غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَ يَطۡلُبُهُۥ حَثِيثٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۭ بِأَمۡرِهِۦٓۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (54)

54

التفسير : لما بالغ سبحانه في تقرير أمر المعاد عاد على عادته إلى بيان المبدإ وهو ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القدرة والعلم تأكيداً للمعاد . والمعنى إن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكاره هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأجسام الجسام وأودع فيها أنواع المنافع وأصناف الفوائد ، فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات ويعوّل على غيره في تحصيل السعادات ؟ قال علماء الأدب : أصل ست سدس بدليل سديس وأسداس . ثم إن العرب كانوا يخاطبون اليهود فالظاهر أنهم سمعوا بعض أوصاف الخالق منهم فكأنه سبحانه يقول : لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السموات والأرض على غاية عظمتها ونهاية جلالتهما في ستة أيام . قيل : إنه تعالى كان قادراً على إيجادهما دفعة واحدة فما الفائدة في ذكر أنه خلقهما في ستة أيام في أثناء ذكر ما يدل على وجود الصانع ؟ وأجيب بأنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور والصبر فيها كيلا يحمل المكلف تأخير الثواب والعقاب على التعطيل . ومن العلماء من قال : إن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذلك إنما وقع على سبيل الاتفاق ، أما إذا أحدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للحكمة والمصلحة كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث حكيم عليم قادر رحيم . وأيضاً ثبت بالدليل أنه تعالى يخلق العاقل أوّلاً ثم يخلق السموات والأرض بعده لأن خلق ما لا ينتفع به في الحال يجر إلى العبث . ثم إن ذلك العاقل - ملكاً كان أو جنياً - إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على سبيل التعاقب والتوالي كان ذلك أقوى في إفادة اليقين لأنه يتكرر على عقله ظهور هذه الدلائل لحظة فلحظة . وأما تقدير المدة بستة أيام فلا يرد عليه إشكال لأن السؤال يعود على أي مقدار فرض ، وقيل : إن لعدد السبعة شرفاً عظيماً ولهذا خصت ليلة القدر بالسابع والعشرين . فالأيام الستة لتخليق العالم والسابع لتحصيل كمال الملك والملكوت . فإن قيل : كيف يعقل حصول الأيام قبل خلق الشمس التي نيط تقدير الأزمنة بطلوعها وغروبها ؟ فالجواب أن المراد خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام كقوله : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } [ مريم : 62 ] والمراد مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا صباح عند الله ولا مساء . وعن ابن عباس أن هذه الأيام أيام الآخرة كل يوم ألف سنة مما تعدون . والأكثرون على أنها أيام الدنيا لأن التعريف بها يقع . والظاهر أنها الأيام بلياليها لا النهار . ونقول : يمكن أن تحمل الأيام الستة على الأطوار الستة التي للأجسام الهيولي والصورة والجسم البسيط ثم المركب المعدني والنباتي والحيواني والله تعالى أعلم بمراده . أما قوله سبحانه : { ثم استوى على العرش } فحمل بعضهم الاستواء على الاستقرار وزيف بوجوه عقلية ونقلية منها : أن استقراره على العرش يستلزم تناهيه من الجانب الذي يلي العرش ، وكل ما هو متناهٍ فاختصاصه بذلك الحد المعين يستند لا محالة إلى محدث مخصص فلا يكون واجباً . ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون الإله تعالى نوراً غير متناهٍ ويراد باستقراره على العرش بلا تناهيه إحاطته به من الجوانب ونفوذه في الكل لا كإحاطة الفلك الحاوي بالمحوى . ولا كنفوذ النور المحسوس في الشرف ، بل على نحو آخر تعوزه العبارة . ومنها أنه تعالى لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناهٍ من كل الجهات أو متناهياً من بعضها دون بعض . وعلى الأول يلزم اختلاطه بجميع الأجسام حتى للقاذورات ومع ذلك فالشيء الذي هو محل السموات ، إما أن يكون عين الشيء الذي هو محل الأرض أو غيره ، وعلى الأول يلزم أن يكون السماء والأرض حالين في محل واحد فهما شيء واحد لا شيئان . وعلى الثاني يلزم التركيب والتجزئة في ذاته تعالى . وأما إن كان متناهياً من الجهات فلو حصل في جميع الأحياز فهو محال بالبديهة ، وإن حصل في حيز واحد فلو كان جوهراً فرداً لزم أن يكون واجب الوجود أحقر الأشياء وإلا لزم التبعيض لأن جهة الفوق منه تكون مغايرة لمقابلتها . وكذا الكلام فيه إن كان متناهياً من بعض الجهات ، ولو جاز أن يكون الشيء المحدود من جانب أو جوانب قديماً أزلياً فاعلاً للعالم فلم لا يجوز أن يقال فاعل العالم هو الشمس والقمر أو كوكب آخر ؟ وأيضاً يصح على الشق المتناهي أن يكون غير متناهٍ وعلى غير المتناهي أن يكون متناهياً ، لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي فيصح النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفريق والتمزق على ذاته تعالى فيكون ممكناً محدثاً لا واجباً قديماً . ولقائل أن يقول : إنه غير متناهٍ ولا يلزم من ذلك أن يكون محلاً للعالم ولا حالاً فيه ، واستصحاب الشيء للمحل غير كونه نفس المحل أو مفتقراً إلى المحل . وحديث اختلاطه بالقاذورات تخييل لا أصل له عند الرجل البرهاني . ومنها أنه لو كان الباري يتعالى حاصلاً في المكان والجهة لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجوداً مشاراً إليه أو لا يكون . فإن كان موجوداً كان له بعد وامتداد وللحاصل فيه أيضاً بعد وامتداد فيلزم تداخل البعدين ومع ذلك يلزم كون الجهة والحيز أزليين ضرورة كون الباري تعالى أزلياً ومحال أن يكون ما سوى الواجب أزلياً ، وإن لم يكن موجوداً لزم كون العدم المحض ظرفاً لغيره ومشاراً إليه بالحس وذلك باطل . واعترض بأن ذلك أيضاً وارد عليكم في قولكم : «الجسم حاصل في الحيز والجهة » . وأجيب بأن مكان الجسم عندنا عبارة عن السطح الظاهر من الجسم المحوي وهذا المعنى بالاتفاق في حق الله محال فسقط الاعتراض . ولقائل أن يقول : الجهة مقطع الإشارة الحسية وهذا في حقه محال لعدم تناهيه . ولم لا يجوز أن يكون المكان خلاء فلا يلزم تداخل البعدين ولو لزم هناك لزم في الأجسام أيضاً بل لا بعد هناك ولا امتداد ، ولو فرض فلن يلزم منه الانقسام في الخارج ، ومنها أنه لو امتنع وجود الباري تعالى بحيث لا يكون مختصاً بالحيز والجهة لكانت ذاته مفتقرة في تحققها ووجودها إلى غيره فيكون ممكناً . والجواب ما مر من أن استصحاب المكان لا يوجب الافتقار إليه . ومنها أن الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض ، ولأن هذا المفهوم واحد فالأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية . فلو اختص ذاته تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به لمخصص مختار ، وكل ما كان فعل الفاعل المختار فهو محدث ، فحصوله في الحيز محدث وكل ما لا يخلو عن الحادث فهو أولى بالحدوث فالواجب محدث هذا خلف . ولقائل أن يقول : ما لا يتناهى لا يعقل له حيز معين ولو فرض لا تناهي الأحياز أيضاً فافتقاره إليها ممنوع ، وكيف يفتقر الشيء إلى ما تأخر وجوده عن وجود ذلك الشيء والمعية بعد ذلك لا تضر ؟ ومنها لو كان في الحيز والجهة لكان مشاراً إليه بالحسن ، ثم إن كان قابلاً للقسمة لزم التجزي وإلا لكان نقطة أو جوهراً فرداً فلا يبعد أن يقال : إن إله العام جزء من ألف جزء من رأس إبرة ملتصقة بذنب قملة أو نملة . ولقائل أن يقول : لا نسلم أن كونه مع الحيز من جميع الجهات المفروضة يستلزم كونه مشاراً إليه حساً فإن العقل يعجز عن إدراكه فضلاً عن الحس وباقي الكلام لا يستحق الجواب . ومنها كل ذات قائمة بالنفس يشار إليها بحسب الحس فلا بد أن يكون جانب يمينه مغايراً لجانب شماله فيكون منقسماً وكل منقسم مفتقر ممكن . قالوا : هذا الدليل مبني على نفي الجوهر الفرد . ومنها لو كان في حيز لكان إما أعظم من العرش أو مساوياً له أو أصغر منه والثالث باطل بالإجماع والأولان يستلزمان الانقسام لأن المساوي للمنقسم منقسم وكذا الزائد عليه ، لأن القدر الذي فضل به عليه مغاير لما سواه . ولقائل أن يقول : لا نسبة بين الجسم وبين نور الأنوار وتستحيل هذه التقادير . ومنها أنه لو فرض كونه تعالى غير متناهٍ من جميع الجهات كما يزعم الخصم لزم لا تناهي