التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَ يَطۡلُبُهُۥ حَثِيثٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۭ بِأَمۡرِهِۦٓۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (54)

( 1 ) يغشى الليل النهار : يغطي بالليل النهار ويدخله عليه .

( 2 ) يطلبه حثيثا : حثيثا بمعنى سريعا أو متواليا ويطلبه أي يجري وراءه ليدركه .

54

تعليق على الآية

{ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض

في ستة أيام ثم استوى على العرش }

إن جملة { خلق السماوات والأرض في ستة أيام } تأتي هنا لثاني مرة . وقد جاءت للمرة الأولى في سورة [ ق ] التي مر تفسيرها وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار .

وكلمة [ العرش ] وردت في السورة التي سبق تفسيرها أكثر من مرة . وعلقنا على مدى الكلمة في سورة التكوير بما يغني عن التكرار كذلك .

أما جملة { ثم استوى على العرش } فإنها تأتي هنا للمرة الأولى . وقد تكررت بعد ذلك . وقد تعددت الأقوال في مداها . فمما قاله البغوي : إن المعتزلة أولت الاستواء بالاستيلاء ، وأن أهل السنة قالوا : إن الاستواء على العرش سنة الله تعالى بلا كيف ويجب على المسلم الإيمان به ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل .

وروى أن رجلا سأل الإمام مالك بن أنس عن الجملة ، فأطرق رأسه مليا وعلاه الرجفاء ، ثم قال له : الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . وما أظنك إلا ضالا ، ثم أمر به فأخرج . ومما قاله ابن كثير : إن للناس في هذا الأمر مقالات كثيرة جدا . وإن خير مسلك هو مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا ، وهو إمرار الجملة كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ، ولا تعطيل . وإن الظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله تعالى فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه و{ ليس كمثله شيء } . وإن بعض الأئمة ومنهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قالوا : من شبه الله بخلقه كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه ، ومن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عنه النقائص فقد سلك سبيل الهدى . وهذا يفيد أن من المقالات ما كان يذهب أصحابه إلى أخذ العبارة بظاهرها بدون تأويل ولو أدى ذلك إلى اعتبار الله تعالى وعرشه مادة وكون الله تعالى يجلس على عرشه كجلوس الملوك على الأسرة والعروش المادية .

وروى الطبرسي عن الحسن أن استوى بمعنى : استقر ملكه واستقام بعد خلقه السماوات والأرض . وقال : إن ذلك هو على المتعارف من كلام العرب ؛ حيث يقولون استوى الملك على عرشه إذا انتظمت أمور مملكته وشل عرشه إذا اختلت . ومما قاله السيد رشيد رضا : إن حقيقة الاستواء في اللغة التساوي واستقامة الشيء أو اعتداله . ويستعمل على الأكثر في المجاز فيقال : استوى على الدابة وعلى السرير وعلى الفراش ، ويكون بمعنى التملك . ثم استطرد إلى القول : إن أحدا من أصحاب رسول الله لم يشتبه في معنى استواء الله على العرش على علمهم بتنزهه سبحانه عن صفات البشر وغيرهم من الخلق ؛ إذ كانوا يفهمون أن استواءه على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السماوات والأرض له وانفراده بتدبيره . وإن عقيدة التنزيه القطعية الثابتة بالنقل والعقل مانعة لكل منهم أن يتوهم أن في التعبير بالاستواء على العرش شبهة تشبيه للخالق بالمخلوق .

وفي تفسير القاسمي فصل طويل جدا بلغت صفحاته خمسا وخمسين ولعله أطول فصل عقده على أي موضوع . وفي هذا الفصل أقوال ومذاهب مختلف الجماعات والفرق الإسلامية من أهل السنة والجماعة والسلف الصالح والمعتزلة والمشبهة والظاهرية . ومناقشات وردود على هؤلاء خاصة منه ومن علماء وأئمة أهل السنة والجماعة والسلف الصالح الذين يلتزم أقوالهم التي لخصها ابن كثير والبغوي ورشيد رضا وأوردناها قبل قليل بسبيل تفنيد ما يمكن أن تؤدي إليه أقوالهم من مناقضة لما ينبغي أن يكون لله من صفات مبرأة من شوائب الجسمانية والمشابهة لخلقه أو الحلول أو التحديد في جهة ما . واهتم فيما اهتم لتفنيد تفسير المعتزلة لكلمة { استوى } بمعنى استولى ، من حيث أن ذلك يؤدي إلى معنى استيلاء الله عرشه بعد أن لم يكن مستوليا عليه مما هو مناف لأزليته وأزلية صفاته التي منها ملك كل شيء ، مع أن المتبادر لنا أن مقصودهم هو نفي الاستواء المادي على العرش المادي وصرف الكلمة إلى معنى مجازي . ولا يعقل أن يكونوا أرادوا القول : إن الله استولى على العرش بعد أن لم يكن مستوليا عليه بالمعنى الحرفي . وإن من الممكن أن لا تكون [ ثم ] في مقام الترتيب الزمني ويمكن أن تكون في مقام العطف فيكون معنى الجملة إن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وإنه استوى على العرش .

ويبدو من الإمعان في ما نقلناه عن البغوي وابن كثير والطبرسي ورشيد رضا واتجاه جمال القاسمي : أنهم متساوقون فيما قالوه واستندوا إليه وأن ذلك هو مذهب السلف الصالح وأهل السنة والجماعة . وملخصه : أن من الواجب الإيمان بما جاء في القرآن والتفويض لعلم الله في ما أراده من التعبير مع تنزيهه عن الحدود والحلول والجسمانية والمشابهة . ونحن نرى في هذا الوجاهة والسداد . وننوه بخاصة بوجاهة ما ذكره رشيد رضا من أن أحدا من أصحاب رسول الله لم يشتبه في معنى استواء الرب تعالى على العرش على علمهم بتنزهه سبحانه عن صفات البشر وغيرهم من الخلق ، وأنهم كانوا يفهمون أن استواءه تعالى على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السماوات والأرض له وانفراده هو بتدبيره . وإذا كان من شيء يصح قوله بالإضافة إلى هو فهو وجوب ملاحظة كون العبارة القرآنية هنا وفي أي مكان آخر في القرآن قد جاءت في معرض التدليل على عظمة الله وشمول قدرته وملكه ، وتقرير كونه الخالق المدبر المتصرف الوحيد فيه واستحقاقه بسبب ذلك وحده للعبادة والخضوع . وإن ما شغله هذا الموضوع من حيز ليس بسبب العبارة ، ولكن بسبب ما لمح من مساسها بالصفات الإلهية التي كانت من أسباب تعدد المذاهب الكلامية في الإسلام تأثرا بالفلسفة اليونانية التي أخذت تنتشر في القرن الثاني وبعده وأساليبها ، وبما كان من انقسامات وخلافات سياسية على ما ألمعنا إليه في تعليقنا على موضوع القدر في سياق تفسير سورة [ ق ] وعلى ما يدل عليه عدم انشغال أصحاب رسول الله بهذه المسالة وأمثالها . والله تعالى أعلم .