معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

قوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } . كان أهل الجاهلية ينكحون أزواج آبائهم ، قال الأشعث بن سوار : توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت : إني اتخذتك ولداً وأنت من صالحي قومك ، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره ، فأتته فأخبرته ، فأنزل الله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } .

قوله تعالى : { إلا ما قد سلف } . قيل : بعد ما سلف ، وقيل : معناه لكن ما سلف أي : ما مضى في الجاهلية فهو معفو عنه .

قوله تعالى : { إنه كان فاحشةً } . أي إنه فاحشة وكان فيه صلة ، والفاحشة أقبح المعاصي .

قوله تعالى : { ومقتاً } أي : يورث مقت الله ، والمقت : أشد البغض .

قوله تعالى : { وساء سبيلا } . وبئس ذلك طريقاً ، وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه مقيت . وكان منهم الأشعث بن قيس ، وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية . أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمرو السجزي ، أنا الإمام أبو سليمان الخطابي ، أنا أحمد بن هشام الحضرمي ، أنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، عن حفص بن غياث ، عن أشعث بن سوار ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب ، قال : مر بي خالي ومعه لواء فقلت : أين تذهب ؟ قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

وفي نهاية هذه الفقرة يحرم تحريما باتا - مع التفظيع والتبشيع - أن ينكح الأبناء ما نكح آباؤهم من النساء . وقد كان ذلك في الجاهلية حلالا . وكان سببا من أسباب عضل النساء أحيانا ، حتى يكبر الصبي فيتزوج امرأة أبيه ، أو إن كان كبيرا تزوجها بالوراثة كما يورث الشيء ! فجاء الإسلام يحرم هذا الأمر أشد التحريم :

( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) . .

ويبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات - وإن كنا نحن البشر لا نحيط بكل حكمة التشريع ، ولا يتوقف خضوعنا له ، وتسليمنا به ، ورضاؤنا إياه على إدراكنا أو عدم إدراكنا لهذه الحكمة ، فحسبنا أن الله قد شرعه ، لنستيقن أن وراءه حكمة ، وأن فيه المصلحة .

نقول : يبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات : الأول أن امرأة الأب في مكان الأم . والثاني : ألا يخلف الابن أباه ؛ فيصبح في خياله ندا له . وكثيرا ما يكره الزوج زوج امرأته الأول فطرة وطبعا ، فيكره أباه ويمقته ! والثالث : ألا تكون هناك شبهة الإرث لزوجة الأب . الأمر الذي كان سائدا في الجاهلية . وهو معنى كريه يهبط بإنسانية المرأة والرجل سواء . وهما من نفس واحد ، ومهانة أحدهما مهانة للآخر بلا مراء .

لهذه الاعتبارات الظاهرة - ولغيرها مما يكون لم يتبين لنا - جعل هذا العمل شنيعا غاية الشناعة . . جعله فاحشة . وجعله مقتا : أي بغضا وكراهية . وجعله سبيلا سيئا . . إلا ما كان قد سلف منه في الجاهلية ، قبل أن يرد في الإسلام تحريمه . فهو معفو عنه . متروك أمره لله سبحانه . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

وقوله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا ]{[6886]} } يُحَرم تعالى زوجات الآباء تكرمة لهم ، وإعظامًا واحترامًا أن توطأ من بعده ، حتى إنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها ، وهذا أمر مجمع عليه .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا قيس بن الربيع عن أشعث بن سَوَّار ، عن عدي بن ثابت ، عن رجل من الأنصار قال : لما توفي أبو قَيْس - يعني ابن الأسلت - وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنَه قيس امرأته ، فقالت : إنما أعُدُّكَّ ولدا وأنت من صالحي قومك ، ولكن آتي{[6887]} رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره . فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أبا قيس تُوفِّي . فقال : " خيرا " . ثم قالت : إن ابنه قيسًا خطبني وهو من صالحي قومه . وإنما كنت أعده ولدًا ، فما ترى ؟ فقال{[6888]} لها : " ارجعي إلى بيتك " . قال : فنزلت هذه الآية { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ]{[6889]} } الآية .

وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا ، حسين ، حدثنا حَجَّاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن عِكْرمة في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } [ الآية ]{[6890]} قال : نزلت في أبي قيس ابن الأسلت ، خُلِّفَ على أم عبيد{[6891]} الله بنت صخر{[6892]} وكانت تحت الأسلت أبيه ، وفي الأسود بن خَلَفَ ، وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العُزّى بن عُثمان بن عبد الدار ، وكانت عند أبيه خَلَف ، وفي فاخِتَة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد ، كانت عند أمية بن خَلَف ، فخُلِّف عليها صفوان ابن أمية{[6893]} .

وقد زعم السُّهيلي أن نكاح نساء الآباء كان معمولا به في الجاهلية ؛ ولهذا قال : { إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } كما قال { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } قال : وقد فعل ذلك كِنَانة بن خزيمة ، تزوج بامرأة أبيه ، فأولدها ابنه النضْر بن كنانة قال : وقد قال صلى الله عليه وسلم : " وُلِدتُ من نِكاحٍ لا من سِفَاحٍ " . قال : فدل على أنَّه كان سائغًا لهم ذلك ، فإن أراد أن ذلك كان عندهم يعدونه نكاحًا فيما بينهم ، فقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي{[6894]} حدثنا قُرَاد ، حدثنا ابن عيينة عن عمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يُحَرِّمون ما حرم الله ، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فأنزل الله : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ } وهكذا قال عطاء وقتادة . ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر ، والله أعلم . على كل تقدير فهو حرام في هذه الأمة ، مُبَشَّع غاية التبشع{[6895]} ولهذا قال : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا } ولهذا قال{[6896]} [ تعالى ]{[6897]} { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأنعام : 151 ] وقال { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } [ الإسراء : 32 ] فزاد هاهنا : { وَمَقْتًا } أي : بُغْضًا ، أي هو أمر كبير في نفسه ، ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته ، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله ؛ ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة ؛ لأنهن أمهات ، لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو كالأب [ للأمة ]{[6898]} بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع ، بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه .

وقال عَطاء بن أبي رَباح في قوله : { ومقتا } أي : يمقت الله عليه { وَسَاءَ سَبِيلا } أي : وبئس طريقا لمن سلكه من الناس ، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه ، فيقتل ، ويصير ماله فيئا لبيت المال . كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من طرق ، عن البراء بن عازب ، عن خاله أبي{[6899]} بردة - وفي رواية : ابن عمر - وفي رواية : عن عمه : أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله .

وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا أشعث ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب قال : مرَّ بي عمي الحارث بن عمرو ، ومعه لواء قد عقده له النبي{[6900]} صلى الله عليه وسلم فقلت له : أي عم ، أين بعثك النبي [ صلى الله عليه وسلم ]{[6901]} ؟ قال : بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه{[6902]} .

مسألة :

وقد أجمع{[6903]} العلماءُ على تحريم من وطئها الأبُ بتزويج أو ملك أو بشبهة أيضًا ، واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع ، أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية . فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضا بذلك . قد روى [ الحافظ ]{[6904]} ابن{[6905]} عساكر في ترجمة خُدَيْج الحِصْنِيّ{[6906]} مولى معاوية قال : اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة ، فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب . فجعل يهوي به إلى متاعها ويقول : هذا المتاع لو كان له متاع ! اذهب بها إلى يزيد بن معاوية . ثم قال : لا ادع لي ربيعة بن عمرو الجُرَشِي - وكان فقيها - فلما دخل عليه قال : إن هذه أتيت بها مجردة ، فرأيت منها ذاك وذاك ، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد . فقال : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، فإنها لا تصلح له . ثم قال : نعم ما رأيت . ثم قال : ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري ، فدعوته ، وكان آدم شديد الأدمة ، فقال : دونك هذه ، بَيض بها ولدك . قال : و[ قد ]{[6907]} كان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس عَلَى عَلِي [ بن أبي طالب ]{[6908]} رضي الله عنه .