الأبعاد وإنه محال لبرهان تناهي الأبعاد . ولقائل أن يقول : إن برهان تناهي الأبعاد لا يسلم ولو سلم فلا بعد فيما وراء العالم الجسماني ولا امتداد . ومنها أنه سبحانه لو كان حاصلاً في الحيز لكان كونه هناك أما أن يمنع من حصول جسم آخر فيه أو لا يمنع . وعلى الأول كان تعالى مساوياً لجميع الأجسام في هذا المعنى ، ثم إنه إن لم تحصل بينه وبينها ومخالفة بوجه آخر صح عليه ما يصح عليها من التغيرات وإنه محال ، وإن حصل بينه وبينها مخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايراً لما به المخالفة فيكون الواجب مركبا بل ممكناً . وأيضاً إن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إما أن يكون محلاً لما به المخالفة أو حالاً فيه أو لا هذا ولا ذاك . فإن كان محلاً له كان البعد جوهراً قائماً بنفسه والأمور التي بها حصلت المخالفة أعراضاً وصفات ، وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما يصح على بعضها يصح على البواقي ، وكل ما يصح على بعض الأجسام من التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد يصح على ذاته تعالى . وإن كان ما به المخالفة محلاً وذوات وما به المشاركة حالاً وصفة فذلك المحل إن كان له أيضاً اختصاص بحيز وجهة فيجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية وإلا كان موجوداً مجرداً فلا يكون بعداً وامتداداً هذا خلف . وإن لم يكن حالاً ولا محلاً كان أجنبياً مبايناً فتكون ذات الله تعالى مساوية لتمام الأجسام في الماهية ويصح عليه ما يصح عليها هذا محال ، وعلى التقدير الثاني - وهو أن ذاته تعالى لا تمنع من حصول جسم آخر في حيزه - لزم سريانه في ذلك الجسم وتداخل البعدين كما مر والكل محال ، فالمقدم وهو كونه تعالى في حيز محال ولقائل أن يقول : كون البارئ تعالى مع الحيز مغاير لكون الجسم في الحيز فأين الاشتراك ؟ ولو سلم فالاشتراك في اللوازم لا يوجب الاشتراك في الملزومات فمن أين يلزم التركيب ؟ قوله : «فإن كان محلاً له كان البعد جوهراً قائماً بنفسه » قلنا : كون البعد جوهراً قائماً بنفسه حق ، ولكن الملازمة ممنوعة ، وكذا قوله : «الأمور التي بها حصلت المخالفة » أعراض وصفات لجواز قيام العرض بالعرض كالبطء والسرعة القائمين بالحركة ، قوله : «وإلا كان موجوداً مجرداً فلا يكون بعداً » ممنوع لما قلنا من احتمال وجود بعد مجرد بلا وجوبه ، والكلام في سريانه في الموجودات قد مر . ومنها أنه لو كان في حيز فإن أمكنه التحرك منه بعد سكونه فيه كان المؤثر في حركته وسكونه فاعلاً مختاراً ، وكل فعل لفاعل مختار فهو محدث وما لا يخلو عن المحدث أولى بأن يكون محدثاً وإن لم يمكنه التحرك منه كان كالزمن المعقد العاجز وذلك محال . وأيضاً لا يبعد فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عنها فلا يمكن إثبات حدوث الأجسام بدليل الحركة والسكون والكرامية يساعدون على أنه كفر . ولقائل أن يقول : إن الحركة والسكون من خواص الأجسام المفتقرة إلى أحياز ، فأما النور المجرد فلا يوصف بالحركة والسكون وإن كان مع الحيز والمتحيز . سلمنا وجوب اتصافه بأحدهما فلم لا يجوز أن لا يمكنه التحرك لا لكونه زمناً مقعداً ولكن لأنه نور غير متناهٍ لا يصح وصفة بالتخلخل والتكاثف ونحو ذلك ، فتستحيل عليه الحركة لأنها موقوفة على شغل حيز وتفريغ حيز آخر ، ولأن العالم النوراني الذي لا نهاية له مملوء منه فكيف يتصور خلو حيز عنه ؟ ومنها أنه لو كان مختصاً بحيز فإن كان لطيفاً كالماء والهواء كان قابلاً للتفرق والتمزق ، وإن كان صلباً كان إله العالم جبلاً واقفاً في الحيز العالي ، وإن كان نوراً محضاً جاز أن تفرض هذه الأنوار التي تشرق على الجدران إلهاً . وأيضاً إن كان له طرف وحدّ فإن كان ذا عمق وثخن كان باطنه غير ظاهره وإلا كان سطحاً في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منها ألف ألف مرة . قلت : إن أمثال هذه الكلمات لا تصدر إلا عمن لا يفرق بين النور المعقول والنور المحسوس ، والجوهر المجرد والجوهر المادي ، والشيء القائم بذاته والمفتقر إلى غيره . ومن العجب العجاب أن هذا المستدل قد سمع من جمهور العقلاء أن الأجرام الفلكية لا تطلق عليها الصلابة واللين ، وإذا جاز أن يكون في أنواع الأجسام نوع لا يمكن أن يتصف بهذين المتقابلين لأن ذلك الموضع أجل وأشرف من أن يتصف بأحدهما ، فلم لا يجوز أن يكون فيما هو أشرف من ذلك النوع شيء لا يتصف بهما ؟ ! ومنها لو كان إله العالم فوق العرش لكان مماساً للعرش أو مبايناً له ببعد متناهٍ أو غير متناهٍ .

