غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

11

النوع الخامس من التكاليف المتعلقة بأمور النساء قوله : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } قال ابن عباس وجمهور المفسرين : كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا عن ذلك . وههنا مسألة خلافية قال أبو حنيفة : يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه ، وقال الشافعي : لا يحرم . حجة أبي حنيفة أن النكاح عبارة عن الوطء لقوله :{ حتى تنكح زوجاً غيره }[ البقرة :230 ] وبالاتفاق لا يحصل التحليل بمجرد العقد . ولقوله :{ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح }[ النساء : 6 ] أي الوطء لأن أهلية العقد حاصلة أبداً .

ولقوله :{ الزاني لا ينكح إلا زانية }[ النور :3 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم : " ناكح اليد ملعون " فيدخل في الآية المزنية لأنها منكوحة أي موطوأة . وعورض بالآيات الدالة على أن النكاح هو العقد كقوله :{ وانكحوا الأيامى منكم }[ النور :32 ]{ فانكحوا ما طاب لكم من النساء }[ النساء :3 ] وبقوله صلى الله عليه وسلم : " النكاح سنتي " ولا شك أن الوطء من حيث إنه وطء ليس سنة له . وبقوله : " ولدت من نكاح لا من سفاح " وبأن من حلف في أولاد الزنا إنهم ليسوا من أولاد النكاح لم يحنث . سلمنا أن الوطء سمي بالنكاح لكن العقد أيضاً مسمى به ، فلم كان حمل الآية على ما ذكره أولى من حملها على ما ذكرنا مع إجماع المفسرين على أن سبب نزول الآية هو العقد لا الوطء ؟ قالوا : حقيقة في الوطء مجاز في العقد لأنه في اللغة الضم ، وهذا المعنى حاصل في الوطء لا في العقد . وإنما أطلق النكاح على العقد إطلاقاً لاسم المسبب على السبب ، والحمل على الحقيقة أولى أو مشترك بينهما . ويجوز استعماله في مفهوميه معاً ، فتكون الآية نهياً عن الوطء وعن العقد معاً ، أو لا يجوز استعماله في المفهومين فيكون نهياً عن القدر المشترك بينهما وهو الضم . والنهي عن المشترك يكون نهياً عن القسمين ، فإن النهي عن التلوين يكون نهياً عن التسويد والتبييض لا محالة . وأجيب بأنه خلاف إجماع المفسرين ، وبأن استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه غير جائز ، وبأن معنى الضم لا يتصوّر في العقد . سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء ولكن ما في قوله : { ما نكح } لا نسلم أنها موصولة لأنها حقيقة في غير العقلاء وإنما هي مصدرية والتقدير : ولا تنكحوا نكاح آبائكم فإن أنكحتهم كانت بغير ولي وشهود وكانت مرفية ومهرية فنهوا عن مثل هذه الأنكحة . قال محمد بن جرير الطبري . سلمنا أن المراد لا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكنا لا نسلم أن " من " تفيد العموم وإذا لم تفد العموم لم تتناول محل النزاع . لكن لم قلتم إن النهي للتحريم لا للتنزيه ؟ سلمنا أن النهي للتحريم لكن لا نسلم أنه غير صحيح لأن النهي عندكم لا يدل على الفاسد كما في البيع الفاسد وفي صوم يوم النحر . وإذا كان منعقداً صحيحاً . ثم إنا نستدل على جواز نكاح مزنية الأب بقوله تعالى :{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن }[ البقرة :221 ] نهى عن نكاحهن إلى غاية نفي إيمانهن ، وهذا يقتضي جواز نكاحهن بعد تلك الغاية على الإطلاق مزنية كانت أو غيرها ، إلا ما أخرجه الدليل ، وهكذا سائر العمومات كقوله :{ وأحل لكم ما وراء ذلكم }[ النساء : 24 ] وكقوله صلى الله عليه وسلم " إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه " وقوله : " زوّجوا أبناءكم الأكفاء " وبقوله صلى الله عليه وسلم : " الحرام لا يحرّم الحلال " .

ودخول التخصيص فيه بما لو وقع قطرة من الخمر في إناء من الماء فتحرمه لا يمنع من الاستدلال به في غيره ، وقد ناظر الشافعي محمد بن الحسن في هذه المسألة فوقع ختم الكلام على قول الشافعي وطء حدت به ووطء رجمت به فكيف يشتبهان ؟ أما قوله تعالى : { إلا ما قد سلف } فللمفسرين فيه وجوه : أحسنها ما ذكره السيد صاحب حل العقد أنه على طريق المعنى . فإن النهي يدل على المؤاخذة بارتكاب المنهي عنه فكأنه قيل : انتم مؤاخذون بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف قبل نزول آية التحريم فإنه معفوّ عنه . وقال في الكشاف : هذا كما استثنى " غير أن سيوفهم " من قوله : " ولا عيب فيهم " يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فإنه لا يحل لكم غيره وذلك غير ممكن . والغرض المبالغة في تحريمه كقوله :

{ حتى يلج الجمل في سم الخياط }[ الأعراف :40 ] وقولهم : حتى يبيض القار . وقيل : استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل . والمعنى لكن ما قد سلف فإن الله قد تجاوز عنه . وقيل : " إلا " بمعنى " بعد " كقوله :

{ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى }[ الدخان : 56 ] أي بعد موتتهم الأولى . وقيل : إلا ما قد سلف فإنكم مقرّون عليه . قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنما فعل ذلك ليكون صرفهم عن هذه العادة على سبيل التدريج . وزيف بعضهم هذا القول وقال ما أقرّ أحداً على نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية . وروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة إلى رجل عرّس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله إنه أي إن هذا النكاح كان قبل النهي فاحشة ، أعلم الله تعالى أن هذا الفعل كان أبداً ممقوتاً عند العرب ، وهذا النكاح بعد النهي فاحشة في الإسلام لأنه كان في علم الله وحكمه موصوفاً بهذا الوصف ، والمقت عبارة عن بغض مقرون باستحقار . حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه ، وهو من الله تعالى في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار . قال بعضهم : مراتب القبح ثلاث : في العقول وفي الشرع وفي العادة . فالفاحشة إشارة إلى القبح العقلي لأن زوجة الأب تشبه الأم ، والمقت إشارة إلى القبح الشرعي . { وساء سبيلاً } إشارة إلى القبح العادي وساء فعل ذم وفاعله ضمير مبهم يفسره المنصوب بعده والله تعالى أعلم .

/خ22