قوله تعالى : " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما " أعلم الله عز وجل في هذه الآية بما حرم . والمعنى : يا محمد لا أجد فيما أوحي إلي محرما إلا هذه الأشياء ، لا ما تحرمونه بشهوتكم . والآية مكية . ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرم غير هذه الأشياء ، ثم نزلت سورة " المائدة " بالمدينة . وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة{[6819]} والمتردية والنطيحة والخمر وغير ذلك . وحرم رسول الله صلى الله عليه بالمدينة أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير . وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية وتأويلها على أقوال : الأول : ما أشرنا إليه من أن هذه الآية مكية ، وكل محرم حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جاء في الكتاب مضموم إليها ، فهو زيادة حكم من الله عز وجل على لسان نبيه عليه السلام . على هذا أكثر أهل العلم من أهل{[6820]} النظر ، والفقه والأثر . ونظيره نكاح{[6821]} المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قوله : " وأحل لكم ما وراء ذلكم{[6822]} " [ النساء : 24 ] وكحكمه باليمين مع الشاهد مع قوله : " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان{[6823]} " [ البقرة : 282 ] وقد تقدم . وقد قيل : إنها منسوخة بقوله عليه السلام ( أكل كل ذي ناب من السباع حرام ) أخرجه مالك ، وهو حديث صحيح . وقيل : الآية محكمة ولا حرام إلا ما فيها وهو قول يروى عن ابن عباس وابن عمر وعائشة ، وروي عنهم خلافه . قال مالك : لا حرام بين إلا ما ذكر في هذه الآية . وقال ابن خويز منداد : تضمنت هذه الآية تحليل كل شيء من الحيوان وغيره إلا ما استثني في الآية من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير . ولهذا قلنا : إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان والخنزير مباح . وقال الكيا الطبري : وعليها بنى الشافعي تحليل كل مسكوت عنه ، أخذا من هذه الآية ، إلا ما دل عليه الدليل . وقيل : إن الآية جواب لمن سأل عن شيء بعينه فوقع الجواب مخصوصا . وهذا مذهب الشافعي . وقد روى الشافعي عن سعيد بن جبير أنه قال : في هذه الآية أشياء سألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء . وقيل : أي لا أجد فيما أوحي إلي أي في هذه الحال حال الوحي ووقت نزوله ، ثم لا يمتنع حدوث وحي بعد ذلك بتحريم أشياء أخر . وزعم ابن العربي أن هذه الآية مدنية وهي{[6824]} مكية في قول الأكثرين ، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم نزل عليه " اليوم أكملت لكم دينكم " {[6825]} [ المائدة : 3 ] ولم ينزل بعدها ناسخ فهي محكمة ، فلا محرم إلا ما فيها ، وإليه أميل .
قلت : وهذا ما رأيته قاله غيره . وقد ذكر أبو عمر بن عبدالبر الإجماع في أن سورة " الأنعام " مكية إلا قوله تعالى : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " [ الأنعام : 151 ] الثلاث الآيات ، وقد نزل بعدها قرآن كثير وسنن جمة . فنزل تحريم الخمر بالمدينة في " المائدة " . وأجمعوا على أن نهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع إنما كان منه بالمدينة . قال إسماعيل بن إسحاق : وهذا كله يدل على أنه أمر كان بالمدينة بعد نزول قوله : " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما " لأن ذلك مكي .
