشرع بإباحتهما ، ولا ما اختلط باللحم من الدم ، لأنه غير سائل . قال عمران بن جرير : سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم ، وعن القدر يرى فيهما حمرة الدم ، فقال : لا بأس به ، إنما نهى عن الدم المسفوح . وقال إبراهيم : لا بأس بالدم في عرق أو مخ ، إلا المسفوح الذي تعمد ذلك . وقال عكرمة : لولا هذه الآية لاتبع المسلمون من العروق ما يتبع اليهود .
قوله تعالى : { أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به } . وهو ما ذبح على غير اسم الله تعالى ، فذهب بعض أهل العلم إلى أن التحريم مقصور على هذه الأشياء ، يروى ذلك عن عائشة وابن عباس قالوا : ويدخل في الميتة المنخنقة والموقوذة ، وما ذكر في أول سورة المائدة .
وأكثر العلماء على أن التحريم لا يختص بهذه الأشياء ، بل المحرم بنص الكتاب ما ذكر هنا ، وذلك معنى قوله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } ، وقد حرمت السنة أشياء يجب القول بها . منها : ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، ثنا عبد الغافر بن محمد ، ثنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج قال : ثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ، أخبرنا أبي ، أنا شعبة عن الحكم ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، ثنا زاهر بن أحمد ، ثنا أبو إسحاق الهاشمي ، ثنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن إسماعيل بن أبي حكيم ، عن عبيدة بن سفيان الحضرمي ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أكل كل ذي ناب من السباع حرام ) .
والأصل عند الشافعي : أن ما لم يرد فيه نص تحريم أو تحليل ، فإن كان مما أمر الشرع بقتله كما قال : ( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ) ، أو نهى عن قتله ، كما روي أنه ( نهى عن قطع النخلة ، وقتل النملة فهو حرام ) وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب من عادات العرب ، فما يأكله الأغلب منهم فهو حلال ، وما لا يأكله الأغلب منهم فهو حرام ، لأن الله تعالى خاطبهم بقوله : { قل أحل لكم الطيبات } فثبت أن ما استطابوه فهو حلال .
قوله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم } ، أباح الله كل هذه المحرمات عند الاضطرار في غير العدوان .
والآن وقد كشف لهم عما في معتقداتهم وتصوراتهم وتصرفاتهم من وهن وسخف وهزال . وقد بين لهم أنها لا تقوم على علم ولا بينة ولا أساس . وقد ردهم إلى نشأة الحرث والأنعام التي يتصرفون فيها من عند أنفسهم ، أو بوحي شياطينهم وشركائهم ، بينما هؤلاء لم يخلقوها لهم ، إنما الذي خلقها لهم هو الله ، الذي يجب أن تكون له وحده الحاكمية فيما خلق وفيما رزق ، وفيما أعطى من الأموال للعباد . .
الآن يقرر لهم ما حرمه الله عليهم من هذا كله . ما حرمه الله حقاً عن بينة ووحي ، لا عن ظن ووهم . والله هو صاحب الحاكمية الشرعية ، الذي إذا حرم الشيء فهو حرام ، وإذا أحله فهو حلال ؛ بلا تدخل من البشر ولا مشاركة ولا تعقيب في سلطان الحاكمية والتشريع . . وبالمناسبة يذكر ما حرمه الله على اليهود خاصة ، وأحله للمسلمين ، فقد كان عقوبة خاصة لليهود على ظلمهم وبعدهم عن شرع الله !
( قل : لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه ، إلا أن يكون ميتة ، أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير - فإنه رجس - أو فسقاً أهل لغير الله به . فمن اضطر - غير باغ ولا عاد - فإن ربك غفور رحيم . وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر . ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما - إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم - ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون . فإن كذبوك فقل : ربكم ذو رحمة واسعة ، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ) . .
