قوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } ، أراد به في مقدار ستة أيام لأن اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها ، ولم يكن يومئذ يوم ولا شمس ، ولا سماء . وقيل : ستة أيام كأيام الآخرة ، وكل يوم كألف سنة ، وقيل : كأيام الدنيا ، قال سعيد بن جبير : كان الله عز وجل قادراً على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة ، فخلقهن في ستة أيام ، تعليماً لخلقه التثبت والتأني في الأمور ، وقد جاء في الحديث : ( التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان ) .
قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } ، قال الكلبي ومقاتل : استقر ، وقال أبو عبيدة : صعد ، وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء ، فأما أهل السنة فيقولون : الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف ، يجب على الرجل الإيمان به ، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل ، وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله : { الرحمن على العرش استوى } [ طه :5 ] ، كيف استوى ؟ فأطرق رأسه ملياً ، وعلاه الرحضاء ، ثم قال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وما أظنك إلا ضالاً ، ثم أمر به فأخرج . وروي عن سفيان الثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك ، وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهات ، أمروها كما جاءت بلا كيف ، والعرش في اللغة : هو السرير ، وقيل : هو ما علا فأظل ، ومنه عرش الكروم ، وقيل : العرش الملك .
قوله تعالى : { يغشي الليل النهار } ، قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، ويعقوب : ( يغشي ) بالتشديد هاهنا ، وفي سورة الرعد ، والباقون بالتخفيف ، أي : يأتي الليل على النهار فيغطيه ، وفيه حذف أي : ويغشي النهار الليل ، ولم يذكره لدلالة الكلام عليه ، وذكر في آية أخرى فقال : { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } [ الزمر :5 ] .
قوله تعالى : { يطلبه حثيثاً } ، أي : سريعاً ، وذلك أنه إذا كان يعقب أحدهم الآخر ويخلفه ، فكأنه يطلبه .
قوله تعالى : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات } ، قرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر ، والباقون بالنصب ، وكذلك في سورة النحل عطفاً على قوله : { خلق السموات والأرض } ، أي : خلق هذه الأشياء مسخرات ، أي : مذللات .
قوله تعالى : { بأمره ألا له الخلق والأمر } ، له الخلق لأنه خلقهم ، وله الأمر ، يأمر في خلقه بما يشاء ، قال سفيان بن عيينة : فرق الله بين الخلق والأمر ، فمن جمع بينهما فقد كفر .
قوله تعالى : { تبارك الله } ، أي : تعالى الله وتعظم . وقيل : ارتفع . والمبارك المرتفع . وقيل : تبارك تفاعل من البركة وهي النماء والزيادة ، أي : البركة تكتسب وتنال بذكره ، وعن ابن عباس قال : جاء بكل بركة ، وقال الحسن : تجيء البركة من عنده وقيل : تبارك : تقدس . والقدس : الطهارة ، وقيل : { تبارك الله } أي : باسمه يتبرك في كل شيء . وقال المحققون : معنى هذه الصفة ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال . وأصل البركة الثبوت . ويقال : تبارك لله ، ولا يقال : متبارك ولا مبارك ، لأنه لم يرد به التوقيف .
( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر . تبارك الله رب العالمين ) . .
إن عقيدة التوحيد الإسلامية ، لا تدع مجالاً لأي تصور بشري عن ذات الله سبحانه ؛ ولا عن كيفيات أفعاله . . فالله سبحانه ليس كمثله شيء . . ومن ثم لا مجال للتصور البشري لينشىء صورة عن ذات الله . فكل التصورات البشرية إنما تنشأ في حدود المحيط الذي يستخلصه العقل البشري مما حوله من أشياء . فإذا كان الله - سبحانه - ليس كمثله شيء ، توقف التصور البشري إطلاقاً عن إنشاء صورة معينة لذاته تعالى . ومتى توقف عن إنشاء صورة معينة لذاته العلية فإنه يتوقف تبعاً لذلك عن تصور كيفيات أفعاله جميعاً . ولم يبق أمامه إلا مجال تدبر آثار هذه الأفعال في الوجود من حوله . . وهذا هو مجاله . .
ومن ثم تصبح أسئلة كهذه : كيف خلق الله السماوات والأرض ؟ كيف استوى على العرش ؟ كيف هذا العرش الذي استوى عليه الله سبحانه ؟ ! . . . تصبح هذه الأسئلة وأمثالها لغوا يخالف توجيهها قاعدة الاعتقاد الإسلامي . أما الإجابة عليها فهي اللغو الأشد الذي لا يزاوله من يدرك تلك القاعدة ابتداء ! ولقد خاضت الطوائف - مع الأسف - في هذه المسائل خوضاً شديداً في تاريخ الفكر الإسلامي ، بالعدوى الوافدة على هذا الفكر من الفلسفة الإغريقية !
فأما الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، فهي كذلك غيب لم يشهده أحد من البشر ولا من خلق الله جميعاً : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم . . وكل ما يقال عنها لا يستند إلى أصل مستيقن .
إنها قد تكون ست مراحل . وقد تكون ستة أطوار . وقد تكون ستة أيام من أيام الله التي لاتقاس بمقاييس زماننا الناشئ من قياس حركة الأجرام - إذ لم تكن قبل الخلق هذه الأجرام التي نقيس نحن بحركتها الزمان ! . . وقد تكون شيئاً آخر . . فلا يجزم أحد ماذا يعني هذا العدد على وجه التحديد . . وكل حمل لهذا النص ومثله على " تخمينات " البشرية التي لا تتجاوز مرتبة الفرض والظن - باسم " العلم ! " - هو محاولة تحكمية ، منشؤها الهزيمة الروحية أمام " العلم " الذي لا يتجاوز في هذا المجال درجة الظنون والفروض !
ونخلص نحن من هذه المباحث التي لا تضيف شيئاً إلى هدف النص ووجهته . لنرتاد مع النصوص الجميلة تلك الرحلة الموحية في أقطار الكون المنظور ، وفي أسراره المكنونة :
( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر . تبارك الله رب العالمين ) . .
إن الله الذي خلق هذا الكون المشهود في ضخامته وفخامته . والذي استعلى على هذا الكون يدبره بأمره ويصرفه بقدره . يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً . . في هذه الدوره الدائبة : دورة الليل يطلب النهار في هذا الفلك الدوار . والذي جعل الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . . إن الله الخالق المهيمن المصرف المدبر ، هو( ربكم ) . . هو الذي يستحق أن يكون رباً لكم . يربيكم بمنهجه ، ويجمعكم بنظامه ، ويشرع لكم بإذنه ، ويقضي بينكم بحكمه . . إنه هو صاحب الخلق والأمر . . وكما أنه لا خالق معه . فكذلك لا آمر معه . . هذه هي القضية التي يستهدفها هذا الاستعراض . . قضية الألوهية والربوبية والحاكمية ، وإفراد الله سبحانه بها . . وهي قضية العبودية من البشر في شريعة حياتهم . فهذا هو الموضوع الذي يواجهه سياق السورة ممثلاً في مسائل اللباس والطعام . كما كان سياق سورة الأنعام يواجهه كذلك في مسائل الأنعام والزروع والشعائر والنذور .
ولا ينسينا الهدف العظيم الذي يستهدفه السياق القرآني بهذا الاستعراض ، أن نقف لحظات أمام روعة المشاهد وحيويتها وحركتها وإيحاءاتها العجيبة . فهي من هذه الوجهة كفء للهدف العظيم الذي تتوخاه . .
إن دورة التصور والشعور مع دورة الليل والنهار في هذا الفلك الدوار ، والليل يطلب النهار حثيثاً ، ويريده مجتهداً ! لهي دورة لا يملك الوجدان ألا يتابعها ؛ وألا يدور معها ! وألا يرقب هذا السباق الجبار بين الليل والنهار ، بقلب مرتعش ونفس لاهث ! وكله حركة وتوفز ، وكله تطلع وانتظار !
إن جمال الحركة وحيويتها و " تشخيص " الليل والنهار في سمت الشخص الواعي ذي الإرادة والقصد . . إن هذا كله مستوى من جمال التصوير والتعبير لا يرقى إليه فنّ بشري على الإطلاق !
إن الألفة التي تقتل الكون ومشاهده في الحس ؛ وتطبع النظرة إليه بطابع البلادة والغفلة . . إن هذه الألفة لتتوارى ، ليحل محلها وقع المشهد الجديد الرائع الذي يطالع الفطرة كأنما لأول وهلة ! . . إن الليل والنهار في هذا التعبير ليسا مجرد ظاهرتين طبيعيتين مكرورتين . وإنما هما حيان ذوا حس وروح وقصد واتجاه . يعاطفان البشر ويشاركانهم حركة الحياة ؛ وحركة الصراع والمنافسة والسباق التي تطبع الحياة !