وعلى الأول فإن لم يكن له ثخن كان سطحاً رقيقاً كما مر ، وإن كان له ثخن فالمماس مغاير لغير المماس ويلزم تركيبه ، وإن كان مبايناً ببعد متناهٍ فلا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى أن يماسه ويعدو الإلزام المذكور ، وإن كان مبايناً ببعد غير متناهٍ لزم أن يكون غير المتناهي محصوراً بين الحاصرين ، ولقائل أن يقول : المباينة والمماسة من خواص الأجسام وإنه تعالى نور مجرد محض فلا يصلح عليه الاتصال والانفصال والتماس والتباين والتداخل وأشباه ذلك . ومنها أن الاستقراء قد دل على أن الجرمية كلما كانت أقوى كانت الفاعلية والتأثير أضعف وبالعكس ، ولهذا كان تأثير الأرض أقل من تأثير الماء ، وتأثير الماء من تأثير الهواء ، وتأثير الهواء من تأثير النار بالإحراق والطبخ ، وتأثير النار من تأثير الأفلاك المؤثرة في العنصريات . ثم إنه لا قدرة ولا قوة أشد من قدرة الواجب لذاته فيكون بريئاً من الحجم والجرم والكثافة والرزانة . قلت : في الاستقراء نزاع إنه صحيح أولاً ، ولكن لا نزاع في أن واجب الوجود تعالى شأنه بريء عن الحجمية والكثافة وعن كل شيء يقدح في قيوميته . وهاهنا حجج قد أوردت في أوائل سورة الأنعام في تفسير قوله سبحانه :

{ وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام : 18 ] وقد عرفت ما عليها فهذه حجج عقلية عول عليها الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه في تفسيره الكبير ، وقد أوردنا عليها ما كانت ترد من المنوع والاعتراضات لا اعتقاداً للتشبيه والتجسم أو تقليداً لأولئك الأقوام بل تشحيذاً للذهن وتقريباً إلى المعارف والحقائق وجذباً بضبع المتأمل في المضايق والمزالق فليختر المنصف ما أراد والله الموفق للرشاد . ولعل هذا المقام مما لا يكشف المقال عنه غير الخيال والله أعلم بحقيقة الحال . ثم قال رضي الله عنه : وأما الدلائل السمعية فكثيرة منها قوله تعالى : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] والأحد مبالغة في كونه واحداً والذي يمتلئ منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركباً من أجزاء فوق أجزاء العرش وذلك ينافي كونه أحداً . وأجيب بأنه ذات واحدة حصلت في كل الأحياز دفعة واحدة ، وزيف بأن هذا معلوم الفساد بالضرورة لو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال جميع العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة الأحياز فظن أنه أشياء كثيرة . قلت : وهذه مغالطة فإن هذا الجزء الذي لا يتجزأ لصغره غير الشيء الذي لا يقبل التجزئة والانقسام لذاته . وأيضاً المتحيز الذي مقداره ذراع في ذراع لا يشغل بالبديهة حيزين كل منهما ذراع في ذراع فلزم منه أن لا يشغل ذينك الحيزين متحيز مقداره . ضعف ذلك على أن الحق ما عرفت مراراً أن نور الأنوار قيوم في ذاته حاصل في جميع الأشياء لا منفصل عنها انفصال المحيط عن المحاط ، ولا متصل بها اتصال العرض الساري في الأجسام ، ولهذا لا يلزمه بانقسامها الانقسام . ومنها قوله : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] ويلزم منه أن يكون حامل العرش حاملاً للإله . والجواب أنك إن سميت المعية حملاً فلا نزاع . ومنها قوله : { والله الغني } [ محمد : 38 ] فوجب أن يكون غير مفتقر إلى المكان والجهة ، والجواب أن الاستصحاب غير الافتقار . ومنها أن فرعون طلب حقيقة الإله في قوله : { وما رب العالمين } [ الشعراء : 23 ] ولم يزد موسى على ذكر الأوصاف . وأما فرعون فقد طلب الإله في السماء في قوله { فاطلع إلى إله موسى } [ القصص : 38 ] فعلمنا أن التنزية دين موسى ووصفه بالمكان والحيز دين فرعون . والجواب لا نزاع في أن حقيقة ذاته كما هي لا يعلمها إلا هو والبسائط المحضة لا تعرف إلا بلوازم ، وطلب فرعون إنما كان مذموماً لأنه تصور أن