" يقول - جل ثناؤه - لنبيه محمد [ ص ] قل ، يا محمد ، لهؤلاء الذين جعلوا الله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله . والقائلين : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - والمحرمين من أنعام أخر ظهورها ، والتاركين ذكر اسم الله على أخر منها . والمحرمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم ، ومُحليه لذكورهم . المحرمين ما رزقهم الله افتراء على الله ؛ وإضافة ما يحرمون من ذلك إلى أن الله هو الذي حرمه عليهم : أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم ، فأنبئونا به ، أم وصاكم الله بتحريمه مشاهدة منكم له ، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه ؟ فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك ، ولا يمكنكم دعواه ، لأنكم إذا ادعيتموه علم الناس كذبكم . فإني لا أجد فيما أوحي إلي من كتابه وآي تنزيله شيئاً محرماً على آكل يأكله ، مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريم ما حرم عليكم منها - بزعمكم - إلا أن يكون( ميتة ) ، قد ماتت بغير تذكية ، أو ( دماً مسفوحاً ) ، وهو المنصبّ ، أو إلا أن يكون لحم خنزير ( فإنه رجس ) . . ( أو فسقا ) " يقول : أو إلا أن يكون فسقاً ، يعني بذلك : أو إلا أن يكون مذبوحاً ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته فذكر اسم وثنه . فإن ذلك الذبح فسق ، نهى الله عنه وحرمه ، ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك لأنه ميتة .
" وهذا إعلام من الله - جل ثناؤه - للمشركين الذين جادلوا نبي الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم به ، أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرمه الله ، وأن الذي زعموا أن الله حرمه حلال أحله الله ؛ وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله " . .
وقال في تأويل قوله تعالى : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ) :
. . . " أن معناه : فمن اضطر إلى أكل ما حرم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنزير ، أو ما أهل لغير الله به ، غير باغ في أكله إياه تلذذاً ، لا لضرورة حالة من الجوع ؛ ولا عاد في أكله بتجاوزه ما حده الله وأباحه له من أكله ، وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك . . لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه . . فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك . ( فإن الله غفور ) فيما فعل من ذلك ، فساتر عليه ، بتركه عقوبته عليه . ولو شاء عاقبة عليه . ( رحيم ) بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه . ولو شاء حرمه عليه ومنعه منه " .
أما حد الاضطرار الذي يباح فيه الأكل من هذه المحرمات ؛ والمقدار المباح منها فحولهما خلافات فقهية . . فرأي أنه يباح ما يحفظ الحياة فقد عند خوف الهلاك لو امتنع . . ورأي أنه يباح ما يحقق الكفاية والشبع . . ورأي أنه يباح فوق ذلك ما يدخر لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام . . ولا ندخل في تفصيلات الفروع . . فهذا القدر منها يكفي في هذا الموضع .
يقول تعالى آمرًا عبده ورسوله محمدًا ، صلوات الله وسلامه عليه : قل لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله : { لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } أي : آكل يأكله . قيل : معناه : لا أجد شيئًا مما حرمتم حرامًا سوى هذه . وقيل : معناه : لا أجد من الحيوانات شيئًا{[11286]} حرامًا سوى هذه . فعلى هذا يكون ما ورد من التحريمات بعد هذا في سورة " المائدة " ، وفي الأحاديث الواردة ، رافعًا لمفهوم هذه الآية .
ومن الناس من يسمي ذلك نسخًا ، والأكثرون من المتأخرين لا يسمونه نسخًا ؛ لأنه من باب رفع مباح الأصل ، والله أعلم .
قال العَوْفي ، عن ابن عباس : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } يعني : المهراق .
قال عِكْرِمة في قوله : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } لولا هذه الآية لتتبع الناس ما في العُرُوق ، كما تتبعه اليهود .
وقال حماد ، عن عمران بن حُدَير قال : سألت أبا مِجْلَز عن الدم ، وما يتلطخ من الذبح من الرأس ، وعن القِدْر يُرَى فيها الحمرة ، فقال : إنما نهى الله عن الدم المسفوح .
وقال قتادة : حرم من الدماء ما كان مسفوحًا ، فأما لحم خالطه دم فلا بأس به .
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا حماد ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم ، عن عائشة : أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسًا ، والحمرة والدم يكونان على{[11287]} القدر بأسًا ، وقرأت هذه الآية . صحيح غريب{[11288]} .
وقال الحميدي : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار قال : قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر ، فقال : قد كان يقول ذلك " الحَكَمُ بنُ عَمْرو " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن أبى ذلك الحبر - يعني ابن عباس - وقرأ : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا } الآية .
وهكذا رواه البخاري عن علي بن المديني ، عن سفيان ، به . وأخرجه أبو داود من حديث ابن جُرَيْج ، عن عمرو بن دينار . ورواه الحاكم في مستدركه مع أنه في صحيح البخاري ، كما رأيت{[11289]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه والحاكم في مستدركه : حدثنا محمد بن على بن دُحَيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا ، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا هذه الآية : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ] }{[11290]} إلى آخر الآية .