كذلك هذه الشمس والقمر والنجوم . . إنها كائنات حية ذات روح ! إنها تتلقى أمر الله وتنفذه ، وتخضع له وتسير وفقه . إنها مسخرة ، تتلقى وتستجيب ، وتمضي حيث أمرت كما يمضي الأحياء في طاعة الله !
ومن هنا يهتز الضمير البشري ؛ وينساق للإستجابة ، في موكب الأحياء المستجيبة . ومن هنا هذا السلطان للقرآن الذي ليس لكلام البشر . . إنه يخاطب فطرة الإنسان بهذا السلطان المستمد من قائله - سبحانه - الخبير بمداخل القلوب وأسرار الفطر . .
يخبر تعالى بأنه خلق هذا العالم : سماواته وأرضه ، وما بين ذلك في ستة أيام ، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن ، والستة الأيام هي : الأحد ، والاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، والجمعة - وفيه اجتمع الخلق كله ، وفيه خلق آدم ، عليه السلام . واختلفوا في هذه الأيام : هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان{[11812]} ؟ أو كل يوم كألف سنة ، كما نص على ذلك مجاهد ، والإمام أحمد بن حنبل ، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس ؟ فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق ؛ لأنه اليوم السابع ، ومنه سمي السبت ، وهو القطع .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا حجاج ، حدثنا ابن جُرَيْج ، أخبرني إسماعيل بن أُمَيَّة ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة - عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : " خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق ، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل " .
فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه ، عن حجاج - وهو ابن محمد الأعور - عن ابن جريج به{[11813]} وفيه استيعاب الأيام السبعة ، والله تعالى قد قال في ستة أيام ؛ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث ، وجعلوه من رواية أبي هريرة ، عن كعب الأحبار ، ليس مرفوعا ، والله أعلم .
وأما قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ، ليس هذا موضع بسطها ، وإنما يُسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح : مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والليث بن سعد ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه وغيرهم ، من أئمة المسلمين قديما وحديثا ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل . والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله ، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه ، و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] بل الأمر كما قال الأئمة - منهم نُعَيْم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري - : " من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر " . وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه ، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة ، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى ، ونفى عن الله تعالى النقائص ، فقد سلك سبيل الهدى .
وقوله تعالى : { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } أي : يذهب ظلام هذا بضياء هذا ، وضياء هذا بظلام هذا ، وكل منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا ، أي : سريعًا لا يتأخر عنه ، بل إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب هذا ، كما قال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 37 - 40 ] فقوله : { وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } أي : لا يفوته بوقت يتأخر عنه ، بل هو في أثره لا واسطة بينهما ؛ ولهذا قال : { يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } - منهم من نصب ، ومنهم من رفع ، وكلاهما قريب المعنى ، أي : الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ؛ ولهذا قال منَبِّها : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ } ؟ أي : له الملك والتصرف ، { تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } كما قال [ تعالى ]{[11814]} { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ] }{[11815]} [ الفرقان : 61 ] .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن ، حدثنا بَقِيِّة بن الوليد ، حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري ، عن عبد العزيز الشامي ، عن أبيه - وكانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح ، وحمد نفسه ، فقد كفر وحبط عمله . ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا ، فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه ؛ لقوله : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }{[11816]}
وفي الدعاء المأثور ، عن أبي الدرداء - وروي مرفوعا - : " اللهم لك الملك كله ، ولك الحمد كله ، وإليك يرجع الأمر كله ، أسألك من الخير كله ، وأعوذ بك من الشر كله " {[11817]}
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلّيْلَ النّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : إن سيدكم ومصلح أموركم أيها الناس ، هو المعبود الذي له العبادة من كلّ شيء الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وذلك يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، قال : بدء الخلق : العرش والماء والهواء ، وخلقت الأرض من الماء ، وكان بدء الخلق يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وجمع الخلق في يوم الجمعة ، وتهوّدت اليهود يوم السبت ، ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون .
ثُمّ اسْتَوَى على العَرْشِ وقد ذكرنا معنى الاستواء واختلاف الناس فيه فيما مضى قبل لما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : يُغْشِي اللّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا فإنه يقول : يورد الليل على النهار فيلبسه إياه ، حتى يذهب نضرته ونوره . يَطْلُبُهُ يقول : يطلب الليل النهار حَثِيثا يعني سريعا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّبن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يَطْلُبُهُ حَثِيثا يقول : سريعا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يُغْشِي اللّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا قال : يغشي الليل النهار بضوئه ، ويطلبه سريعا حتى يدركه .
القول في تأويل قوله تعالى : والشّمْسَ والقَمَر وَالنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بِأْمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبّ العالَمِين .
يقول تعالى ذكره : إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم ، كلّ ذلك بأمره ، أمرهن الله فأطعن أمره ، ألا لله الخلق كله ، والأمر الذي لا يخالف ولا يردّ أمره دون ما سواه من الأشياء كلها ، ودون ما عبده المشركون من الاَلهة والأوثان التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تخلق ولا تأمر ، تبارك الله معبودنا الذي له عبادة كلّ شيء ربّ العالمين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام أبو عبد الرحمن ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، قال : ثني عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاريّ ، عن عبد العزيز الشامي ، عن أبيه ، وكانت له صحبة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللّهَ على ما عَمِلَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وحَمِدَ نَفْسَهُ ، قَلّ شُكْرُهُ وَحَبِطَ عَمَلُهُ . وَمَنْ زَعَمَ أنّ اللّهَ جَعَلَ للعِبادِ مِنَ الأمْرِ شَيْئا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ على أنْبِيائِهِ لقوله : ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبّ العالَمِينَ » .
جاءت أغراض هذه السّورة متناسبة متماسكة ، فإنّها ابتدئت بذكر القرآن والأمرِ باتّباعه ونبذِ ما يصدّ عنه وهو اتّباع الشّرك ؛ ثمّ التّذكيرِ بالأمم التي أعرضت عن طاعة رسل الله ، ثمّ الاستدلال على وحدانية الله ، والامتنانِ بخلق الأرض والتّمكين منها ، وبخلق أصل البشر وخَلقهم ، وخُلَل ذلك بالتّذكير بعداوة الشّيطان لأصل البشر وللبشر في قوله : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] . وانتُقل من ذلك إلى التّنديد على المشركين فيما اتّبعوا فيه تسويل الشّيطان من قوله : { وإذا فعلوا فاحشة } [ الأعراف : 28 ] ، ثمّ بتذكيرهم بالعهد الذي أخذه الله على البشر في قوله : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم } [ الأعراف : 35 ] الآية . وبأن المشركين ظَلموا بنكث العهد بقوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته } [ الأعراف : 37 ] وتوعدهم وذكّرهم أحوال أهل الآخرة ، وعَقِب ذلك عاد إلى ذكر القرآن بقوله : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم } [ الأعراف : 52 ] وأنهاه بالتّذييل بقوله : { قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } [ الأعراف : 53 ] .
فلا جرم تهيأت الأسماع والقلوب لتلقي الحجّة على أنّ الله إله واحد ، وأنّ آلهة المشركين ضلال وباطل ، ثمّ لِبيان عظيم قدرته ومجده فلذلك استؤنف بجملة { إن ربكم الله } الآية ، استئنافاً ابتدائياً عاد به التّذكير إلى صدر السّورة في قوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } [ الأعراف : 3 ] ، فكان ما في صدر السّورة بمنزلة المطلوب المنطقي ، وكان ما بعده بمنزله البرهان ، وكان قوله : { إن ربكم الله } بمنزلة النّتيجة للبرهان ، والنتيجة مساوية للمطلوب إلاّ أنّها تؤخَذُ أوضحَ وأشد تفصيلاً .
فالخطاب موجّه إلى المشركين ابتداء ، ولذلك كان للتّأكيد بحرف ( إنّ ) موقعه لرد إنكار المشركين انفراد الله بالرّبوبيه . وإذ كان ما اشتملت عليه هذه الآية يزيد المسلمين بصيرة بعظم مجد الله وسعة ملكه ، ويزيدهم ذكرى بدلائل قدرته ، كان الخطاب صالحاً لتناول المسلمين ، لصلاحية ضمير الخطاب لذلك ، ولا يكون حرف ( إن ) بالنّسبة إليهم سدى ، لأنّه يفيد الاهتمام بالخبر ، لأنّ فيه حظاً للفريقين ، ولأنّ بعض ما اشتمل عليه ( ما ) هو بالمؤمنين أعلق مثل { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } [ الأعراف : 55 ] وقوله : { إن رحمت الله قريب من المحسنين } [ الأعراف : 56 ] وبعضه بالكافرين أنسب مثل قوله : { كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } [ الأعراف : 57 ] .