[6886]:زيادة من جـ، ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[6887]:في أ: "أتيت".
[6888]:في جـ، ر، أ، "قال".
[6889]:زيادة من ج، ر، أ.
[6890]:زيادة من أ.
[6891]:في أ: "عبد".
[6892]:في جـ، ر، أ: "ضمرة".
[6893]:تفسير الطبري (8/133).
[6894]:في أ: "المحرمي".
[6895]:في ر: "التبشيع".
[6896]:في جـ، ر، أ: "وقد قال".
[6897]:زيادة من ر.
[6898]:زيادة من أ.
[6899]:في ر: "أبو" وهو خطأ.
[6900]:في ر: "رسول الله".
[6901]:زيادة من جـ، ر، أ.
[6902]:المسند (4/392).
[6903]:في أ: "اجتمع".
[6904]:زيادة من أ.
[6905]:في أ: "أبو".
[6906]:في جـ، أ: "الحمصي"، ولم أجد ترجمته فيما بين يدي من تاريخ دمشق لابن عساكر ولا في المختصر لابن منظور.
[6907]:زيادة من جـ، أ.
[6908]:زيادة من جـ، ر، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مّنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } .

قد ذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم كانوا يخلفون على حلائل آبائهم ، فجاء الإسلام وهم على ذلك ، فحرّم الله تبارك وتعالى عليهم المقام عليهن ، وعفا لهم عما كان سلف منهم في جاهليتهم وشركهم من فعل ذلك لم يؤاخذهم به إن هم اتقوا الله في إسلامهم وأطاعوه فيه . ذكر الأخبار التي رويت في ذلك :

حدثني محمد بن عبد الله المخرمي ، قال : حدثنا قراد ، قال : حدثنا ابن عيينة وعمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرّم إلا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين ، قال : فأنزل الله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } { وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } . . . الاَية ، قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرّم الله ، إلا أن الرجل كان يخلف على حليلة أبيه ، ويجمعون بين الأختين ، فمن ثم قال الله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } قال : نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد بنت ضمرة ، كانت تحت الأسلت أبيه ، وفي الأسود بن خلف ، وكان خلف على بنت أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار ، وكانت عند أبيه خلف ، وفي فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، وكانت عند أمية بن خلف ، فخلف عليها صفوان بن أمية ، وفي منظور بن رباب ، وكان خلف على مليكة ابنة خارجة ، وكانت عند أبيه رباب بن سيار .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء بن أبي رباح : الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها حتى يطلقها ، أتحلّ لابنه ؟ قال : هي مرسلة ، قال الله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } قال : قلت لعطاء : ما قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } ؟ قال : كان الأبناء ينكحون نساء آبائهم في الجاهلية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } . . . الاَية ، يقول : كل امرأة تزوّجها أبوك وابنك دخل أو لم يدخل فهي عليك حرام .

واختلف في معنى قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } فقال بعضهم : معناه : لكن ما قد سلف فدعوه ، وقالوا هو من الاستثناء المنقطع .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تنكحوا نكاح آبائكم ، بمعنى : ولا تنكحوا كنكاحهم كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا يجوز مثلها في الإسلام ، { إنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتا وَسَاءَ سَبِيلاً } يعني : أن نكاح آبائكم الذي كانوا ينكحونه في جاهليتهم كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً ، إلا ما قد سلف منكم في جاهليتكم من نكاح لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام ، فإنه معفوّ لكم عنه .

وقالوا : قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ أباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } كقول القائل للرجل : لا تفعل ما فعلت ، ولا تأكل ما أكلت بمعنى : ولا تأكل كما أكلت ، ولا تفعل كما فعلت .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز كان عقده بينهم ، إلا ما قد سلف منهم من وجوه الزنا عندهم ، فإن نكاحهنّ لكم حلال كان لأنهنّ لم يكنّ لهم حلائل ، وإنما ما كان من آبائكم منهنّ من ذلك فاحشة ومقتا وساء سبيلاً . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ أباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَف } . . . . الاَية ، قال : الزنا ، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً . فزاد ههنا المقت .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما قاله أهل التأويل في تأويله ، أن يكون معناه : ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم إلا ما قد سلف منكم ، فمضى في الجاهلية ، فإنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً ، فيكون قوله : { مِنَ النّساءِ } من صلة قوله : { وَلا تَنْكِحُوا } ويكون قوله : { ما نَكَحَ آباؤكُمْ } بمعنى المصدر ، ويكون قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } بمعنى الاستثناء المنقطع ، لأنه يحسن في موضعه : لكن ما قد سلف فمضى ، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً .

فإن قال قائل : وكيف يكون هذا القول موافقا قول من ذكرت قوله من أهل التأويل ، وقد علمت أن الذين ذكرت قولهم في ذلك ، إنما قالوا : أنزلت هذه الاَية في النهي عن نكاح حلائل الاَباء ، وأنت تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحهم ؟ قيل له : وإن قلنا إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنزيل ، إذ كانت ما في كلام العرب لغير بني آدم ، وإنه لو كان المقصود بذلك النهي عن حلائل الاَباء دون سائر ما كان من مناكح آبائهم حراما ، ابتدىء مثله في الإسلام ، بنهي الله جلّ ثناؤه عنه ، لقيل : ولا تنكحوا من نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب ، إذ كان «من » لبني آدم و«ما » لغيرهم ، ولا تقل : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ، فإنه يدخل في «ما » ما كان من مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحونها في جاهليتهم ، فحرم عليهم في الإسلام بهذه الاَية نكاح حلائل الاَباء ، وكل نكاح سواه ، نهى الله تعالى ذكره ابتداء مثله في الإسلام ، مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شركهم .

ومعنى قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } : إلا ما قد مضى ، { إنّهُ كان فاحِشَةً } يقول : إن نكاحكم الذي سلف منكم ، كنكاح آبائكم المحرّم عليكم ابتداء مثله في الإسلام بعد تحريمي ذلك عليكم فاحشة ، يقول : معصية { وَمَقْتا وَساءَ سَبِيلاً } : أي بئس طريقا ومنهجا ما كنتم تفعلون في جاهليتكم من المناكح التي كنتم تتناكحونها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

عطف على جملة { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } [ النساء : 19 ] ، والمناسبة أنّ من جملة أحوال إرثهم النساء كرها ، أن يكون ابن الميّت أولى بزوجة أبيه ، إذا لم تكن أمَّهُ ، فنهوا عن هذه الصورة نهياً خاصّاً مغلّظاً ، وتُخلّص منه إلى إحصاء المحرّمات .

و { ما نَكح } بمعنى الذي نكح مراد به الجنس ، فلذلك حسن وقع { ما } عوض ( مَن ) لأنّ ( مَن ) تكثير في الموصول المعلوم ، على أنّ البيان بقوله : { من النساء } سوّى بين ( ما ومن ) فرجحت ( مَا ) لخفّتها ، والبيان أيضاً يعيّن أن تكون ( ما ) موصولة . وعدل عن أن يقال : لا تنكحوا نساء آبائكم ليدلّ بلفظ نكح على أنّ عقد الأب على المرأة كاف في حرمة تزوّج ابنه إياها . وذكر { من النساء } بيان لكون ( ما ) موصولة .

والنهي يتعلّق بالمستقبل ، والفعل المضارع مع النهي مدلوله إيجاد الحدث في المستقبل ، وهذا المعنى يفيد النهي عن الاستمرار على نكاحهنّ إذا كان قد حصل قبل ورود النهي . والنكاح حقيقة في العقد شرعا بين الرجل والمرأة على المعاشرة والاستمتاع بالمعنى الصحيح شرعاً ، وتقدّم أنّه حقيقة في هذا المعنى دون الوطء عند تفسير قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } في سورة البقرة ( 230 ) ، فحرام على الرجل أن يتزوَّج امرأةً عقَد أبوه عليها عقد نكاح صحيح ، ولو لم يدخل بها ، وأمّا إطلاق النكاح على الوطء بعقد فقد حمل لفظَ النكاح عليه بعضُ العلماء ، وزعموا أنَّ قوله تعالى : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } أُطلِق فيه النكاح على الوطء لأنّها لا يُحلّها لمطلّقها ثلاثاً مجرّد العقد أي من غير حاجة إلى الاستعانة ببيان السنّة للمقصود من قوله : { تنكح } وقد بيّنت ردّ ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } .

وأما الوَطْءُ الحرام من زنى فكونه من معاني النكاح في لغة العرب دعوى واهية .