قلت : وهذا هو مثار الخلاف بين العلماء . فعدل جماعة عن ظاهر الأحاديث الواردة بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ؛ لأنها متأخرة عنها والحصر فيها ظاهر فالأخذ بها أولى ؛ لأنها إما ناسخة لما تقدمها أو راجحة على تلك الأحاديث . وأما القائلون بالتحريم فظهر لهم وثبت عندهم أن سورة " الأنعام " مكية ، نزلت قبل الهجرة ، وأن هذه الآية قصد بها الرد على الجاهلية في تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، ثم بعد ذلك حرم أمورا كثيرة كالحمر الإنسية ولحوم البغال وغيرها ، وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير . قال أبو عمر : ويلزم على قول من قال : " لا محرم إلا ما فيها " ألا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا ، وتستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين . وفي إجماع المسلمين على تحريم خمر العنب دليل واضح على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد فيما أوحي إليه محرما غير ما في سورة " الأنعام " مما{[6826]} قد نزل بعدها من القرآن . وقد اختلفت الرواية عن مالك في لحوم السباع والحمير والبغال فقال مرة{[6827]} : هي محرمة ؛ لما ورد من نهيه عليه السلام عن ذلك ، وهو الصحيح من قول على ما في الموطأ . وقال مرة : هي مكروهة ، وهو ظاهر المدونة ؛ لظاهر الآية ؛ ولما روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة من إباحة أكلها ، وهو قول الأوزاعي . روى البخاري من رواية عمرو بن دينار قال : قلت لجابر بن زيد إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية ؟ فقال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة ، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس ، وقرأ " قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما " . وروي عن ابن عمر أنه سئل عن لحوم السباع فقال : لا بأس بها . فقيل له : حديث أبي ثعلبة الخشني{[6828]} فقال : لا ندع كتاب الله ربنا لحديث{[6829]} أعرابي يبول على ساقيه . وسئل الشعبي عن لحم الفيل والأسد فتلا هذه الآية . وقال القاسم : كانت عائشة تقول لما سمعت الناس يقولون حرم كل ذي ناب من السباع : ذلك حلال ، وتتلو هذه الآية " قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما " ثم قالت : إن كانت البرمة ليكون ماؤها أصفر من الدم ثم يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحرمها .
والصحيح في هذا الباب ما بدأنا بذكره ، وإن ما ورد من المحرمات بعد الآية مضموم إليها معطوف عليها . وقد أشار القاضي أبو بكر بن العربي إلى هذا في قبسه خلاف ما ذكر في أحكامه قال : روي عن ابن عباس أن هذه الآية من آخر ما نزل ، فقال البغداديون من أصحابنا : إن كل ما عداها حلال ، لكنه يكره أكل السباع . وعند فقهاء الأمصار منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وعبدالملك أن أكل كل ذي ناب من السباع حرام ، وليس يمتنع أن تقع الزيادة بعد قوله : " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما " بما يرد من الدليل فيها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) فذكر الكفر والزنى والقتل . ثم قال علماؤنا : إن أسباب القتل عشرة بما ورد من الأدلة ، إذ النبي صلى الله عليه وسلم إنما يخبر بما وصل إليه من العلم عن الباري تعالى ، وهو يمحو ما يشاء ويثبت وينسخ ويقدم . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أكل كل ذي ناب من السباع حرام ) وقد روي أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير . وروى مسلم عن معن عن مالك : " نهي عن أكل كل ذي مخلب من الطير " والأول أصح وتحريم كل ذي ناب من السباع هو صريح المذهب ، وبه ترجم مالك في الموطأ حين قال : تحريم أكل كل ذي ناب من السباع . ثم ذكر الحديث وعقبه بعد ذلك بأن قال : وهو الأمر عندنا . فأخبر أن العمل أطرد مع الأثر . قال القشيري : فقول مالك " هذه الآية من أواخر ما نزل " لا يمنعنا من{[6830]} أن نقول : ثبت تحريم بعض هذه الأشياء بعد هذه الآية ، وقد أحل الله الطيبات وحرم الخبائث ، ونهى رسول الله صلى عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن أكل كل ذي مخلب من الطير ، ونهى عن لحوم الحمر الأهلية عام خيبر . والذي يدل على صحة هذا التأويل الإجماع على تحريم العذرة والبول والحشرات المستقذرة والحمر مما ليس مذكورا في هذه الآية .