وقد جعل المخبرُ عنه الرب ، والخبرُ اسمَ الجلالة : لأن المعنى أنّ الرب لكم المعلومَ عندكم هو الذي اسمه الدال على ذاته : اللَّهُ ، لا غيره ممَن ليس له هذا الاسم ، على ما هو الشّأن ، فهي تعريف المسند في نحو : أنا أخوك ، يقال لمن يعرف المتكلّم ويعرف أنّ له أخاً ولا يعرف أنّ المتكلم هو أخوه . فالمقصود من تعريف المسند إفادة ما يسمّى في المنطق بحمل المواطاة ، وهو حمل ( هُو هُو ) ولذلك يخيّر المتكلّم في جعل أحد الجزأين مسند إليه ، وجعل الآخر مسنداً ، لأنّ كليهما معروف عند المخاطب ، وإنّما الشّأن أن يجعل أقواهما معرفة عند المخاطب هو المسندَ إليه .
ليكون الحمل أجدى إفادة ، ومن هذا القبيل قول المعرّي يصف فارساً في غارة :
يخُوض بَحْراً نَقْعه ماؤُه *** يحُمله السّابح في لِبْدِهِ
إذ قد عَلِم السامع أنّ للفارس عند الغارة نقعاً . وعلم أنّ الشّاعر أثبت للفارس بَحراً وأنّ للبحر ماء ، فقد صار النّقع والبحر معلومين للسّامع ، فأفاده أنّ نقع الفارس هو ماء البحر المزعوم ، لأنّه أجدى لمناسبة استعارة البحر للنّقع ، وإلاّ فما كان يعوز المعرّي أن يقول : ماؤه نقعه فمن انتقد البيت فإنّه لم ينصفه .
وأُكِّد هذا الخبر بحرف التّوكيد ، وإن كان المشركون يثبتون الربوبيّة لله ، والمسلمون لا يمترون في ذلك ، لتنزيل المشركين مِن المخاطبين منزلة من يتردّد في كون الله ربّاً لهم لكثرة إعراضهم عنه في عباداتهم وتوجهاتهم .
وقولُه : { الذي خلق السموات والأرض } صفة لاسم الجلالة ، والصّلة مؤذنة بالإيماء إلى وجه بناء الخبر المتقدّم ، وهو { إن ربكم الله } لأنّ خلق السّماوات والأرض يكفيهم دليلاً على انفراده بالإلهية ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } بسورة الأنعام ( 1 ) .
وقوله : { في ستة أيام ثم استوى على العرش } تعليم بعظيم قدرته ، ويحصل منه للمشركين زيادة شعور بضلالهم في تشريك غيره في الإلهية ، فلا يدلّ قوله : { في ستة أيام } على أنّ أهل مكّة كانوا يعلمون ذلك ، وفيه تحَدّ لأهل الكتاب كما في قوله تعالى : { أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } [ الشعراء : 197 ] وليس القصد من قوله : { في ستة أيام } الاستدلال على الواحدانية ، إذ لا دلالة فيه على ذلك .
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون خلق السّماوات والأرض مدّرجاً ، وأن لا يكون دفعة ، لأنّه جعل العوالم متولِّداً بعضُها من بعض ، لتكون أتقن صنعاً ممّا لو خُلقت دَفعة ، وليكون هذا الخلق مَظْهَراً لصفتي علممِ الله تعالى وقدرتِه ، فالقدرة صالحة لخلقها دفعة ، لكنّ العلم والحكمة اقتضيا هذا التّدرج ، وكانت تلك المدّة أقل زمن يحصل فيه المراد من التّولّد بعظيم القدرة . ولعلّ تكرّر ذكر هذه الأيّام في آيات كثيرة لقصد التّنبيه إلى هذه النّكتة البديعة ، من كونها مظهر سعة العلم وسعة القدرة .
وظاهر الآيات أنّ الأيّام هي المعروفة للنّاس ، التي هي جمعُ اليوم الذي هو مدّة تقدّر من مبدأ ظهور الشّمس في المشرق إلى ظهُورها في ذلك المكان ثانية ، وعلى هذا التّفسير فالتّقدير في ما يماثل تلك المدّة ستّ مرّات ، لأنّ حقيقة اليوم بهذا المعنى لم تتحقّق إلاّ بعد تمام خلق السّماء والأرض ، ليمكن ظهور نور الشّمس على نصف الكرة الأرضية وظهور الظلمة على ذلك النّصف إلى ظهور الشّمس مرّة ثانية ، وقد قيل : إنّ الأيّام هنا جمع اليوم من أيّام الله تعالى الذي هو مدّة ألف سنة ، فستّة أيام عبارة عن ستّة آلاف من السّنين نظراً لقوله تعالى : { وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } [ الحج : 47 ] وقوله : { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } [ السجدة : 5 ] ، ونقل ذلك عن زيد بن أرقم واختاره النّقاش ، وما هو ببعيد ، وإن كان مخالفاً لما في التّوراة ، وقيل المراد : في ستّة أوقات ، فإنّ اليوم يطلق على الوقت كما في قوله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره } [ الأنفال : 16 ] أي حين إذ يلقاهم زَحْفاً ، ومقصود هذا القائل أنّ السماوات والأرض خُلقت عالَماً بعد عالم ولم يشترك جميعُها في أوقات تكوينها ، وأيّاً مّا كان فالأيام مراد بها مقادير لا الأيام التي واحدها يوم الذي هو من طلوع الشّمس إلى غروبها إذ لم تكن شمس في بعض تلك المدّة ، والتّعمّق في البحث في هذا خروج عن غرض القرآن .
والاستواء حقيقتهُ الاعتدال ، والذي يؤخذ من كلام المحقّقين من علماء اللّغة والمفسّرين أنّه حقيقة في الارتفاع والاعتلاء ، كما في قوله تعالى في صفة جبريل { فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى } [ النجم : 6 8 ] .
والاستواء له معان متفرّعة عن حقيقته ، أشهرها القصد والاعتلاء ، وقد التُزم هذا اللّفظ في القرآن مسنداً إلى ضمير الجلالة عند الإخبار عن أحوال سماوية ، كما في هذا الآية . ونظائرُها سبعُ آيات من القرآن : هنا . وفي يونس ، والرّعد ، وطه ، والفرقان ، وألم السجدة ، والحديد ، وفُصِّلت . فظهر لي أنّ لهذا الفعل خصوصيّة في كلام العرب كان بِسببها أجدرَ بالدّلالة على المعنى المرادِ تبليغُه مجملاً ممّا يليق بصفات الله ويقرّب إلى الأفهام من معنى عظمته ، ولذلك اختِير في هذه الآيات دون غيره من الأفعال التي فسّره بها المفسّرون .
فالاستواء يعبِّر عن شأن عظيم من شؤون عظمة الخالق تعالى ، اختير التّعبير به على طريق الاستعارة والتّمثيلِ : لأنّ معناه أقرب معاني المواد العربيّة إلى المعنى المعبّر عنه من شؤونه تعالى ، فإنّ الله لمّا أراد تعليم معاننٍ من عالم الغيب لم يكن يتأتى ذلك في اللّغة إلاّ بأمثلة معلومة من عالم الشّهادة ، فلم يكن بد من التّعبير عن المعاني المغيّبة بعبارات تقرّبها ممّا يعبر به عن عالم الشّهادة ، ولذلك يكثر في القرآن ذكر الاستعارات التّمثيليّة والتّخييليّة في مثل هذا .
وقد كان السّلف يتلقّون أمثالها بلا بحثٍ ولا سؤال لأنّهم علموا المقصود الإجمالي منها فاقتنعوا بالمعنى مجملاً ، ويسمّون أمثالَها بالمتشابهات ، ثمّ لمّا ظهر عصر ابتداء البحث كانوا إذا سئلوا عن هذه الآية يقولون : استوى الله على العرش ولا نعرف لذلك كيفاً ، وقد بيّنتُ أنّ مثل هذا من القسم الثّاني من المتشابه عند قوله تعالى : { وأخر متشابهات } في سورة آل عمران ( 7 ) ، فكانوا يأبون تأويلها . وقد حكى عياض في « المدارك » عن سفيان بن عيينة أنّه قال : سأل رجل مالكاً فقال : الرّحمانُ على العرش استوى .