وهذا لفظ ابن مَرْدُوَيه . ورواه أبو داود منفردًا به ، عن محمد بن داود بن صبيح ، عن أبي نعيم به . وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[11291]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن سِمَاك بن حرب ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسَوْدَة بنت زَمْعَة ، فقالت : يا رسول الله ، ماتت فلانة - تعني الشاة - قال : " فلم لا{[11292]} أخذتم مَسْكها ؟ " . قالت : نأخذ مَسْك شاة قد ماتت ؟ ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما قال الله : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ } وإنكم لا تطعمونه ، أن تدبغوه فتنتفعوا به " . فأرسلت فسلخت مسكها فدبغته ، فاتخذت منه قربة ، حتى تخرقت عندها{[11293]} .
ورواه البخاري والنسائي ، من حديث الشعبي ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، عن سودة بنت زمعة ، بذلك أو نحوه{[11294]} .
وقال سعيد بن منصور : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن عيسى بن نُميلَة الفزاري ، عن أبيه قال : كنت عند ابن عمر ، فسأله رجل عن أكل القنفذ ، فقرأ عليه : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ ] }{[11295]} الآية ، فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " خبيث من الخبائث " . فقال ابن عمر : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال .
ورواه أبو داود ، عن أبي ثور ، عن سعيد بن منصور ، به{[11296]} .
وقوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } أي : فمن اضطر إلى أكل شيء مما حُرّم في هذه الآية الكريمة ، وهو غير متلبس ببغي ولا عدوان ، { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : غفور له ، رحيم به .
وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية .
والمقصود من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه ، من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البَحِيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك ، فأمر [ الله ]{[11297]} رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم ، وإنما حُرِّم ما ذكر في [ هذه ]{[11298]} الآية ، من الميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به . وما عدا ذلك فلم يحرم ، وإنما هو عفو مسكوت عنه ، فكيف تزعمون [ أنتم ]{[11299]} أنه حرام ، ومن أين حرمتموه ولم يحرمه [ الله ]{[11300]} ؟ وعلى هذا فلا يبقى تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا ، كما جاء النهي عن لحوم الحمر ولحوم السباع ، وكل ذي مخلب من الطير ، على المشهور من مذاهب{[11301]} العلماء .
{ قل لا أجد فيما أوحي إلي } أي في القرآن ، أو فيما أوحي إلي مطلقا ، وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى . { محرما } طعاما محرما . { على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } أن يكون الطعام ميتة ، وقرأ ابن كثير وحمزة تكون بالتاء لتأنيث الخبر ، وقرأ ابن عامر بالياء ، ورفع ال{ ميتة } على أن كان هي التامة وقوله : { أو دما مسفوحا } عطف على أن مع ما في حيزه أي : إلا وجود ميتة أو دم مسفوحا ، أي مصبوبا كالدم في العروق لا كالكبد والطحال . { أو لحم خنزير فإنه رجس } فإن الخنزير أو لحمه قذر لتعدوه أكل النجاسة أو خبيث محنث { أو فسقا } عطف على لحم خنزير . وما بينهما اعتراض للتعليل . { أهل لغير الله به } صفة له موضحة وإنما سمي ما ذبح على اسم الصنم فسقا لتوغله في الفسق ، ويجوز أن يكون فسقا مفعولا له من أهل وهو عطف على يكون والمستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون . { فمن اضطر } فمن دعته الضرورة إلى تناول شيء من ذلك { غير باغ } على مضطر مثله . { ولا عاد } قدر الضرورة { فإن ربك غفور رحيم } لا يؤاخذه ، والآية محكمة لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أوحي إلى تلك الغاية محرما غير هذه ، وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء أخر فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ولا على حل الأشياء غيرها إلا مع الاستصحاب .