الثانية - قوله تعالى : " محرما " قال ابن عطية : لفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه مسلم ، فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور غاية الحظر والمنع ، وصالحة أيضا{[6831]} بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهة ونحوها ، فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين وأجمع الكل منهم ولم تضطرب فيه ألفاظ الأحاديث وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع ، ولحق بالخنزير والميتة والدم ، وهذه صفة تحريم الخمر . وما اقترنت به قرينة اضطراب ألفاظ الأحاديث واختلفت الأئمة فيه مع علمهم بالأحاديث كقوله عليه السلام : ( أكل كل ذي ناب من السباع حرام ) . وقد ورد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ، ثم اختلفت الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك ، فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهة ونحوها . وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه السلام لحوم الحمر الإنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنه نجس ، وتأول بعضهم ذلك لئلا تفنى حمولة الناس ، وتأول بعضهم التحريم المحض . وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم لحمها ، فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهة ونحوها نحوها{[6832]} بحسب اجتهاده وقياسه .
قلت : وهذا عقد حسن في هذا الباب وفي سبب الخلاف على ما تقدم . وقد قيل : إن الحمار لا يؤكل ؛ لأنه أبدى جوهره الخبيث حيث نزا على ذكر وتلوط ، فسمي رجسا . قال محمد بن سيرين : ليس شيء من الدواب يعمل عمل قوم لوط إلا الخنزير والحمار . ذكره الترمذي في نوادر الأصول .
الثالثة - روى عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء ، فبعث الله نبيه عليه السلام وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه ، فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا هذه الآية " قل لا أجد " الآية . يعني ما لم يبين تحريمه فهو مباح بظاهر هذه الآية . وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عباس أنه قرأ " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما " قال : إنما حرم من الميتة أكلها ، ما يؤكل منها وهو اللحم ، فأما الجلد والعظم والصوف والشعر فحلال . وروى أبو داود عن ملقام بن تلب عن أبيه قال : صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريما . الحشرة : صغار دواب الأرض كاليرابيع والضباب والقنافذ . ونحوها ، قال الشاعر :
أكلنا الرُّبَى{[6833]} يا أمَّ عمرو ومن يَكُنْ *** غريبا لديكُم يأكلِ الحشرات
أي ما دب ودرج . والربى جمع ربية وهي الفأرة . قال الخطابي : وليس في قوله " لم أسمع ل لها تحريما " دليل على أنها مباحة ؛ لجواز أن يكون غيره قد سمعه . وقد اختلف الناس في اليربوع والوبر{[6834]} والجمع وبار ونحوهما من الحشرات ، فرخص في اليربوع عروة وعطاء والشافعي وأبو ثور . قال الشافعي : لا بأس بالوبر وكرهه ابن سيرين والحكم وحماد وأصحاب الرأي . وكره أصحاب الرأي القنفذ . وسئل عنه مالك بن أنس فقال : لا أدري . وحكى أبو عمرو : وقال مالك لا بأس بأكل القنفذ . وكان أبو ثور لا يرى به بأسا ، وحكاه عن الشافعي . وسئل عنه ابن عمر فتلا " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما " الآية ؛ فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( خبيثة من الخبائث ) . فقال ابن عمر : إن كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فهو كما قال . ذكره أبو داود . وقال مالك : لا بأس بأكل الضب واليربوع والورل{[6835]} . وجائز عنده أكل الحيات إذا ذكيت ، وهو قول ابن أبي ليلى والأوزاعي . وكذلك الأفاعي والعقارب والفأر والعظاية{[6836]} والقنفذ والضفدع . وقال ابن القاسم : ولا بأس بأكل خشاش الأرض وعقاربها ودودها في قول مالك ؛ لأنه قال : موته في الماء لا يفسده . وقال مالك : لا بأس بأكل فراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه . والحجة له حديث ملقام{[6837]} بن تلب ، وقول ابن عباس وأبي الدرداء : ما أحل الله فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو . وقالت عائشة في الفأرة : ما هي بحرام ، وقرأت " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما " . ومن علماء أهل المدينة جماعة لا يجيزون أكل كل شيء من خشاش الأرض وهوامها ، مثل الحيات والأوزاغ والفأر وما أشبهه . وكل ما يجوز قتله فلا يجوز عند هؤلاء أكله ، ولا تعمل