كيفَ استوى يا أبا عبد الله ؛ فسكت مالكٌ مليّاً حتّى علاه الرّحَضاء ثمّ سُرّيَ عنه ، فقال : « الاستواء معلوم والكيف غير معقول والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب وإنّي لأظنّك ضالاً » واشتهر هذا عن مالك في روايات كثيرة ، وفي بعضها أنّه قال لمن سأله : « وأظنّك رجُلَ سوء أخْرِجُوه عنّي » وأنّه قال : « والسؤالُ عنه بدعة » . وعن سفيان الثّوري أنّه سئل عنها : « فقال : فَعَلَ الله فعلا في العرش سمّاه استواء » . قد تأوّله المتأخّرون من الأشاعرة تأويلات ، أحسنها : ما جنح إليه إمام الحرمين أنّ المراد بالاستواء الاستيلاء بقرينة تعديته بحرف على ، وأنشدوا على وجه الاستيناس لذلك قولَ الأخطل :
قد استوى بِشْرٌ على العراق *** بغيرِ سيف ودم مُهْرَاق
وأُراه بعيداً ، لأنّ العرش ما هو إلاّ من مخلوقاته فلا وجه للإخبار باستيلائه عليه ، مع احتمال أن يكون الأخطل قد انتزعه من هذه الآية ، وقد قال أهل اللّغة : إنّ معانيه تختلف باختلاف تعديته بعَلى أو بإلى ، قال البخاري ، عن مجاهد : استوى عَلا على العرش ، وعن أبي العالية : استوى إلى السّماء ارتفع فسَوى خلقهن .
وأحسب أنّ استعارته تختلف بقرينة الحَرف الذي يُعدّى به فعله ، فإن عُدّي بحرف ( على ) كما في هذه الآية ونظائرها فهو مستعار من معنى الاعتلاء ، مستعمل في اعتلاء مجازي يدلّ على معنى التّمكّن ، فيحتمل أنّه أريد منه التّمثيل ، وهو تمثيل شأنِ تصرّفه تعالى بتدبير العوالم ، ولذلك نجده بهذا التّركيب في الآيات السّبع واقعاً عقب ذكر خلق السّماوات والأرض ، فالمعنى حينئذ : خلقَها ثمّ هو يدبّر أمورها تدبير المَلِك أمور مملكته مستوياً على عَرشه . وممّا يقرب هذا المعنى قول النّبيء صلى الله عليه وسلم " يَقْبِض الله الأرضَ ويطوي السّماوات يومَ القيامة ثمّ يقول : أنا المَلِك أيْنَ ملوك الأرض " . ولذلكَ أيضاً عُقب هذا التّركيب في مواقعه كلّها بما فيه معنى التّصرف كقوله هنا { يغشى الليل النهار } الخ ، وقوله في سورة يونس ( 3 ) : { يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه } وقوله في سورة الرّعد ( 2 ) : { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات } وقوله في سورة ألم السجدة ( 4 ، 5 ) : { مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض } وكمال هذا التّمثيل يقتضي أن يكون كلّ جزءٍ من أجزاء الهيئة الممثّلة مشبهاً بجزء من أجزاء الهيئة الممثَّل بها ، فيقتضي أن يكون ثمة موجود من أجزاء الهيئة الممثّلة مشابهاً لعرش المَلك في العظمة ، وكونه مصدر التّدبير والتّصرف الإلهي يفيض على العوالم قوى تدبيرها . وقد دلّت الآثار الصّحيحة من أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على وجود هذا المخلوق العظيم المسمّى بالعرش كما سنبيّنه .
فأمّا إذا عُدّي فعل الاستواء بحرف اللاّم فهو مستعار من معنى القصد والتّوجّه إلى معنى تعلّق الإرادة ، كما في قوله : { ثم استوى إلى السماء } [ البقرة : 29 ] . وقد نحا صاحب « الكشاف » نحواً من هذا المعنى ، إلاّ أنّه سلك به طريقة الكناية عن المُلك : يقولون استوى فلان على العرش يريدون مُلك .
والعرش حقيقته الكرسي المرتفع الذي يجلس عليْه المَلِك ، قال تعالى : { ولها عرش عظيم } [ النما : 23 ] وقال : { ورفع أبويه على العرش } [ يوسف : 100 ] ، وهو في هذه الآية ونظائرها مستعمل جزءا من التّشبيه المركّب ، ومن بداعة هذا التّشبيه أن كان كلّ جزء من أجزاءِ الهيئة المشبهة مماثلاً لجزءٍ من أجزاء الهيئة المشبَّه بها ، وذلك أكمل التّمثيل في البلاغة العربيّة ، كما قدّمتُه آنفاً . وإذ قد كان هذا التّمثيل مقصوداً لتقريب شأن من شؤون عظمة مُلك الله بحال هيئةٍ من الهيئات المتعارفة ، ناسب أن يشتمل على ما هو شعار أعظم المدبّرين للأمور المتعارفة أعني الملوك ، وذلك شعارُ العرش الذي من حَوْله تصدر تصرّفات الملك ، فإنّ تدبير الله لمخلوقاته بأمر التّكوين يكون صدوره بواسطة الملائكة ، وقد بيّن القرآن عَمَل بعضهم مثل جبريل عليه السّلام وملَككِ الموت ، وبيَّنت السنة بعضها : فذكرت ملك الجبال ، وملك الرّياح ، والملك الذي يباشر تكوين الجنين ، ويكتُب رزقَه وأجلَه وعاقبتَه ، وكذلك أشار القرآن إلى أن من الموجودات العلويّة موجوداً منوّها به سمّاه العرش ذكره القرآن في آيات كثيرة . ولمّا ذكر خلق السّماوات والأرض وذكر العرش ذكره بما يشعر بأنّه موجود قبل هذا الخلق . وبيّنت السنّة أنّ العرش أعظم من السماوات وما فيهن ، من ذلك حديث عمران بن حصين أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم قال : " كان الله ولم يكن شيء قبلَه وكان عرشه على الماء ثمّ خلق السّماوات والأرض " وحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال في حديث طويل : " فإذا سألتم الله فاسألُوه الفِردوس فإنّه أوسط الجنّة ، وأعلَى الجنّة وفوقَه عرش الرّحمان ومنه تفجَّر أنهار الجنّة " وقد قيل إنّ العرشِ هو الكرسي وأنّه المراد في قوله تعالى : { وسع كرسيه السماوات والأرض } كما تقدّم الكلام عليه في سورة البقرة ( 255 ) .
وقد دلّت ( ثُمّ ) في قوله : { ثم استوى على العرش } على التّراخي الرّتبي أي وأعظم من خلق السّماوات والأرض استواءه على العرش ، تنبيهاً على أنّ خلق السّماوات والأرض لم يحدث تغييراً في تصرّفات الله بزيادة ولا نقصان ، ولذلك ذكر الاستواء على العرش عقب ذكر خلق السّماوات والأرض في آيات كثيرة ، ولعلّ المقصد من ذلك إبطال ما يقوله اليهود : إنّ الله استراح في اليوم السّابع فهو كالمقصد من قوله تعالى : { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } [ ق : 38 ] .
وجملة { يغشى الليل النهار } في موضع الحال من اسم الجلالة ، ذكر به شيء من عموم تدبيره تعالى وتصرّفه المضمّن في الاستواء على العرش ، وتنبيه على المقصود من الاستواء ، ولذلك جاء به في صورة الحال لا في صورة الخبر ، كما ذكر بوجه العموم في آية سورة يونس ( 3 ) وسورة الرّعد ( 2 ) بقوله : { يدبر الأمر } وخصّ هذا التّصرف بالذّكر لما يدلّ عليه من عظيم المقدرة ، وما فيه من عبرة التّغيّر ودليلِ الحدوث ، ولكونه متكرّراً حدوثه في مشاهدة النّاس كلّهم . والإغشاء والتّغشية : جعل الشّيء غاشياً ، والغَشْي والغشيان حقيقته التّغطيّة والغمّ .
فمعنى : { يغشى الليل النهار } أنّ الله يجعل أحدهما غاشياً الآخر .
والغشي مستعار للإخفاء ، لأنّ النّهار يزيل أثر اللّيل واللّيل يزيل أثر النّهار ، ومن بديع الإيجاز ورشاقة التّركيب : جعل الليل والنّهار مفعولين لفعل فاعل الإغشاء ، فهما مفعولان كلاهما صالح لأن يكون فاعل الغشي ، ولهذا استغنى بقوله : { يغشى الليل النهار } عن ذكر عكسه ولم يقل : والنّهار اللّيل ، كما في آية { يكور الليل على النهار } [ الزمر : 5 ] لكن الأصل في ترتيب المفاعيل في هذا الباب أن يكون الأوّلُ هو الفاعل في المعنى ، ويجوز العكس إذا أمِن اللّبس ، وبالأحرى إذا استوى الاحتمالان .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم في رواية حفص { يُغْشِي } بضمّ الياء وسكون الغين وتخفيف الشّين . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية أبي بكر ، ويعقوب ، وخلَف بضمّ الياء وفتح الغين وتشديد الشّين وهما بمعنى واحد في التّعدية .