يكون الإله شخصاً مثله على تقدير وجوده لقوله : { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] . ومنها هذه الآية لأنها تدل على أنه استقر على العرش بعد تخليق السموات والأرض وكان قبل ذلك مضطرباً . والجوب المراد بالاستقرار أنه كان ولم يكن معه شيء فإذا خلق ما خلق من عالم الأجسام والاختلاط بقي ما وراءه نوراً محضاً . ومنها قصة إبراهيم وتبرئه من الآفلين ولو كان جسماً لكان آفلاً في أفق الإمكان . والجواب أن نور الأنوار أجل من ذلك ولا يلزم من كونه مع جميع الأحياز ومع ما سواها أن يكون في مرتبة الأجسام بل النفوس والعقول . ومنها أن أول الآية أعني قوله : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض } يدل على قدرته وحكمته وكذا قوله { يغشي الليل النهار } إلى آخر الآية . فلو كان المراد من الاستواء هو الاستقرار كان أجنبياً عما قبله وعما بعده لأنه ليس من صفات المدح إذ لو استقر عليه بق وبعوض صدق عليه أنه استقر على العرش . فإذن المراد بالاستواء كمال قدرته في تدبير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها . والجواب أن الاستقرار بالتفسير الذي ذكرناه أدل شيء على المدح والثناء ، وحديث البق والبعوض خراف وهل هو إلا كقول القائل : لو كان واجب الوجود بقاً أو بعوضاً صدق عليه أنه إله فلا يكون الإله دالاً على المدح . ومنها أنه سبحانه حكم في آيات كثيرة بأنه خالق السموات فلو كان فوق العرش كان سماء لساكني العرش لأن السماء عبارة عن كل ما علا وسما ، ومن هنا قد يسمى السحاب سماء فيلزم أن يكون خالقاً لنفسه . والجواب بعد تسليم أن كل ما سما وارتفع فهو سماء من غير اعتبار أنه نور أو جسم ، أن ذاته سبحانه مخصوصة بدليل منفصل كقوله : { الله خلق كل شيء } [ الرعد : 16 ] هذا ولغير الموسومين بالمجسمة والمشبهة في الآية قولان : الأول القطع بكونه متعالياً عن المكان والجهة ثم الوقوف عن تأويل الآية وتفويض علمها إلى الله ، والثاني الخوض في التأويل وذلك من وجوه : أحدها تفسير العرش بالملك والاستواء بالاستعلاء أي استعلى على الملك . وثانيها : أن «استوى » بمعنى «استولى » كقول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

وثالثها ذكر القفال أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك ، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك . يقال : استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه إذا استقام له أمره واطرد . وفي ضدّه خلا عرشه أي انتقض ملكه وفسد . فالله تعالى دلّ على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم بالوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم لتستقر عظمة الله تعالى في قلوبهم إلا أن ذلك مشروط بنفي التشبيه ، فإذا قال : إنه عالم فهموا منه أنه تعالى لا يخفى عليه شيء ، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة أو روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال : قادر . علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين الممكنات ثم عرفوا أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدّة والفكرة والروية ، وكذا القول في كل من صفاته . وإذا أخبر أن له بيتاً يجب على عباده حجه فهموا منه أنه نصب موضعاً يقصدونه لمآربهم وحوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب ، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكناً لنفسه ولم ينتفع به لدفع الحر والبرد . وإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا أنه لا يفرح بذلك التحميد والتمجيد ولا يحزن بتركه والإعراض عنه . وإذا أخبر أنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش فهموا منه أنه بعد أن خلقهما استوى على عرش الملك والجلال . ومعنى التراخي أنه يظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلقها لأن تأثير الفاعل لا يظهر إلا في القابل . وقال أبو مسلم : العرش لغة هو البناء والعارش الباني قال تعالى : { ومن الشجر ومما يعرشون } [ النحل : 68 ] فالمراد أنه بعد أن خلقها قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها .

قوله سبحانه : { يغشي الليل النهار } قال صاحب الكشاف : يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل يحتملهما اللفظ جميعاً . وقال القفال : لما أخبر بالاستواء على العرش وأن أمر المخلوقات منوط بتدبيره ومشيئته أراهم ذلك عياناً فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر . وقدم ذكر الليل والنهار لما في تعاقبهما من المنافع الجليلة فبهما تتم أمور الحياة ، ثم وصف الحركة التي يحصلان منها بالسرعة والشدةّ فقال { يطلبه حثيثاً } قال الليث : الحث الإعجال وذلك أن حركة الفلك الأعظم أشدّ الحركات سرعة حتى إنها في مقدار ما تقول واحد واحد واحد يتحرك ألفاً وسبعمائة واثنين وثلاثين فرسخاً من مقعر فلكه والله أعلم بتحرك محدبه . فإن قيل : ما محل الجملتين ؟ قلت : أما الأولى فمستأنفة كأنه قيل : فماذا يفعل بعد خلق السموات والأرض ؟ فأجيب يغشي الليل النهار . وعلى قول من يفسر الاستواء بالتدبير والتصرف يحتمل أن تكون هذه الجملة مبينة . وأما الثانية ففي محل النصب على الحال من الملحق كما أن { حثيثاً } منصوب على الحال من الطالب وهو الملحق بعينه . ثم قال : { والشمس والقمر والنجوم مسخّرات } من قرأهن منصوبات فمعناه وخلق هذه الأجرام حال كونهن تحت تسخيره ، ومن قرأها مرفوعات فعلى الابتداء والخبر ، وكلتا القراءتين حسنة لأنك إذا قلت : ضربت زيداً استقام أن يقال زيد مضروب . وقوله : { بأمره } متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره . قال في الكشاف : سمي ذلك أمراً على التشبيه كأنهن مأمورات بذلك . ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الذي هو الكلام ، وعلى هذا لا يبعد أن يكون { بأمره } متعلقاً ب { خلق } . بدأ بالشمس لأنه سلطان الكواكب ، وثنى بالقمر لأنه كالنائب ، وثلث بسائر النجوم لأنها كالخدم . فالشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل ، والشمس تأثيرها بالتسخين ، والقمر تأثيره بالترطيب ، وتوليد المواليد الثلاثة المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة . ثم إنه سبحانه وتعالى خص كل كوكب بخاصية عجيبة وتأثير غريب لا يعلمه بتمامه إلا مبدعه وخالقه ، واعلم أن الأجسام متماثلة في الجسمية ؛ فاختصاص جرم الشمس بالنور الباهر والتسخين الشديد والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلي وكذا تخصيص كل واحد من سائر السيارات والثوابت بقوّة أخرى لا بد أن يستند إلى فاعل حكيم قدير عليم فلهذا قال : { مسخرات بأمره } . وأيضاً إن لكل واحد من أجرام الشمس والقمر والكواكب سيراً خاصاً من المغرب إلى المشرق ، وسيراً آخر سريعاً بسبب حركة الفلك الأعظم ، فقوله : { يغشي الليل النهار } تنبيه على أن حدوث الليل والنهار إنما هو بحركة الفلك الأعظم المسمى بالعرش ، وقوله : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } إشارة إلى أن العرش يحرك جميع الأفلاك والكواكب وأنه سبحانه أودع في جرمه قوّة قاهرة قاسرة باعتبارها قويت على تحريك من دونه على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب . وأيضاً أن أقسام الأجسام ثلاثة : متحرك إلى الوسط وهما العنصران الثقيلان ، ومتحرك عن الوسط وهما الخفيفان ، ومتحرك على الوسط وهي الأجرام الفلكية ، فيكون الأفلاك والكواكب متحركة بالاستدارة لا إلى المركز ولا عن المركز لا يكون إلا بتسخير الله تعالى ، ولأمر ما أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية تبدل الضياء بالظلام وبالعكس ، وأحوال الشمس والقمر والنجوم ، وأمر بالنظر في ملكوت السماء والغبراء وبالتفكر فيهما قائلاً : { أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } [ الأعراف : 185 ] { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها } [ ق : 6 ] { أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } [ الروم : 8 ] وإن من صنف كتاباً شريفاً مشتملاً على دقائق العلوم العقلية والنقلية فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان : منهم من اعتقد كونه كذلك على الإجمال ، ومنهم من وقف على دقائقها على سبيل التفصيل والكمال ، ولا ريب أن اعتقاد الفريق الثاني يكون أكمل وأقوى إذا ثبت هذا فنقول : من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث حصل له بهذا الطريق إثبات الصانع ، أما الذي ضم إلى هذه المعرفة البحث عن أحوال هذا العالم العلوي والعالم السفلي على التفصيل الممكن لا يزال ينتقل من برهان إلى برهان ومن دليل إلى دليل فإن يقينه يتزايد وبصيرته تتكامل إلى أن يصير علماً مقعولاً مضاهياً لما عليه الموجود ، ولمثل هذه الفوائد والأغراض والغايات أنزل هذا الكتاب الكريم لا لتكثير وجوه الإعراب والاشتقاقات المؤدية إلى الإطناب والإسهاب ، وأما قوله عز من قائل { ألا له الخلق والأمر } فالخلق عبارة عن التقدير ويختص بكل ما هو جسم وجسماني لأنه خص بمقدار معين ، فكل ما كان بريئاً عن الحجم والمقدار فهو من عالم الأرواح وعالم الأمر لأنه أوجد بأمر " كن " من غير سبق مادّة ومدّة ، فعالم الخلق في تسخيره وعالم الأمر في تدبيره واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره . وهاهنا مسائل ذكرها العلماء : الأولى أنه تعالى متكلم آمر ناهٍ مخبر مستخبر لأن قوله : { ألا له الخلق والأمر } دل على أن له الأمر فوجب أن يكون له النهي وسائر أنواع الكلام ضرورة أنه لا قائل بالفرق . الثانية لا خالق إلا هو لأن قوله : { ألا له الخلق } بتقديم الخبر يفيد الحصر . ولو سلم أنه لا يفيده فلا أقل من إفادة أنه خالق بعض الأشياء ، وحينئذٍ يثبت المطلوب لأن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه والإمكان مفهوم واحد في الممكنات وإنه علة للحاجة إلى موجود معين ، فجميع الممكنات محتاجة إلى ذلك المعين فالذي يكون مؤثراً في وجود شيء واحد يجب أن يكون هو المؤثر في جميع الممكنات ولا يحتاج إلى الممكنات . الثالثة قالت الأشاعرة : كل أثر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي فخالق ذلك الأثر في الحقيقة هو الله تعالى لقوله : { ألا له الخلق والأمر } ويتفرع على هذا أنه لا إله إلا الله وإلا كان الثاني مدبراً وخالقاً ، وأنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم ، وأن القول بالطبائع والعقول والنفوس على ما يزعم الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل ، وأن خالق أعمال العباد هو الله تعالى والقول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل ، كل ذلك لئلا يلزم خالق ومؤثر غير الله تعالى . الرابعة كلام الله تعالى قديم لأنه ميز بين الخلق وبين الأمر ولو كان أمر الله مخلوقاً لما صح هذا التمييز . أجاب الجبائي بأنه لا يلزم من إفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلاً في الخلق كقوله : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } { البقرة : 98 ] وعارض الكعبي بقوله : { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته } [ الأعراف : 158 ] فإنه لو وجب مغايرة المعطوف للمعطوف عليه لزم أن تكون الكلمات غير الله تعالى ، وكل ما كان غير الله تعالى فإنه محدث ومخلوق فكلمات الله مخلوقة . وقال القاضي : اتفق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام الله تعالى بل المرا به نفاذ إرادته وإظهار قدرته ، وقال قوم : لا يبعد أن يقال الأمر داخل في الخلق ولكنه من حيث كونه أمراً يدل على نوع آخر من الكمال والجلال . والمعنى له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى . ثم بعد الإيجاد والتكوين له الأمر والتكليف في المرتبة الثانية . وقال آخرون : معنى قوله : { ألا