وقد اختلف الفقهاء فيمن زنى بامرأة هل تحرم على ابنه أو على أبيه . فالذي ذهب إليه مالك في « الموطأ » ، والشافعي : أنّ الزنى لا ينشر الحرمة ، وهذا الذي حكاه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في « الرسالة » ، ويُروى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس ، وهو قول الزهري ، وربيعة ، والليث . وقال أبو حنيفة ، وابن الماجشون من أصحاب مالك : الزنى ينشر الحرمة . قال ابن الماجشون : مات مالك على هذا . وهو قول الأوزاعي والثوري . وقال ابن الموّاز : هُو مكروه ، ووقع في المدوّنة ( يفارقها ) فحمله الأكثر على الوجوب . وتأوّله بعضهم على الكراهة . وهذه المسألة جرت فيها مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن أشار إليها الجصّاص في أحكامه ، والفخرُ في مفاتيح الغيب ، وهي طويلة .

و { ما قد سلف } هو ما سبق نزولَ هذه الآية أي إلاّ نكاحاً قد سلف فتعيّن أنّ هذا النكاح صار محرَّماً . ولذلك تعيّن أن يكون الاستثناء في قوله : { إلا ما قد سلف } مؤوَّلا إذ ما قد سلف كيف يستثنى من النهي عن فعله وهو قد حصل ، فتعيّن أنّ الاستثناء يرجع إلى ما يقتضيه النهي من الإثم ، أي لا إثم عليكم فيما قد سلف . ثم ينتقل النظر إلى أنّه هل يقرّر عليه فلا يفرّق بين الزوجين اللذين تزوّجا قبل نزول الآية ، وهذا لم يقل به إلاّ بعض المفسّرين فيما نقله الفخر ، ولم أقف على أثر يُثبت قضية معيّنة فرّق فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين رجل وزوج أبيه ممّا كان قبل نزول الآية ، ولا على تعيين قائل هذا القول ، ولعل الناس قد بادروا إلى فراق أزواج الآباء عند نزول هذه الآية .

وقد تزوّج قبل الإسلام كثير أزواجَ آبائهم : منهم عُمر بن أمية بن عبد شمس ، خلف على زوج أبيه أميّة كما تقدّم ، ومنهم صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، ومنهم منظور بن ريان بن سيار ، تزوّج امرأة أبيه مُلكية بنت خارجة ، ومنهم حصن بن أبي قيس ، تزوّج بعد أبي قيس زوجه ، ولم يُرْوَ أنّ أحداً من هؤلاء أسلم وقرّر على نكاح زوج أبيه .

وجوّزوا أن يكون الاستثناء من لازم النهي وهو العقوبة أي لا عقوبة على ما قد سلف . وعندي أنّ مثل هذا ظاهر للناس فلا يحتاج للاستثناء ، ومتى يظنّ أحد المؤاخذة عن أعمال كانت في الجاهلية قبل مجيء الدين ونزول النهي .

وقيل : هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه : أي إن كنتم فاعلين منه فانكحوا ما قد سلف من نساء الآباء البائدة ، كأنّه يوهم أنه يرخّص لهم بعضه ، فيجد السامع ما رخّص له متعذّراً فيتأكّد النهي كقول النابغة :

ولا عيب فيهم غيرَ أَنّ سيُوفَهم *** بهنّ فُلول من قِراع الكتائب

وقولهم ( حتّى يؤوب القارظان ) و ( حتّى يشيب الغراب ) وهذا وجه بعيد في آيات التشريع .

والظاهر أنّ قوله : { إلا ما قد سلف } قصد منه بيان صحّة ما سلف من ذلك في عهد الجاهلية ، وتعذّرَ تداركه الآن ، لموت الزوجين ، من حيث إنّه يترتّب عليه . ثبوت أنساب ، وحقوق مهور ومواريث ، وأيضاً بيان تصحيح أنساب الذين ولدوا من ذلك النكاح ، وأنّ المسلمين انتدبوا للإقلاع عن ذلك اختياراً منهم ، وقد تأوّل سائر المفسّرين قوله تعالى : { إلا ما قد سلف } بوجوه ترجع إلى التجوّز في معنى الاستثناء أو في معنى : { ما نكح } ، حَمَلَهم عليها أنّ نكاح زوج الأب لم يقرّره الإسلام بعد نزول الآية ، لأنّه قال : { إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً } أي ومثل هذا لا يقرّر لأنّه فاسد بالذات .

والمقت اسم سَمَّتْ به العرب نكاح زوج الأب فقالوا نكاح المقت أي البغض ، وسمّوا فاعل ذلك الضيزن ، وسمَّوْا الابنَ من ذلك النكاح مَقيتا .