وجملة : { يطلبه } إن جعلت استينافاً أو بدلَ اشتمال من جملة ( يغشي ) فأمرها واضح ، واحتمل الضّمير المنصوب في ( يطلبه ) أن يعود إلى اللّيل وإلى النّهار ، وإن جعلت حالا تعين أن تعتبر حالاً من أحد المفعولين على السَّواء فإنّ كلاً اللّيل والنّهار يعتبر طالباً ومطلوباً ، تبعاً لاعتبار أحدهما مفعولاً أوّل أو ثانياً .
وشُبّه ظهور ظلام اللّيل في الأفق ممتداً من المشرق إلى المغرب عند الغروب واختفاء نور النّهار في الأفق ساقطاً من المشرق إلى المغرب حتّى يعمّ الظّلامُ الأفقَ بطلب اللّيل النّهارَ ، على طريقة التّمثيل ، وكذلك يفهم تشبيه امتداد ضوء الفجر في الأفق من المشرق إلى المغرب واختفاءُ ظلام اللّيل في الأفق ساقطاً في المغرب حتّى يعمّ الضياء الأفقَ : بطلب النّهار اللّيلَ على وجه التّمثيل ، ولا مانع من اعتبار التّنازع للمفعولين في جملة الحال كما في قوله تعالى : { فأتت به قومها تحمله } [ مريم : 27 ] وقوله : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } .
والحثيث : المسرع ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، من حثَه إذا أعجله وكَرّر إعجاله ليبادر بالعجلة ، وقريب من هذا قول سلامة من جَنْدَل يذكر انتهاء شبابه وابتداء عصر شيْبه :
أوْدَى الشّبابُ الذي مَجْدٌ عواقِبه *** فيهِ نَلَذَّ ولا لَــذّاتِ للشّيب
ولَّى حثيثاً وهذا الشّيبُ يَتَبَعُه *** لو كان يُدْرِكه ركْضُ اليَعاقيبِ
فالمعنى يطلبه سريعاً مُجدّاً في السّرعة لأنّه لا يلبث أن يعفى أثره .
{ والشمس والقمر والنجوم } بالنّصب في قراءة الجمهور معطوفات على السّماوات والأرض ، أي وخلق الشّمسَ والقمر والنّجوم ، وهي من أعظم المخلوقات التي اشتملت عليها السّماوات .
و { مسخرات } حال من المذكورات .
وقرأ ابن عامر برفع { الشمس } وما عطف عليه ورفْععِ { مسخرات } ، فتكون الجملة حالا من ضمير اسم الجلاله كقوله : { يغشى الليل النهار } .
وتقدّم الكلام على اللّيل والنّهار عند قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } في سورة البقرة ( 164 ) ويأتي في سورة الشّمس .
والتّسخير حقيقته تذلِيل ذي عمل شاققٍ أو شاغللٍ بقهر وتخويف أو بتعليم وسياسة بدون عوض ، فمنه تسخير العبيد والأسرى ، ومنه تسخير الأفراس والرّواحل ، ومنه تسخير البقر للحلب ، والغنم للجزّ . ويستعمل مجازاً في تصريف الشّيء غير ذي الإرادة في عمل عجيب أو عظيم من شأنه أن يصعب استعماله فيه ، بحيلة أو إلهام تصريفاً يصيّره من خصائصه وشؤونه ، كتسخير الفُلك للمخر في البحر بالرّيح أو بالجذف ، وتسخير السّحاب للأمطار ، وتسخير النّهار للعمل ، واللّيل للسّكون ، وتسخير اللّيل للسّير في الصّيف ، والشّمس للدّفء في الشّتاء ، والظلّ للتبرد في الصّيف ، وتسخير الشّجر للأكل من ثماره حيث خلق مجرّداً عن موانع تمنع من اجتنائه مثل الشّوك الشّديد ، فالأسد غير مسخّر بهذا المعنى ولكنّه بحيث يسخر إذا شاء الإنسان الانتفاع بلحمه أو جلده بحيلة لصيده بزُبية أو نحوها ، ولذلك قال الله تعالى : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه } [ الجاثية : 13 ] باعتبار هذا المجاز على تفاوت في قوّة العلاقة . فقوله : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } أطلق التّسخير فيه مجازاً على جعلها خاضعة للنّظام الذي خلقها الله عليه بدون تغيير ، مع أنّ شأن عظمها أن لا يستطيعَ غيره تعالى وضعها على نظام محدود منضبط .
ولفظ الأمر في قوله : { بأمره } مستعمل مجازاً في التّصريف بحسب القدرة الجارية على وفق الإرادة . ومنه أمر التّكوين المعبّر عنه في القرآن بقوله : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [ يس : 82 ] لأن ( كن ) تقريب لنفاذ القدرة المسمّى بالتّعلّق التّسخيري عند تعلّق الإرادة التّنجيزي أيضاً فالأمر هنا من ذلك ، وهو تصريف نظام الموجودات كلّها .
وجملة : { ألا له الخلق والأمر } مستأنفة استئناف التّذييل للكلام السّابق من قوله : { الذي خلق السموات والأرض } لإفادة تعميم الخَلْق . والتّقدير : لما ذُكر آنفاً ولِغيره . فالخلق : إيجاد الموجودات ، والأمر تسخيرها للعمل الذي خلقت لأجله .
وافتتحت الجملة بحرف التّنبيه لتَعِي نفوسُ السّامعين هذا الكلام الجامع .
واللام الجارة لضمير الجلالة لام المِلك . وتقديم المسند هنا لتخصيصه بالمسند إليه .
والتّعريف في الخلق والأمر تعريف الجنس ، فتفيد الجملة قصر جنس الخلق وجنس الأمر على الكون في مِلك الله تعالى ، فليس لغيره شيء من هدا الجنس ، وهو قصر إضافي معناه : ليس لآلهتهم شيء من الخلق ولا من الأمر ، وأمّا قصر الجنس في الواقع على الكون في مِلك الله تعالى فذلك يرجع فيه إلى القرائن ، فالخلق مقصور حقيقة على الكون في ملكه تعالى ، وأمّا الأمر فهو مقصور على الكون في ملك الله قصراً ادعائياً لأنّ لكثيرٍ من الموجودات تدبيرَ أمور كثيرة ، ولكن لما كان المدبِّر مخلوقاً لله تعالى كان تدبيره راجعاً إلى تدبير الله كما قيل في قصر جنس الحمْد في قوله : { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] .
وجملة { تبارك الله رب العالمين } تذييل معترضة بين جملة { إن ربكم الله } وجملة { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } [ الأعراف : 55 ] إذ قد تهيّأ المقام للتّذكير بفضل الله على النّاس ، وبنافع تصرّفاته ، عقب ما أجرى من إخبار عن عظيم قدرته وسعة علمه وإتقانِ صنعه .
وفعل { تبارك } في صورة اشتقاقه يؤذن بإظهار الوصف على صاحبه المتّصف به مثل : تثاقل ، أظهر الثّقل في العمل ، وتعال ، أي أظهر العلّة ، وتعاظم : أظهر العظمة ، وقد يستعمل بمعنى ظهور الفعل على المتّصف به ظهوراً بيِّناً حتى كأنّ صاحبه يُظهره ، ومنه : { تعالى الله } [ النمل : 63 ] أي ظَهر علوّه ، أي شرفه على الموجودات كلّها ، ومنه { تبارك } أي ظَهرت بركته .
والبركة : شدّة الخير ، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً } في سورة آل عمران ( 96 ) ، وقوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } في سورة الأنعام ( 92 ) . فبركة الله الموصوفُ بها هي مجده ونزاهته وقدسه ، وذلك جامع صفات الكمال ، ومن ذلك أنّ له الخلق والأمر .
وإتْباع اسم الجلالة بالوصف وهو رب العالمين في معنى البيان لاستحقاقه البركة والمجد ، لأنّه مفيض خيرات الإيجاد والإمداد ، ومدبّر أحوال الموجودات ، بوصف كونه ربّ أنواع المخلوقات ، ومضى الكلام على { العالمين } في سورة الفاتحة ( 2 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
... {يغشي الليل النهار}، يقول: يغشي ظلمة الليل ضوء النهار،
{يطلبه حثيثا}، يعني سريعا، {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} لبني آدم، {ألا له الخلق}، يعني كل شيء خلق، {والأمر}، يعني قضاءه في الخلق الذي في اللوح المحفوظ، فله المشيئة في الخلق والأمر، {تبارك الله رب العالمين}، فيخبر بعظمته وقدرته.