الذكاة عندهم فيه . وهو قول ابن شهاب وعروة والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم . ولا يؤكل عند مالك وأصحابه شيء من سباع الوحش كلها ، ولا الهر الأهلي ولا الوحشي لأنه سبع . وقال : ولا يؤكل الضبع ولا الثعلب ، ولا بأس بأكل سباع الطير كلها : الرخم والنسور والعقبان وغيرها ، ما أكل الجيف منها وما لم يأكل . وقال الأوزاعي : الطير كله حلال ، إلا أنهم يكرهون الرخم . وحجة مالك أنه لم يجد أحدا من أهل العلم يكره أكل سباع الطير ، وأنكر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه نهى عن أكل كل ذي مخلب من الطير ) . وروي عن أشهب أنه قال : لا بأس بأكل الفيل إذا ذكي . وهو قول الشعبي ، ومنع منه الشافعي . وكره النعمان وأصحابه أكل الضبع والثعلب . ورخص في ذلك الشافعي ، وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضباع . وحجة مالك عموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ، ولم يخص سبعا من سبع . وليس حديث الضبع الذي خرجه النسائي في إباحة أكلها مما يعارض به حديث النهي ؛ لأنه حديث انفرد به عبدالرحمن بن أبي عمار ، وليس مشهورا بنقل العلم ، ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه . قال أبو عمر : وقد روي النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة . وروى ذلك جماعة من الأئمة الثقات الأثبات ، ومحال أن يعارضوا بمثل حديث ابن أبي عمار . قال أبو عمر : أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أكل القرد لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله ، ولا يجوز بيعه لأنه لا منفعة فيه . قال : وما علمت أحدا رخص في أكله إلا ما ذكره عبدالرزاق عن معمر عن أيوب . سئل مجاهد عن أكل القرد فقال : ليس من بهيمة الأنعام .
قلت : ذكر ابن المنذر أنه قال : روينا عن عطاء أنه سئل عن القرد يقتل في الحرم فقال : يحكم به ذوا عدل . قال : فعلى مذهب عطاء يجوز أكل لحمه ؛ لأن الجزاء لا يجب على من قتل غير الصيد . وفي ( بحر المذهب ) للروياني على مذهب الإمام الشافعي : وقال الشافعي يجوز بيع القرد لأنه يعلم وينتفع به لحفظ المتاع . وحكى الكشفلي عن ابن شريح يجوز بيعه لأنه ينتفع به . فقيل له : وما وجه الانتفاع به ؟ قال تفرح به الصبيان . قال أبو عمر : والكلب والفيل وذو الناب كله عندي مثل القرد . والحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في قول غيره . وقد زعم ناس أنه لم يكن في العرب من يأكل لحم الكلب إلا قوم من فقعس . وروى أبو داود عن ابن عمر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها . في رواية : عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها . قال الحليمي أبو عبدالله : فأما الجلالة فهي التي تأكل العذرة من الدواب والدجاج المخلاة . ونهى النبي عن لحومها . وقال العلماء : كل ما ظهر منها ريح العذرة في لحمه أو طعمه فهو حرام ، وما لم يظهر فهو حلال . وقال الخطابي : هذا نهي تنزه وتنظف ، وذلك أنها إذا اغتذت الجلة وهي العذرة وجد نتن رائحتها في لحومها ، وهذا إذا كان غالب علفها منها ، فأما إذا رعت الكلأ واعتلفت الحب وكانت تنال مع ذلك شيئا من الجلة فليست بجلالة ، وإنما هي كالدجاج المخلاة ، ونحوها من الحيوان الذي ربما نال الشيء منها وغالب غذائه وعلفه من غيره فلا يكره أكلها . وقال أصحاب الرأي والشافعي وأحمد : لا تؤكل حتى تحبس أياما وتعلف علفا غيرها ، فإذا طاب لحمها أكلت . وقد روي في الحديث ( أن البقر تعلف أربعين يوما ثم يؤكل لحمها ) . وكان ابن عمر يحبس الدجاج ثلاثا ثم يذبح . وقال إسحاق : لا بأس بأكلها بعد أن يغسل لحمها غسلا جيدا . وكان الحسن لا يرى بأسا بأكل لحم الجلالة ، وكذلك مالك بن أنس . ومن هذا الباب نُهِيَ أن تلقى في الأرض العذرة . روي عن بعضهم قال : كنا نكري أرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط على من يكريها ألا يلقي فيها العذرة . وعن ابن عمر أنه كان يكري أرضه ويشترط ألا تدمن بالعذرة{[6838]} . وروي أن رجل كان يزرع أرضه بالعذرة فقال له عمر : أنت الذي تطعم الناس ما يخرج منهم . واختلفوا في أكل الخيل ، فأباحها الشافعي ، وهو الصحيح ، وكرهها مالك . وأما البغل فهو متولد من بين الحمار والفرس ، وأحدهما مأكول أو مكروه وهو الفرس ، والآخر محرم وهو الحمار ، فغلب حكم التحريم ؛ لأن التحليل والتحريم إذا اجتمعا في عين واحدة غلب حكم التحريم . وسيأتي بيان هذه المسألة في " النحل{[6839]} " إن شاء الله بأوعب من هذا . وسيأتي حكم الجراد في " الأعراف " {[6840]} .
