في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَ يَطۡلُبُهُۥ حَثِيثٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۭ بِأَمۡرِهِۦٓۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (54)

54

( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر . تبارك الله رب العالمين ) . .

إن عقيدة التوحيد الإسلامية ، لا تدع مجالاً لأي تصور بشري عن ذات الله سبحانه ؛ ولا عن كيفيات أفعاله . . فالله سبحانه ليس كمثله شيء . . ومن ثم لا مجال للتصور البشري لينشىء صورة عن ذات الله . فكل التصورات البشرية إنما تنشأ في حدود المحيط الذي يستخلصه العقل البشري مما حوله من أشياء . فإذا كان الله - سبحانه - ليس كمثله شيء ، توقف التصور البشري إطلاقاً عن إنشاء صورة معينة لذاته تعالى . ومتى توقف عن إنشاء صورة معينة لذاته العلية فإنه يتوقف تبعاً لذلك عن تصور كيفيات أفعاله جميعاً . ولم يبق أمامه إلا مجال تدبر آثار هذه الأفعال في الوجود من حوله . . وهذا هو مجاله . .

ومن ثم تصبح أسئلة كهذه : كيف خلق الله السماوات والأرض ؟ كيف استوى على العرش ؟ كيف هذا العرش الذي استوى عليه الله سبحانه ؟ ! . . . تصبح هذه الأسئلة وأمثالها لغوا يخالف توجيهها قاعدة الاعتقاد الإسلامي . أما الإجابة عليها فهي اللغو الأشد الذي لا يزاوله من يدرك تلك القاعدة ابتداء ! ولقد خاضت الطوائف - مع الأسف - في هذه المسائل خوضاً شديداً في تاريخ الفكر الإسلامي ، بالعدوى الوافدة على هذا الفكر من الفلسفة الإغريقية !

فأما الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، فهي كذلك غيب لم يشهده أحد من البشر ولا من خلق الله جميعاً : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم . . وكل ما يقال عنها لا يستند إلى أصل مستيقن .

إنها قد تكون ست مراحل . وقد تكون ستة أطوار . وقد تكون ستة أيام من أيام الله التي لاتقاس بمقاييس زماننا الناشئ من قياس حركة الأجرام - إذ لم تكن قبل الخلق هذه الأجرام التي نقيس نحن بحركتها الزمان ! . . وقد تكون شيئاً آخر . . فلا يجزم أحد ماذا يعني هذا العدد على وجه التحديد . . وكل حمل لهذا النص ومثله على " تخمينات " البشرية التي لا تتجاوز مرتبة الفرض والظن - باسم " العلم ! " - هو محاولة تحكمية ، منشؤها الهزيمة الروحية أمام " العلم " الذي لا يتجاوز في هذا المجال درجة الظنون والفروض !

ونخلص نحن من هذه المباحث التي لا تضيف شيئاً إلى هدف النص ووجهته . لنرتاد مع النصوص الجميلة تلك الرحلة الموحية في أقطار الكون المنظور ، وفي أسراره المكنونة :

( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر . تبارك الله رب العالمين ) . .

إن الله الذي خلق هذا الكون المشهود في ضخامته وفخامته . والذي استعلى على هذا الكون يدبره بأمره ويصرفه بقدره . يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً . . في هذه الدوره الدائبة : دورة الليل يطلب النهار في هذا الفلك الدوار . والذي جعل الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . . إن الله الخالق المهيمن المصرف المدبر ، هو( ربكم ) . . هو الذي يستحق أن يكون رباً لكم . يربيكم بمنهجه ، ويجمعكم بنظامه ، ويشرع لكم بإذنه ، ويقضي بينكم بحكمه . . إنه هو صاحب الخلق والأمر . . وكما أنه لا خالق معه . فكذلك لا آمر معه . . هذه هي القضية التي يستهدفها هذا الاستعراض . . قضية الألوهية والربوبية والحاكمية ، وإفراد الله سبحانه بها . . وهي قضية العبودية من البشر في شريعة حياتهم . فهذا هو الموضوع الذي يواجهه سياق السورة ممثلاً في مسائل اللباس والطعام . كما كان سياق سورة الأنعام يواجهه كذلك في مسائل الأنعام والزروع والشعائر والنذور .

ولا ينسينا الهدف العظيم الذي يستهدفه السياق القرآني بهذا الاستعراض ، أن نقف لحظات أمام روعة المشاهد وحيويتها وحركتها وإيحاءاتها العجيبة . فهي من هذه الوجهة كفء للهدف العظيم الذي تتوخاه . .

إن دورة التصور والشعور مع دورة الليل والنهار في هذا الفلك الدوار ، والليل يطلب النهار حثيثاً ، ويريده مجتهداً ! لهي دورة لا يملك الوجدان ألا يتابعها ؛ وألا يدور معها ! وألا يرقب هذا السباق الجبار بين الليل والنهار ، بقلب مرتعش ونفس لاهث ! وكله حركة وتوفز ، وكله تطلع وانتظار !

إن جمال الحركة وحيويتها و " تشخيص " الليل والنهار في سمت الشخص الواعي ذي الإرادة والقصد . . إن هذا كله مستوى من جمال التصوير والتعبير لا يرقى إليه فنّ بشري على الإطلاق !

إن الألفة التي تقتل الكون ومشاهده في الحس ؛ وتطبع النظرة إليه بطابع البلادة والغفلة . . إن هذه الألفة لتتوارى ، ليحل محلها وقع المشهد الجديد الرائع الذي يطالع الفطرة كأنما لأول وهلة ! . . إن الليل والنهار في هذا التعبير ليسا مجرد ظاهرتين طبيعيتين مكرورتين . وإنما هما حيان ذوا حس وروح وقصد واتجاه . يعاطفان البشر ويشاركانهم حركة الحياة ؛ وحركة الصراع والمنافسة والسباق التي تطبع الحياة !

كذلك هذه الشمس والقمر والنجوم . . إنها كائنات حية ذات روح ! إنها تتلقى أمر الله وتنفذه ، وتخضع له وتسير وفقه . إنها مسخرة ، تتلقى وتستجيب ، وتمضي حيث أمرت كما يمضي الأحياء في طاعة الله !

ومن هنا يهتز الضمير البشري ؛ وينساق للإستجابة ، في موكب الأحياء المستجيبة . ومن هنا هذا السلطان للقرآن الذي ليس لكلام البشر . . إنه يخاطب فطرة الإنسان بهذا السلطان المستمد من قائله - سبحانه - الخبير بمداخل القلوب وأسرار الفطر . .