القاضي عياض: قال سفيان بن عيينة: سأل رجل مالكا فقال: {الرحمن على العرش استوى} كيف استوى يا أبا عبد الله؟ فسكت مالك مليا حتى علاه الرحضاء، وما رأينا مالكا وجد من شيء وجده من مقالته، وجعل الناس ينظرون ما يأمر به، ثم سري عنه. فقال: الاستواء منه معلوم، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، والإيمان به واجب، وإني لأظنك ضالا، أخرجوه! فناداه الرجل: يا أبا عبد الله، والله الذي لا إله إلا هو، لقد سألت عن هذه المسألة أهل البصرة والكوفة والعراق فلم أجد أحدا وفق لما وفقت له.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن سيدكم ومصلح أموركم أيها الناس، هو المعبود الذي له العبادة من كلّ شيء، الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام... "ثُمّ اسْتَوَى على العَرْشِ "وقد ذكرنا معنى الاستواء واختلاف الناس فيه فيما مضى قبل لما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: "يُغْشِي اللّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا" فإنه يقول: يورد الليل على النهار فيلبسه إياه، حتى يذهب نضرته ونوره. "يَطْلُبُهُ" يقول: يطلب الليل النهار "حَثِيثا" يعني سريعا...
"والشّمْسَ والقَمَر وَالنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بِأْمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبّ العالَمِين". يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم، كلّ ذلك بأمره، أمرهن الله فأطعن أمره، ألا لله الخلق كله، والأمر الذي لا يخالف ولا يردّ أمره دون ما سواه من الأشياء كلها، ودون ما عبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تخلق ولا تأمر، تبارك الله معبودنا الذي له عبادة كلّ شيء ربّ العالمين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن ربكم الله الذي} لا رب لكم سواه ولا لأحد من الخلائق. هو الله الذي لا إله غيره، ليوجّهوا إليه العبادة في الحقيقة، وليؤدوا إليه شكر ما أنعم عليهم، وإن كانت نعمه أعظم من أن يجزيها العباد، وحقه أجلّ من أن يقوم به العباد، لولا أن الله، سبحانه، لم يرد من البيان على ربوبيته والدليل على ألوهيته سوى ما أنطق به على لسان رسوله [به] الإيضاح أنه لا ينطق إلا بالحق، ولا يقول إلا الصدق لكان ذلك بيانا شافيا. لكنه بفضل رحمته بين الأدلة التي تحقق ذلك، وتعلم أنه كما أجابه رسوله إلا أن يعاند الحق، ويكابر العقل فقال عز وجل {الذي خلق السماوات والأرض} إلى آخر ما ذكر دلالة خلق ما ذكر من آثار التدبير وعجيب التقدير الذي به قوام كل ممّن يحتمل المنافع والمضار واتصال ما بين السماء والأرض على تباعد بعض من بعض في المنافع مع جمع الأضداد التي من طبعها التنافر في أصل ما ذكر حتى صارت كالأشكال بعد أن كانت السماوات والأرض مشتبهة لا تشعر بما فيها من الحكمة ولا بالذي فيه من أي وجه تقضى الحاجة ليدل أن مدبّر الكل واحد؟ وأنه عليم حكيم...
{ثم استوى على العرش} وهو الملك؛ إذ لم يكن قبل ذلك من له التمييز. ومعرفة الملك والسلطان وقدر العلم بالمحامد والمعالي وأضداد ذلك إنما يكون بأولئك الذين ركبت فيهم العقول، وأكرموا بالتمييز وبما جعل لهم جعل العالم، وهم المقصودون من الإنشاء. لذلك جعل كل من سواهم مسخرا لمنافعهم داخلة تحت أفهامهم مما تحتمل أكثر. ذلك تدبير ليعلم أنهم قصدوا لأنفسهم أو لمعرفة ما عليهم من شكر النعم والعبادة. فكان بهم تمام ظهور الملك وبلوغه النهاية، فأخبر بالاستواء؛ إذ هو وصف العلو والرفعة ووصف التمام في الرتبة والقدر، وذلك في معنى الاستواء على العرش من حيث ظهور الملك وبيان الحجة والربوبية للمستدلين والمعتبرين...
ونحن نقول، وبالله التوفيق، قد ثبت من طريق التّنزيل بأنه استوى على العرش، وقد لزم القول بأنه {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] في الأرض. وعلى ذلك اتفاق القول: ألا يقدّر كلامه بما عرف من كلام الخلق ولا فعله به، وما يوجبه، ولا علمه ولا ما قيل: هو رب كذا أو مالك كذا، لا يراد به المفهوم من الخلق. لكن الوجه الذي يليق به وما يوجبه حق الربوبية. فمثله في الأول، ثم يلزم تسليم المراد لما عنده؛ إذ لم يبيّنه لنا، وقد ثبت ما يفهم من غيره...
وقوله تعالى: [{والنجوم مسخّرات بأمره}] وسخّر ما ذكر، فكذلك سخّرهن بالسير في ما يرجع إلى منافع الخلق، وجعل فيهن آية لولا العيان لم يكن يصدّق به أحد ممن يجحد البعث والرسل ونحوهم.
ولكن الله، سبحانه، أظهر لهم من قدرته وعظيم حكمته بما بسط لهم [الأرض] بغلظها وسعتها، ورفع عليها السماء بغير عمد ترى، فأقرّ كلاّ من ذلك لحاجة أهلها إلى قرارها، وسيّر فيها بالتسخير ما ذكر لحاجة الأهل في تيسير ذلك ليعلم أنه لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه أمر، ولا يدخل في تدبيره عوج ولا في خلقه تفاوت، وأن الذي أظهر إذا قوبل بالذي وعد يضاعف عليه بوجوه له مع ما كان الذي أظهر، هو إبداع على غير احتذاء، وإنشاء الإعادة لا، والله الموفق. ثم من عجيب قدرته، سبحانه، في قوله تعالى: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا} أن الله تعالى يظهر النور في ابتداء النهار من طرف السماء والظلمة في أول الليل، ثم ينشر ذلك، ويبسطه في جميع أطراف السماء والأرض وما بينهما من جميع الأقطار والجوانب في قدر لحظة بصر وطرفة العين مما لو أريد تقدير ذلك بالهندسة وبجميع ما في الخلق من المقادير لما أحيط بالذي انبسط [من] ذلك النور والظلام ليعلم أن الله على ما يشاء قدير، وأنه لو أراد لخلق جميع ما ذكر في أدق مدة وألطف وقت، وأنه القادر على البعث وجميع ما جاءت بالخبر عنه الرسل.
وقوله تعالى: {بأمره} قال أبو بكر: يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أمره كما يقال: أتاه أمر الله؛ أي الموت والعذاب ونحو ذلك على إرادة ذلك نزل به. والثاني: أن يطلعن ويغربن بأمر بتوحيد الله والإيمان فيه بما فيهن من عجيب الحكمة ورفيع التقدير. وقال الحسن: {بأمره} الذي به كون الأشياء من قوله: {كن}... وكذلك قوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} فيه وجهان: أحدهما: الإخبار عن تكوين الخلق الذي هو له. والثاني: الإخبار عن الأمر في خلقه بما شاء؟ ولا يرد شيء من الوجه الذي أمر، والله أعلم.
وقوله تعالى: {مسخّرات بأمره} قال بعضهم: {بأمره} أي بتكوينه أي أنشاها، وكوّنها مسخّرات لهم. وقال بعضهم: {بأمره} ينفعن البشر. وقوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} قال بعضهم: الأمر ههنا هو التكوين، وقيل: {ألا له الخلق} والتدبير في الخلق، وقيل: له الأمر في الخلق...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "يغشى الليل النهار "معناه يجلل الليل النهار أي يدخل عليه. وقال الازهري: أقبل عليه. والإغشاء هو: إلباس الشيء ما رق بما يجلله، ومنه غاشية السرج، والغشاوة التي تخرج على الولد،
وقوله "يطلبه حثيثا" معناه أنه يستمر على منهاج واحد وطريقة واحدة من غير فتور يوجب الاضطراب، كما يكون في السوق الحثيث.
وقوله "ألا له الخلق والأمر" إنما فصل الخلق من الأمر، لأن فائدتهما مختلفة "لأن له الخلق" يفيد أن له الاختراع، "وله الأمر" معناه له أن يأمر فيه بما أحب فأفاد الثاني مالم يفده الأول.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} هذه الكلمة مجمع الدعاء لاشتمالها على إفادة معنى قِدَمِه ودوامِ ثبوته من حيث يُقال بَرَكَ الطيرُ على الماء. وأفادت معنى جلاله الذي هو استحقاقه لنعوت العِزِّ لأنه قد تبارك أي تعظَّم. وأشارت إلى إسداد النِّعم وإتاحة الإحسان من حيث إن البَرَكَة هي الزيادة فهي مجمع الثناء والمدح للحق سبحانه.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {تبارك الله}، أي: تعالى الله وتعظم. وقيل: ارتفع. والمبارك المرتفع. وقيل: تبارك تفاعل من البركة وهي النماء والزيادة، أي: البركة تكتسب وتنال بذكره، وعن ابن عباس قال: جاء بكل بركة، وقال الحسن: تجيء البركة من عنده وقيل: تبارك: تقدس. والقدس: الطهارة، وقيل: {تبارك الله} أي: باسمه يتبرك في كل شيء. وقال المحققون: معنى هذه الصفة ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال. وأصل البركة الثبوت...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} الآية، خطاب عام يقتضي التوحيد والحجة وعليه بدلائله، والرب أصله في اللغة المصلح من رب يرب وهو يجمع في جهة ذكر الله تعالى المالك والسيد وغير ذلك من استعمالات العرب، ولا يقال الرب معرفاً إلا لله، وإنما يقال في البشر بإضافة.
خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام متصلة لا لأجل لغوب لحقه في الإمهال، ولما بين بهذا الطريق أنه تعالى إنما خلق العالم لا دفعة لكن قليلا قليلا قال بعده: {فاصبر على ما يقولون} من الشرك والتكذيب ولا تستعجل لهم العذاب بل توكل على الله تعالى وفوض الأمر إليه، وهذا معنى ما يقوله المفسرون من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على الإهمال والتعطيل. ومن العلماء من ذكر فيه وجهين آخرين: الوجه الأول: أن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع طريق الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذاك إنما وقع على سبيل الاتفاق، أما إذا حدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للمصلحة والحكمة، كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث قديم حكيم، وقادر عليم رحيم...
ثم قال بعده: {تبارك الله رب العالمين} والبركة لها تفسيران: أحدهما: البقاء والثبات والثاني: كثرة الآثار الفاضلة والنتائج الشريفة، وكلا التفسيرين لا يليق إلا بالحق سبحانه، فإن حملته على الثبات والدوام، فالثابت والدائم هو الله تعالى لأنه الموجود الواجب لذاته العالم لذاته القائم بذاته الغني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه، فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنهى الافتقارات وهو غني عن كل ما سواه في جميع الأمور. وأيضا إن فسرنا البركة بكثرة الآثار الفاضلة فالكل بهذا التفسير من الله تعالى، لأن الموجود إما واجب لذاته وكل الخيرات منه وكل الكمالات فائضة من وجوده وإحسانه، فلا خير إلا منه ولا إحسان إلا من فيضه، ولا رحمة إلا وهي حاصلة منه، فلما كان الخلق والأمر ليس إلا منه، لا جرم كان الثناء المذكور بقوله: {فتبارك الله رب العالمين} إلا بكبريائه وكمال فضله ونهاية جوده ورحمته.
في هذه الآية بشارة عظيمة للعقلاء لأنه قال: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض} والمعنى أن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكروهات هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأشياء العظيمة وأودع فيها أصناف المنافع وأنواع الخيرات، ومن كان له مرب موصوف بهذه الحكمة والقدرة والرحمة، فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات أو يعول على غيره في تحصيل السعادات؟ ثم في الآية دقيقة أخرى فإنه لم يقل أنتم عبيده بل قال هو ربكم، ودقيقة أخرى وهي أنه تعالى لما نسب نفسه إلينا سمى نفسه في هذه الحالة بالرب، وهو مشعر بالتربية وكثرة الفضل والإحسان، فكأنه يقول من كان له مرب مع كثرة هذه الرحمة والفضل، فكيف يليق به أن يشتغل بعبادة غيره؟...
{ثم استوى على العرش}...حصل للعلماء الراسخين مذهبان: الأول: أن نقطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله، وهو الذي قررناه في تفسير قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال الأئمة -منهم نُعَيْم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري -:"من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر". وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما صح أن جميع ما نراه من الذوات خلقه، وما نعلمه من المعاني أمره، أنتج قطعاً قوله {ألا له} أي وحده، وقدم المسبب على السبب ترقية -كما هو مقتضى الحكم- من المحسوس إلى المعقول فقال: {الخلق} وهو ما كان من الإيجاد بتسبيب وتنمية وتطوير قال الرازي: فكل ما كان جسماً أو جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين فكان من عالم الخلق، فعالم الخلق بتسخيره، وعالم الأمر بتدبيره، واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين الله تعالى في الآيتين اللتين قبل هذه الآية وبعد آيات الجزاء والمعاد سبب هلاك الكافرين وخسران أنفسهم بالشرك في ألوهيته، وعبادة من اتخذوهم شفعاء عنده بغير إذنه، وعدم اتباع الرسل الذين دعوهم إلى عبادته وحده بما شرعه لهم، دون ما ابتدعوه أو ابتدعه لهم من قبلهم، ثم قفى على ذلك بخمس آيات جامعة لجملة ما جاءت به الرسل من الدين بإيجاز بليغ، ابتدأها بآية الخلق والتكوين، الهادية إلى حقيقة الربوبية والألوهية برهانا على أصل الدين، فقال عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام}...
الرب هو السيد والمالك والمدبر المربي، والإله هو المعبود أي الذي يتوجه إليه الإنسان عند الشعور بالحاجة إلى ما يعجز عنه بكسبه ومساعدة الأسباب له، فيدعوه لكشف الضر أو جلب النفع، ويتقرب إليه بالأقوال والأعمال التي يرجى أن ترضيه وبالنذر له والذبح باسمه أو لأجله، سواء كان الرجاء فيه خاصا به أو مشتركا بينه وبين معبود آخر هو فوقه أو دونه. وأما اسم الجلالة الأعظم (الله) فهو اسم لرب العالمين خالق الخلق أجمعين، الذي ينفي الموحدون الحنفاء ربوبية غيره وألوهية سواه، ويقول بعض المشركين إنه أكبر الأرباب أو رئيسهم وأعظم الآلهة أو مرجعهم الذي يشفعون عنده، وكان مشركو العرب وأمثالهم ينفون وجود سواه وإنما يعبدون آلهة تقربهم إليه...
والسماوات والأرض يطلقان في مثل هذا المقام على كل موجود مخلوق أو ما يعبر عنه بعض الناس بالعالم العلوي والعالم السفلي وإن كان العلو والسفل فيهما من الأمور الإضافية. وقد أجمعت الأمم على أن خالق جملة العالم واحد هو رب العالمين، والذين اتخذوا من دون الله أربابا كانوا يقيدون ربوبيتهم بأمور معينة وكل إليهم تدبيرها ويسمونهم بأسماء تدل على ذلك... فالله تعالى يقول في هذه الآية للناس كافة إن ربكم واحد، وهو الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهو المدبر لأمورهما وحده، فيجب أن تعبدوه وحده فلا يكون لكم إله غيره، وقد تطلق السماوات على ما دون العرش من العالم العلوي ولاسيما إذا وصفت بالسبع...
وأما هذه الأيام الستة فهي من أيام الله التي يتحدد اليوم منها بعمل من أعماله يكون فيه، فإن اليوم في اللغة هو الزمن الذي يمتاز بما يحصل فيه من غيره كامتياز أيامنا بما يحدها من النور والظلام، وأيام العرب بما كان يقع فيها من الحرب والخصام، وأيام الله التي أمر موسى أن يذكر قومه بها، أي أزمنة نعمه عليهم...
والصواب المعقول أن النظام أدل الدلائل على الإرادة والاختيار والعلم والحكمة في آثار القدرة، وعلى وحدانية الخالق، فإن وحدة النظام في العالم أظهر البراهين على وحدة الرب تعالى. وما لا نظام فيه هو الذي قد يخطر في بال رائيه أن وجوده أمر اتفاقي أو من قذفات الضرورة العمياء أو بفعل أكثر من واحد. وأي عاقل لا يفرق بين كومة من الحصى يراها في الصحراء وبين قصر مشيد فيه جميع ما يحتاج إليه مترفو الأغنياء من حجرات ومرافق، أفيعقل أن يكون النظام العام في العالم الأكبر ووحدة السنن التي قام بها بالمصادفة؟ أو أثر إرادات متعددة؟ كلا... وحقيقة الاستواء في اللغة التساوي واستقامة الشيء واعتداله، ومن المجاز كما في الأساس: استوى على الدابة وعلى السرير والفراش، وانتهى شبابه، واستوى على البلد اه... لم يشتبه أحد من الصحابة في معنى استواء الرب تعالى على العرش، على علمهم بتنزهه سبحانه عن صفات البشر وغيرهم من الخلق، إذ كانوا يفهمون أن استواءه تعالى على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السماوات والأرض له وانفراده هو بتدبيره. وأن الإيمان بذلك لا يتوقف على معرفة كنه ذلك التدبير وصفته وكيف يكون، بل لا يتوقف على وجود عرش، ولكن ورد في الكتاب والسنة أن لله عرشا خلقه قبل خلق السماوات والأرض. وأن له جملة من الملائكة، فهو كما تدل اللغة مركز تدبير العالم كله...
