بعد هذا الاستطراد إلى المصير في الآخرة ، بمناسبة عرض مصائر الأقوام في الدنيا ، والمشابه بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وتصوير ما ينتظر المكذبين هنا أو هناك ، أو هنا ثم هناك . . يعود السياق بما يستفاد من القصص ومن المشاهد إلى الرسول [ ص ] والقلة المؤمنة معه في مكة - تسرية وتثبيتا ؛ وإلى المكذبين من قومه بيانا وتحذيرا . فليس هناك شك في أن القوم يعبدون ما كان آباؤهم يعبدون - شأنهم شأن أصحاب ذلك القصص وأصحاب تلك المصائر - ونصيبهم الذي يستحقونه سيوفونه . فإن كان قد أخر عنهم فقد أخر عذاب الاستئصال عن قوم موسى - بعد اختلافهم في دينهم - لأمر قد شاءه الله في إنظارهم . ولكن قوم موسى وقوم محمد على السواء سيوفون ما يستحقون ، بعد الأجل ، وفي الموعد المحدود . ولم يؤخر عنهم العذاب لأنهم على الحق . فهم على الباطل الذي كان عليه آباؤهم بكل تأكيد :
( فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء . ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل . وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص . ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه . ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم . وإنهم لفي شك منه مريب . وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم . . إنه بما يعملون خبير ) . .
لا يتسرب إلى نفسك شك في فساد عبادة هؤلاء . والخطاب للرسول [ ص ] والتحذير لقومه . وهذا الأسلوب أفعل في النفس أحيانا ، لأنه يوحي بأنها قضية موضوعية يبينها الله لرسوله ، وليست جدالا مع أحد ، ولا خطابا للمتلبسين بها ، إهمالا لهم وقلة انشغال بهم ! وعندئذ يكون لتلك الحقيقة الخالصة المجردة أثرها في اهتمامهم أكثر مما لو خوطبوا بها خطابا مباشرا . .
( فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء . ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ) . .
ومصيرهم إذن كمصيرهم . . العذاب . . ولكنه يلفه كذلك في التعبير تمشيا مع الأسلوب :
( وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ) . .
ومعروف نصيبهم هذا من نصيب القوم قبلهم . وقد رأينا منه نماذج ومشاهد !
وقد لا يصيبهم عذاب الاستئصال - في الدنيا - كما لم يصب قوم موسى :
يقول تعالى : { فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ } المشركون ، إنه باطل وجَهل وضلال ، فإنهم إنما يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل ، أي : ليس لهم مُستَنَد فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات ، وسيجزيهم الله على ذلك أتم الجزاء فيعذب كافرهم عذابًا لا يعذبه أحدا من العالمين ، وإن كان لهم حسنات فقد وفاهم الله إياها في الدنيا قبل الآخرة .
قال سفيان الثوري ، عن جابر الجُعْفي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ } قال : ما{[14934]} وعدوا فيه من خير أو شر .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لموفوهم من العذاب نصيبهم غير منقوص .
{ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مّمّا يَعْبُدُ هََؤُلآءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مّن قَبْلُ وَإِنّا لَمُوَفّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فلا تك في شك ، يا محمد ، مما يعبد هؤلاء المشركون من قومك من الاَلهة والأصنام أنه ضلال وباطل وأنه بالله شرك ، ما يعبد هؤلاء إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ، يقول : إلا كعبادة آبائهم من قبل عبادتهم لها . يخبر تعالى ذكره أنهم لم يعبدوا ما عبدوا من الأوثان إلا اتباعا منهم منهاج آبائهم ، واقتفاء منهم آثارهم في عبادتهموها ، لا عن أمر الله إياهم بذلك ، ولا بحجة تبينوها توجب عليهم عبادتها . ثم أخبر جلّ ثناؤه نبيه ما هو فاعل بهم لعبادتهم ذلك ، فقال جلّ ثناؤه : { وَإنّا لَمُوفّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غيرَ مَنْقُوصٍ } ، يعني : حظهم مما وعدتُهم أن أوفيَهموه من خير أو شر ، غير منقوص ، يقول : لا أنقصهم مما وعدتهم ، بل أتمم ذلك لهم على التمام والكمال . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَإنّا لَمُوفّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غيرَ مَنْقُوصٍ } ، قال : ما وُعدوا فيه من خير أو شرّ .
حدثنا أبو كريب ومحمد بن بشار ، قالا : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله ، إلا أن أبا كريب قال في حديثه : من خير وشرّ .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن جابر ، عن مجاهد عن ابن عباس : { وَإنّا لَمُوفّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غيرَ مَنْقُوصٍ } ، قال : ما قدّر لهم من الخير والشرّ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَإنّا لَمُوفّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غيرَ مَنْقُوصٍ } ، قال : ما يصيبهم خير أو شرّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَإنّا لَمُوفّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غيرَ مَنْقُوصٍ } ، قال : نصيبهم من العذاب .
تفريع على القصص الماضية فإنها تكسب سامعها يقيناً بباطل ما عليه عبدة الأصنام وبخيبة ما أملوه فيهم من الشّفاعة في الدنيا وإن سابق شقائهم في الدنيا بعذاب الاستئصال يُؤذن بسوء حالهم في الآخرة ، ففرع على ذلك نهي السامع أن يشك في سوء الشّرك وفساده .
