جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَ يَطۡلُبُهُۥ حَثِيثٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۭ بِأَمۡرِهِۦٓۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (54)

{ إِنَّ رَبَّكُمُ{[1623]} اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي : في مقدار ستة أيام الدنيا أو أيام الآخرة كل يوم ألف سنة{[1624]} { ثم استوى{[1625]} على العرش } أجمع السلف على أن استواءه على العرش صفة له بلا كيف نؤمن به ونكل العلم إلى الله تعالى وليس المراد منه خلق العرش بعد السماوات والأرض كما فسر بعض العلماء { يُغشي الليل النهار } يغطيه به وفيه حذف ، أي : ويغشى النهار الليل ولم يذكر للعلم به { يطلبه حثيثا } يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء ، والجملة حال من النهار وحثيثا صفة مصدر ، أي : طلبا سريعا { والشمس } عطف على السماوات { والقمر والنجوم مسخّرات } نصب على الحال { بأمره } بقضائه وتصريفه { ألا له الخلق } لا خالق إلا هو { والأمر } لا يجري{[1626]} في ملكه إلا ما يشاء { تبارك الله } تعالى وتعظم { رب العالمين } .


[1623]:ولما كان مدار القرآن على أصول أربعة التوحيد والنبوة والمعاد والقدرة وبين كلا من الأربعة وأطال الكلام فيها رجع إلى بيان كل منها مفصلا ومجملا لأجل جدال الخصم وعناده فقال: (إن ربكم) الآية/12 وجيز.
[1624]:وقدرته الشاملة وسعت أن يخلقها في لمحة لكن حكمته الباهرة اقتضت المدة وعلمها عند الله تعالى/12 وجيز.
[1625]:قال الكلبي ومقاتل: استقر، وقال أبو عبيدة: صعد. ذكر القولين البغوي في تفسيره، وفي صحيح البخاري في كتاب الرد على الجهمية قال أبو العالية (استوى على السماء): ارتفع، وقال مجاهد (استوى على العرش): علا على العرش انتهى. وأبو العالية هذا تابع بصري راو عن ابن عباس، وفي كتاب العلو للحافظ الذهبي قال إسحاق بن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: (الرحمن على العرش استوى) (طه: 5)، أي: ارتفع، وقال محمد بن جرير الطبري في قوله (ثم استوى على العرش الرحمن) (الفرقان: 59)، أي: علا وارتفع وقال الفراء (ثم استوى) أي: قعد قاله ابن عباس، وهو كقولك للرجل: كان قاعدا ثم استوى قائما رواه البيهقي في الصفات له، وروى الدارقطني عن إسحاق الكاذي قال: سمعت أنا أبا العباس ثعلبا يقول في (استوى على العرش) علا واستوى بوجهه أقبل، واستوى القمر امتلأ، واستوى زيد وعمرو تشابها، واستوى إلى السماء أقبل هذا الذي يعرف من كلام العرب، وقال داود بن علي كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال: ما معنى قوله (على العرش استوى)؟ قال: هو على عرشه كما أخبر، فقال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى. فقال: اسكت لا يقال استولى على الشيء حتى يكون له مضادا فإذا أغلب أحدهما قيل: استولى. وقال محمد بن أحمد بن النصر: سمعت ابن الأعرابي صاحب اللغة يقول: أرادني ابن أبي داود أن أطلب له في بعض لغات العرب ومعانيها (الرحمن على العرش استوى) بمعنى استولى فقلت: والله ما يكون هذا، ولا أجبته، وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن الربيع بن أنس استوى أي: ارتفع، وقال البغوي في تفسيره: قال ابن عباس وأكثر مفسري القرآن: ارتفع إلى السماء، وقال الخليل بن أحمد في (ثم استوى إلى السماء) (البقرة: 29، فصلت: 11)، ارتفع رواه أبو عمرو بن عبد البر في شرح الموطأ له انتهى. وذكر الذهبي في موضع آخر من الكتاب المذكور بسنده عن محمد بن جرير الطبري: وحسب أمرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى فمن تجاوز عن ذلك فقد خاب وخسر ومحمد بن جرير هو أحد الأئمة الكبار في وقته في التفسير والحديث والفقه والتاريخ وصاحب المصنفات الكثيرة ذكره أبو إسحاق وذكر ترجمته إلى أن قال: وقال أبو حامد الأسفراني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرا أو كلاما هذا معناه، وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: ما على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير، قلت: فمن أراد الإنصاف فليطالع تفسيره في آيات الصفات والعلو في مواردها، فمن ذلك قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء) نقل فيه عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع وقال في تفسير قوله (ثم استوى على العرش) في كل مواضعه أي: علا وارتفع وانتهى/12.
[1626]:قال سفيان بن عيينة: فرق الله بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر نقل عنه البغوي في التفسير، وفي البخاري قال ابن عيينة: بين الله الخلق من الأمر بقوله (ألا له الخلق والأمر) انتهى. قال الحافظ ابن الحجر في فتح الباري: سئل سفيان بن عيينة عن القرآن أمخلوق هو؟ فقال: يقول الله تعالى: (ألا له الخلق والأمر) ألا ترى كيف فرق بين الخلق والأمر، فالأمر كلامه، فلو كان كلامه مخلوقا لم يفرق، ووضع البخاري بابا في صحيحه فقال: باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب وأمره فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير المخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون/انتهى 12.