والقاعدة التي كانوا عليها في كل ما أسنده الرب تعالى إلى نفسه من الصفات والأفعال التي وردت في اللغة في استعمالها في الخلق أن يؤمنوا بما تدل عليه من معنى الكمال والتصرف مع التنزيه عن تشبيه الرب بخلقه فيقولون، إنه اتصف بالرحمة والمحبة واستوى على عرشه، بالمعنى الذي يليق به، لا بمعنى الانفعال الحادث الذي نجده للحب والرحمة في أنفسنا، ولا ما نعهده من الاستواء والتدبير من ملوكنا. وحسبنا أن نستفيد من وصفه بهاتين الصفتين أثرهما في خلقه، وأن نطلب رحمته ونعمل ما يكسبنا محبته، وما يترتب عليهما من مثوبته وإحسانه، ونستفيد من الاستواء على عرشه كون الملك والتدبير له وحده فلا نعبد غيره ولذلك قرنه في آخر آية يونس بقوله: {ما من شفيع إلا من بعد إذنه} (يونس 3) وفي سورة الم السجدة: {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} (السجدة 3) وهذا يؤيد ما صدرنا به تفسير الآية من أنها كأمثالها تقرر وحدانية الربوبية على أنها حجة لوحدانية الإلهية وإبطال عبادة غيره تعالى معه بمعنى ما كانوا يدعونه من الشفاعة...
{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر} "ألا "أداة يفتتح بها القول الذي يهتم بشأنه، لأجل تنبيه المخاطب لمضمونه وحمله على تأمله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره. ألا له الخلق والأمر. تبارك الله رب العالمين).. إن عقيدة التوحيد الإسلامية، لا تدع مجالاً لأي تصور بشري عن ذات الله سبحانه؛ ولا عن كيفيات أفعاله.. فالله سبحانه ليس كمثله شيء.. ومن ثم لا مجال للتصور البشري لينشئ صورة عن ذات الله. فكل التصورات البشرية إنما تنشأ في حدود المحيط الذي يستخلصه العقل البشري مما حوله من أشياء. فإذا كان الله -سبحانه- ليس كمثله شيء، توقف التصور البشري إطلاقاً عن إنشاء صورة معينة لذاته تعالى. ومتى توقف عن إنشاء صورة معينة لذاته العلية فإنه يتوقف تبعاً لذلك عن تصور كيفيات أفعاله جميعاً. ولم يبق أمامه إلا مجال تدبر آثار هذه الأفعال في الوجود من حوله.. وهذا هو مجاله.. ومن ثم تصبح أسئلة كهذه: كيف خلق الله السماوات والأرض؟ كيف استوى على العرش؟ كيف هذا العرش الذي استوى عليه الله سبحانه؟!... تصبح هذه الأسئلة وأمثالها لغوا يخالف توجيهها قاعدة الاعتقاد الإسلامي. أما الإجابة عليها فهي اللغو الأشد الذي لا يزاوله من يدرك تلك القاعدة ابتداء! ولقد خاضت الطوائف -مع الأسف- في هذه المسائل خوضاً شديداً في تاريخ الفكر الإسلامي، بالعدوى الوافدة على هذا الفكر من الفلسفة الإغريقية! فأما الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، فهي كذلك غيب لم يشهده أحد من البشر ولا من خلق الله جميعاً: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم.. وكل ما يقال عنها لا يستند إلى أصل مستيقن. إنها قد تكون ست مراحل. وقد تكون ستة أطوار. وقد تكون ستة أيام من أيام الله التي لا تقاس بمقاييس زماننا الناشئ من قياس حركة الأجرام -إذ لم تكن قبل الخلق هذه الأجرام التي نقيس نحن بحركتها الزمان!.. وقد تكون شيئاً آخر.. فلا يجزم أحد ماذا يعني هذا العدد على وجه التحديد.. وكل حمل لهذا النص ومثله على "تخمينات "البشرية التي لا تتجاوز مرتبة الفرض والظن- باسم "العلم!" -هو محاولة تحكمية، منشؤها الهزيمة الروحية أمام "العلم" الذي لا يتجاوز في هذا المجال درجة الظنون والفروض!... ولا ينسينا الهدف العظيم الذي يستهدفه السياق القرآني بهذا الاستعراض، أن نقف لحظات أمام روعة المشاهد وحيويتها وحركتها وإيحاءاتها العجيبة. فهي من هذه الوجهة كفء للهدف العظيم الذي تتوخاه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. والاستواء حقيقتهُ: الاعتدال، والذي يؤخذ من كلام المحقّقين من علماء اللّغة والمفسّرين أنّه حقيقة في الارتفاع والاعتلاء، كما في قوله تعالى في صفة جبريل {فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى} [النجم: 6 8].
والاستواء له معان متفرّعة عن حقيقته، أشهرها القصد والاعتلاء، وقد التُزم هذا اللّفظ في القرآن مسنداً إلى ضمير الجلالة عند الإخبار عن أحوال سماوية، كما في هذا الآية. ونظائرُها سبعُ آيات من القرآن: هنا. وفي يونس، والرّعد، وطه، والفرقان، وألم السجدة، والحديد، وفُصِّلت. فظهر لي أنّ لهذا الفعل خصوصيّة في كلام العرب كان بِسببها أجدرَ بالدّلالة على المعنى المرادِ تبليغُه مجملاً ممّا يليق بصفات الله ويقرّب إلى الأفهام من معنى عظمته، ولذلك اختِير في هذه الآيات دون غيره من الأفعال التي فسّره بها المفسّرون.
فالاستواء يعبِّر عن شأن عظيم من شؤون عظمة الخالق تعالى، اختير التّعبير به على طريق الاستعارة والتّمثيلِ: لأنّ معناه أقرب معاني المواد العربيّة إلى المعنى المعبّر عنه من شؤونه تعالى، فإنّ الله لمّا أراد تعليم معاننٍ من عالم الغيب لم يكن يتأتى ذلك في اللّغة إلاّ بأمثلة معلومة من عالم الشّهادة، فلم يكن بد من التّعبير عن المعاني المغيّبة بعبارات تقرّبها ممّا يعبر به عن عالم الشّهادة، ولذلك يكثر في القرآن ذكر الاستعارات التّمثيليّة والتّخييليّة في مثل هذا ...
... والتّسخير حقيقته تذلِيل ذي عمل شاققٍ أو شاغل بقهر وتخويف أو بتعليم وسياسة بدون عوض، فمنه تسخير العبيد والأسرى، ومنه تسخير الأفراس والرّواحل، ومنه تسخير البقر للحلب، والغنم للجزّ. ويستعمل مجازاً في تصريف الشّيء غير ذي الإرادة في عمل عجيب أو عظيم من شأنه أن يصعب استعماله فيه، بحيلة أو إلهام تصريفاً يصيّره من خصائصه وشؤونه، كتسخير الفُلك للمخر في البحر بالرّيح أو بالجذف، وتسخير السّحاب للأمطار، وتسخير النّهار للعمل، واللّيل للسّكون، وتسخير اللّيل للسّير في الصّيف، والشّمس للدّفء في الشّتاء، والظلّ للتبرد في الصّيف، وتسخير الشّجر للأكل من ثماره حيث خلق مجرّداً عن موانع تمنع من اجتنائه مثل الشّوك الشّديد، فالأسد غير مسخّر بهذا المعنى ولكنّه بحيث يسخر إذا شاء الإنسان الانتفاع بلحمه أو جلده بحيلة لصيده بزُبية أو نحوها، ولذلك قال الله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه} [الجاثية: 13] باعتبار هذا المجاز على تفاوت في قوّة العلاقة. فقوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} أطلق التّسخير فيه مجازاً على جعلها خاضعة للنّظام الذي خلقها الله عليه بدون تغيير، مع أنّ شأن عظمها أن لا يستطيعَ غيره تعالى وضعها على نظام محدود منضبط.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والمراد من «الأمر» هو السنن والقوانين الحاكمة على عالم الوجود بأسره بأمر الله تعالى، والتي تقود الكون في مسيره المرسوم له. إن هذا التعبير في الحقيقة ردّ على الذين يتصورون أنّ الله خلق الكون ثمّ تركه لحاله وأهله، وجلس جانباً. أي إنّ العالم بحاجة إلى الله في وجوده وحدوثه، دون بقائه واستمراره. إنّ هذه الجملة تقول: كلاّ، بل إنّ العالم كما يحتاج إلى حدوثه إلى الله، كذلك يحتاج إليه في تدبيره واستمرار حياته وإدارة شؤونه إلى الله، ولو أنّ الله صرف عنايته ولطفه عن الكون لحظة واحدة لتبدد النظام وانهار وانهدم بصورة كاملة.