لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (145)

قوله عز وجل : { قل لا أحد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه } اعلم أنه لما بين الله تعالى فساد طريقة أهل الجاهلية وما كانوا عليه من التضليل والتحريم من عند أنفسهم واتباع أهوائهم فيما أحلوه وحرموه من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في ذلك وبيَّن أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي سماوي وشرع نبوي ، فقال تعالى : قل أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الجاهلين الذي يحللون ويحرمون من عند أنفسهم لا أجد فيما أوحي إليّ ، وقيل إنهم قالوا فما المحرم إذاً فنزل ؟ { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً } يعني شيئاً محرماً على طاعم يطعمه يعني على آكل يأكله { إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً } يعني سائلاً مصبوباً { أو لحم خنزير فإنه رجس } أي نجس { أو فسقاً أهلّ لغير الله به } يعني ما ذبح على غير اسم الله تعالى فبين الله تعالى في هذه الآية أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي منه وأن المحرمات محصورة في الأربعة الأشياء المذكورة في هذه الآية وهي : الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما ذبح على غير اسم الله ، وهذا مبالغة في أن التحريم لا يخرج عن هذه الأربعة وذلك أنه ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرمات إلا بالوحي وثبت أن الله تعالى نص في هذه الآية على هذه الأربعة الأشياء ولهذا اختلف العلماء في حكم هذه الآية فذهب بعضهم إلى ظاهرها وأنه لا يحرم شيء من سائر المطعومات والحيوان إلا ما ذكر في هذه الآية ؛ ويروى ذلك عن ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير وهو ظاهر مذهب مالك واحتجوا على ذلك بأن هذه الآية محكمة لأنها خبر والخبر لا يدخله النسخ واحتجوا بأن هذه الآية وإن كانت مكية لكن يعضدها آية مدنية وهي قوله تعالى في سورة البقرة : { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلَّ به لغير الله } ، وكلمة إنما تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة للآية المكية في الحكم ، وذهب جمهور العلماء إلى أن هذا التحريم لا يختص بهذه الأشياء المنصوص عليها في هذه الآية فإن المحرم بنص الكتاب هو ما ذكر في هذه الآية . وقد حرمت السنة أشياء فوجب القول بها : منها تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب الطير . عن المقدام بن معد يكرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب . ولأبي داود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعفيهم بمثل قراه » .

عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو معفو وتلا : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } الآية أخرجه أبو داود ( م ) عن ابن عباس قال «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير » ( م ) عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية » ( ق ) عن جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل » وفي رواية : «أكلنا من خيبر الخيل وحمر الوحش » ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي عن جابر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهر وأكل ثمنه » وقد استثنى الشارع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال وأباح أكل ذلك وقد تقدم دليله .

والأصل في ذلك عند الشافعي أن كل ما لم يرد فيه نص بتحريم أو تحليل فما كان أمر الشرع بقتله كام ورد في الصحيح «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم وهي الحية والعقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور » وروي عن سعد بن أبي وقاص «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر قتل الوزغ » أخرجه البخاري ومسلم ، وسماه فويسقاً . وعن ابن عباس قال «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب : النملة والنحلة والهدهد والصرد » أخرجه أبو داود فهذا كله حرام لا يحل أكله وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب من عادة العرب فما يستطيبه الأغلب منهم فهو حلال وما يستخبثه الأغلب منهم ولا يأكلونه فهو حرام لأن الله خاطبهم بقوله : { أحل لكم الطيبات } فما استطابوه فهو حلال فهذا تقرير ما يحل ويحرم من المطعومات .

وأما الجواب عن هذه الآية الكريمة فمن وجوه :

أحدها : أن يكون المعنى لا أجد محرماً مما أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب وغيرها إلا ما أوحي إليّ في هذه الآية .

الوجه الثاني : أن يكون المراد وقت نزول هذه الآية لم يكن محرماً غير ما ذكر ونص عليه في هذه الآية ثم حرم بعد نزولها أشياء أخر .

الوجه الثالث : يحتمل أن هذا اللفظ العام خصص بدليل آخر ، وهو ما ورد في السنة .

الوجه الرابع : أن ما ذكر في هذه الآية محرم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما ورد في السنة من المحرمات والله أعلم .

بقي في الآية أحكام في قوله تعالى : { أو دماً مسفوحاً } وهو ما سال من الحيوان في حال الحياة أو عند الذبح فإن ذلك الدم حرام نجس وما سوى ذلك كالكبد والطحال فإنهما حلال لأنهما دمان جامدان . وقد ورد الحديث بإباحتهما وكذا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل ، قال عمران بن جرير : سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم وعن القدر يُرى فيها حمرة الدم فقال لا بأس بذلك وإنما نهي عن الدم المسفوح . وقال إبراهيم النخعي : لا بأس بالدم في عرق أو مخ إلا المسفوح ، وقال عكرمة : لولا هذه الآية لتتبع المسلمون الدم من العروق ما تتبع اليهود .

وقوله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } لما بين الله المحرمات في هذه الآية أباح أكلها عند الاضطرار من غير بغي ولا عدوان ، وفي قوله : { فإن ربك غفور رحيم } دليل على الرخصة والإباحة عند الاضطرار .