هذا أمر من الله عز وجل بأن يشرع للناس جميعاً ويبين عن الله ما أوحي إليه ، وهذه الآية نزلت بمكة ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت شيء محرم غير هذه الأشياء ، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، فإن هذه وإن كانت في حكم الميتة فكان في النظر احتمال أن تلحق بالمذكيات لأنها بأسباب وليست حتف الأنف{[5129]} ، فلما بين النص إلحاقها بالميتة كانت زيادة في المحرمات ، ثم نزل النص على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الخمر بوحي غير مُنْجَز ، وبتحريم كل ذي ناب من السباع ، فهذه كلها زيادات في التحريم ولفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور إلى غاية المنع والحظر ، وصالحة بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهية ونحوها ، فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين وأجمع عليه الكل منهم ولم يضطرب فيه ألفاظ الأحاديث وأمضاه الناس على أذلاله{[5130]} وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع ولحق بالخنزير والميتة ، وهذه صفة تحريم الخمر وما اقترنت به قرينة ألفاظ الحديث واختلفت الأمة فيه مع علمهم بالأحاديث كقوله عليه السلام «كل ذي ناب من السباع حرام »{[5131]} .
وقد ورد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع{[5132]} ثم اختلفت الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهية ونحوها ، وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه السلام لحوم الحمر الإنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنها نجس ، وتأول بعضهم ذلك لئلا تفنى حمولة الناس ، وتأول بعضهم التحريم المحض ، وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم لحمها فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم بحسب اجتهاده وقياسه على كراهية أو نحوها .
وروي عن ابن عامر أنه قرأ «فيما أَوحَى إلي » بفتح الهمزة والحاء وقرأ جمهور الناس يطعمه وقرأ أبو جعفر محمد بن علي «يطّعِمه » بتشديد الطاء وكسر العين ، وقرأ محمد بن الحنفية وعائشة وأصحاب عبد الله «طعمه » بفعل ماض ، وقرأ نافع والكسائي وأبو عمرو وعاصم «إلا أن يكون » بالياء على تقدير إلا أن يكون المطعوم ، وقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو أيضاً «إلا أن تكون » بالتاء من فوق «ميتة » على تقدير إلا أن تكون المطعومة ، وقرأ ابن عامر وحده وذكرها مكي عن ابي جعفر «إلا أن تكون » بالتاء «ميتةٌ » بالرفع على أن تجعل «تكون » بمعنى تقع ، ويحتاج على هذه القراءة أن يعطف { أو دماً } على موضع «أن تكون » ، لأنها في موضع نصب بالاستثناء ، والمسفوح الجاري الذي يسيل ، وجعل الله هذا فرقاً بين القليل والكثير ، والمسفوح : السائل من الدم ونحوه ، ومنه قول الشاعر وهو طرفة :
إذا ما عَادهُ مِنّا نِساءٌ . . . سَفَحْنَ الدَّمْعَ مِنْ بعْدِ الرَّنِينِ{[5133]}
وإن شفائي عبرة إن سفحتها . . . وهل عند رسم دارس من معول{[5134]}
فالدم المختلط باللحم ، والدم الخارج من مرق اللحم ، وما شاكل هذا حلال ، والدم غير المسفوح هو هذا وهو معفوّ عنه ، وقيل لأبي مجلز في القدر تعلوها الحمرة من الدم قال : إنما حرم الله المسفوح ، وقالت نحوه عائشة وغيرها وعليه إجماع العلماء .
وقيل : الدم حرام لأنه إذا زايل فقد انسفخ ، و «الرجس » النتن والحرام ، يوصف بذلك الأجرام والمعاني كما قال عليه السلام : «دعوها فإنها منتنة »{[5135]} ؛ الحديث ، فكذلك قيل في الأزلام والخمر رجس ، والرجس أيضاً العذاب لغة بمعنى الرجز ، وقوله { أو فسقاً } يريد ذبائحهم التي يختصون بها أصنامهم ، وقوله تعالى : { فمن اضطر } الآية ، أباح الله فيها مع الضرورة ركوب المحظور دون بغي .
واختلف الناس فيم ذا ؟ فقالت فرقة دون أن يبغي الإنسان في أكله فيأكل فوق ما يقيم رمقه وينتهي إلى حد الشبع وفوقه ، وقالت فرقة : بل دون أن يبغي في أن يكون سفره في قطع طريق أو قتل نفس أو يكون تصرفه في معصية فإن ذلك لا رخصة له ، وأما من لم يكن بهذه الأحوال فاضطر فله أن يشبع ويتزود ، وهذا مشهور قول مالك بن أنس رحمه الله ، وقال بالأول الذي هو الاقتصار على سد الرمق عبد المالك بن حبيب رحمه الله ، وقوله { فإن ربك غفور رحيم } إباحة تعطيها قوة اللفظ{[5136]} .