والجمهور من الخلف والسلف على جواز أكل الأرنب . وقد حكي عن عبدالله بن عمرو بن العاص تحريمه . وعن ابن أبي ليلى كراهته . قال عبدالله بن عمرو : جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس فلم يأكلها ولم ينه عن أكلها . وزعم أنها تحيض . ذكره أبو داود . وروى النسائي مرسلا عن موسى بن طلحة قال : أتي النبي بأرنب قد شواها رجل وقال : يا رسول الله ، إني رأيت بها دما ، فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأكلها ، وقال لمن عنده : ( كلوا فإني لو اشتهيتها أكلتها ) .
قلت : وليس في هذا ما يدل على تحريمه ، وإنما هو نحو من قوله عليه السلام : ( إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ) . وقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال : مررنا بمر الظهران فاستنفجنا{[6841]} أرنبا فسعوا عليه فلغبوا{[6842]} . قال : فسعيت حتى أدركتها ، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها ، فبعث بوركها وفخذها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله .
الرابعة - قوله تعالى : " على طاعم يطعمه " أي أكل يأكله . وروي عن ابن عامر أنه قرأ " أوحى " بفتح الهمزة . وقرأ علي بن أبي طالب " يطعمه " مثقل الطاء ، أراد يتطعمه فأدغم . وقرأت عائشة ومحمد بن الحنفية " على طاعم طعمه " بفعل ماض " إلا أن يكون ميتة " قرئ بالياء والتاء ؛ أي إلا أن تكون العين أو الجثة أو النفس ميتة . وقرئ " يكون " بالياء " ميتة " بالرفع بمعنى تقع وتحدث ميتة . والمسفوح : الجاري الذي يسيل وهو المحرم . وغيره معفو عنه . وحكى الماوردي أن الدم غير المسفوح أنه إن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال ؛ لقوله عليه السلام : ( أحلت لنا ميتتان ودمان ) الحديث . وإن كان غير ذي عروق يجمد عليها ، وإنما هو مع اللحم ففي تحريمه قولان : أحدهما أنه حرام ؛ لأنه من جملة المسفوح أو بعضه . وإنما ذكر المسفوح لاستثناء الكبد والطحال منه . والثاني أنه لا يحرم ؛ لتخصيص التحريم بالمسفوح .
قلت : وهو الصحيح . قال عمران بن حدير : سألت أبا مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم ، وعن القدر تعلوها الحمرة من الدم فقال : لا بأس به ، إنما حرم الله المسفوح . وقالت نحوه عائشة وغيرها ، وعليه إجماع العلماء . وقال عكرمة : لولا هذه الآية لا تبع المسلمون من العروق ما تتبع اليهود . وقال إبراهيم النخعي : لا بأس بالدم في عرق أو مخ . وقد تقدم هذا وحكم المضطر في " البقرة " {[6843]} والله أعلم{[6844]} .