له الخلق } أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق ، فقوله : { والأمر } يجب أن يكون معناه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر ، ويلزم منه أن يكون الأمر محدثاً مخلوقاً لأنه لو كان قديماً لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته بل كان من لوازم ذاته فلا يصدق أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر هذا خلف . وأجيب بأنه لو كان الأمر داخلاً تحت الخلق لزم التكرار والأصل عدمه فلا يصار إليه إلا للضرورة ولا ضرورة هاهنا . الخامسة في الآية دلالة على أنه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئاً إلا الله ، ففعل الطاعة لا يوجب الثواب ، وفعل المعصية لا يوجب العقاب ، وإيصال الألم لا يوجب العوض . السادسة دلت الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه ، وأن الحسن لا يحسن لأمر عائد إليه وإلا لم يأمر إلا بما حصل فيه وجه الحسن ولم ينه إلا عما حصل فيه وجه القبح ، فلا يكون متمكناً من الأمر والنهي كيف شاء وأراد هذا خلف . السابعة أطلق الخلق والأمر فيعلم أنه لو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والكواكب في أقل من لحظة لقدر عليه ، لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات . الثامنة قال قوم : الخلق صفة من صفات الله تعالى وهو غير المخلوق لأن أهل السنة يقولون : معنى قوله : { الأمر لله } أنه صفة له فكذا الخلق صفة قائمة بذاته فلا يكون مخلوقاً ، وأجيب بأن الخلق لو كان غير المخلوق فإما أن يكون قديماً ويلزم من قدمه قدم المخلوق ، وإما أن يكون حادثاً فيفتقر إلى خلق آخر ويتسلسل ، ويمكن أن يقال : الصفة قديمة والتعلق حادث . التاسعة له الأمر يقتضي أن لا أمر لله . وقول النبي صلّى الله عليه وآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » لا ينافي ذلك لأن الموجب لأمره في الحقيقة هو أمر الله تعالى ، العاشرة في الآية دلالة على أن الله تعالى أمراً ونهياً على عباده والخلاف مع نفاة التكليف . قالوا : إن كان التكليف معلوم الوقوع كان واجب الوقوع فكان الأمر به تحصيلاً للحاصل ، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع فكان الأمر به أمراً بما يمتنع وقوعه وهو محال . وأيضاً إنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله كان واجب الوقوع وإلا فلا فائدة في الأمر به . وأيضاً الكافر أو الفاسق لا يستفيد بالتكليف ، إلا الضرر المحض لأنه تعالى يعلم أنه لا يؤمن ولا يطيع وخلاف علم الله محال فلا يحصل من الأمر إلا مجرد استحقاق العذاب وهذا لا يليق بالرحيم الحليم . وأيضاً التكليف إن لم يكن لفائدة في الأمر فهو عبث ، وإن كان لفائدة فلا بد أن تعود إلى المكلف لأنه سبحانه غني فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل نفع أو دفع ضر والله تعالى قادر على تحصيلهما للمكلف من غير واسطة التكليف فكان توسيط التكليف إضراراً محضاً . والجواب أن أوّل الآية دل على أنه تعالى هو الخالق لكل العبيد ، وإذا كان خالقاً لهم كان مالكاً لهم ، وتصرف المالك في ملك نفسه كيف شاء مستحسن ، ويحسن منه تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقاً لا كما يقول المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحاً أو من كونه موجب عوض أو ثواب . ولما بين أن له الأمر والنهي والحكم والتكليف ذكر أنه يستحق الثناء والتقديس فقال : { تبارك الله رب العالمين } وللبركة تفسيران : أحدهما الثبات والدوام ولا ريب أنه الواجب لذاته القائم بذاته الدائم الغني بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه . وثانيهما كثرة الآثام الفاضلة . ولا شك أن كل الخيرات والكمالات فائضة من جوده وإحسانه بل جميع الممكنات رشحة من بحار فضله وامتنانه .

/خ58