والخطاب في نحو { فلا تك في مرية } يقصد به أيُّ سامع لا سامعٌ معيّن سواء كان ممّن يظنّ به أن يشكّ في ذلك أم لا إذ ليس المقصود معيّناً . e
ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ويكون { فلا تك } مقصوداً به مجرّد تحقيق الخبر فإنّه جرى مجرى المثل في ذلك في كلام العرب مثل كلمة : لا شكّ ، ولا محالة ، ولا أعرفنّك ، ونحوها .
ويجوز أن يكون تثبيتاً للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من قومه من التصلّب في الشرك ، أي لا تكن شاكّاً في أنّك لقيت من قومك من التكذيب مثل ما لقيه الرّسل من أممهم فإنّ هؤلاء ما يعبدون إلاّ عبادة كما يعبد آباؤهم من قبل متوارثينها عن أسلافهم من الأمم البائدة .
والمرية بكسر الميم : الشكّ . وقد جاء فعلها على وزن فَاعَل أو تَفاعل وافتعل . ولم يجىء على وزن مجرّد لأنّ أصل المراد المجادلة والمدافعة مستعاراً من مريْتُ الشاة إذا استخرجت لبنها . ومنه قولهم : لا يجارى ولا يُمارى . وفي القرآن { أفتمارونه على ما يرى } [ النجم : 12 ] . وقد تقدّم الامتراء عند قوله : { ثم أنتم تمترون } في أوّل [ الأنعام : 2 ] .
و { ما } في قوله : { ما يعبد } مصدريّة ، أي لا تك في شكّ من عبادة هؤلاء ، والإشارة بهؤلاء إلى مشركي قريش .
وقد تتبعتُ اصطلاح القرآن فوجدته عَنَاهُمْ باسم الإشارة هذا في نحو أحد عشر موضعاً وهو ممّا ألهمت إليه ونبّهتُ عليه عند قوله تعالى : { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } في سورة [ النساء : 41 ] .
ومعنى الشكّ في عبادتهم ليس إلاّ الشكّ في شأنها ، لأنّ عبادتهم معلومة للنبيء صلى الله عليه وسلم فلا وجه لنفي مريته فيها ، وإنّما المراد نفي الشك فيما قد يعتريه من الشكّ من أنهم هل يعذّبهم الله في الدنيا أو يتركهم إلى عقاب الآخرة .
وجملة { ما يعبدون إلاّ كما يعبد آباؤهم من قبل } مستأنفة ، تعليلاً لانتفاء الشكّ في عاقبة أمرهم في الدّنيا .
ووجه كونه علّة أنّه لمّا كان دينهم عين دين من كان قبلهم من آبائهم وقد بلغكم ما فعل الله بهم عقاباً على دينهم فأنتم توقنون بأنّ جزاءهم سيكون مماثلاً لجزاء أسلافهم ، لأنّ حكمة الله تقتضي المساواة في الجزاء على الأعمال المتماثلة .
والاستثناء بقوله : { إلاّ كما يعبد } استثناء من عموم المصادر . وكاف التشبيه نائبة عن مصدر محذوف .
التّقدير : إلاّ عبادة كما يعبد آباؤهم .
والآباء : أطلق على الأسلاف ، وهم عاد وثمود . وذلك أنّ العرب العدنانيين كانت أمّهم جرهمية ، وهي امرأة إسماعيل ، وجرهم من إخوة ثمود ، وثمود إخوة لعاد ، ولأنّ قريشاً كانت أمهم خزاعيّة وهي زوج قصيّ . وعبادة الأصنام في العرب أتاهم بها عمرو بن يحيى ، وهو جدّ خزاعة .
وعبّر عن عبادة الآباء بالمضارع للدّلالة على استمرارهم على تلك العبادة ، أي إلاّ كما اعتاد آباؤُهم عبادتهم . والقرينة على المضي قوله : { من قبلُ } ، فكأنّه قيل : إلاّ كما كان يعبد آباؤهم . والمضاف إليه { قَبْلُ } محذوف تقديره : من قبلهم ، تنصيصاً على أنّهم سلفهم في هذا الضّلال وعلى أنّهم اقتدوا بهم .
وجملة { وإنّا لموفّوهم نَصيبَهُمْ } عطف على جملة التّعليل ، والمعطوف هو المعلول ، وقد تسلّط عليه معنى كاف التّشبيه لذلك . فالمعنى : وإنّا لموفوهم نصيبَهم من العذاب كما وفّينا أسلافهم .
والتوفية : إكمال الشيء غير منقوص .
والنصيب : أصله الحظ . وقد استعمل ( موفوهم ) و ( نصيبَهم ) هنا استعمالاً تهكّمياً كأنّ لهم عطاء يسألونه فَوُفوه ، فوقع قوله { غيرَ منقوص } حالاً مؤكدة لتحقيق التّوفية زيادة في التهكم ، لأنّ من إكرام الموعود بالعطاء أن يؤكد له الوعد ، ويسمى ذلك بالبشارة .
والمراد نصيبهم من عذاب الآخرة ، فإنّ الله لم يستأصلهم كما استأصل الأمم السابقة ببركة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال : « لعلّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده » .