النوع الخامس من التكاليف المتعلقة بأمور النساء قوله : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } قال ابن عباس وجمهور المفسرين : كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا عن ذلك . وههنا مسألة خلافية قال أبو حنيفة : يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه ، وقال الشافعي : لا يحرم . حجة أبي حنيفة أن النكاح عبارة عن الوطء لقوله :{ حتى تنكح زوجاً غيره }[ البقرة :230 ] وبالاتفاق لا يحصل التحليل بمجرد العقد . ولقوله :{ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح }[ النساء : 6 ] أي الوطء لأن أهلية العقد حاصلة أبداً .
ولقوله :{ الزاني لا ينكح إلا زانية }[ النور :3 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم : " ناكح اليد ملعون " فيدخل في الآية المزنية لأنها منكوحة أي موطوأة . وعورض بالآيات الدالة على أن النكاح هو العقد كقوله :{ وانكحوا الأيامى منكم }[ النور :32 ]{ فانكحوا ما طاب لكم من النساء }[ النساء :3 ] وبقوله صلى الله عليه وسلم : " النكاح سنتي " ولا شك أن الوطء من حيث إنه وطء ليس سنة له . وبقوله : " ولدت من نكاح لا من سفاح " وبأن من حلف في أولاد الزنا إنهم ليسوا من أولاد النكاح لم يحنث . سلمنا أن الوطء سمي بالنكاح لكن العقد أيضاً مسمى به ، فلم كان حمل الآية على ما ذكره أولى من حملها على ما ذكرنا مع إجماع المفسرين على أن سبب نزول الآية هو العقد لا الوطء ؟ قالوا : حقيقة في الوطء مجاز في العقد لأنه في اللغة الضم ، وهذا المعنى حاصل في الوطء لا في العقد . وإنما أطلق النكاح على العقد إطلاقاً لاسم المسبب على السبب ، والحمل على الحقيقة أولى أو مشترك بينهما . ويجوز استعماله في مفهوميه معاً ، فتكون الآية نهياً عن الوطء وعن العقد معاً ، أو لا يجوز استعماله في المفهومين فيكون نهياً عن القدر المشترك بينهما وهو الضم . والنهي عن المشترك يكون نهياً عن القسمين ، فإن النهي عن التلوين يكون نهياً عن التسويد والتبييض لا محالة . وأجيب بأنه خلاف إجماع المفسرين ، وبأن استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه غير جائز ، وبأن معنى الضم لا يتصوّر في العقد . سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء ولكن ما في قوله : { ما نكح } لا نسلم أنها موصولة لأنها حقيقة في غير العقلاء وإنما هي مصدرية والتقدير : ولا تنكحوا نكاح آبائكم فإن أنكحتهم كانت بغير ولي وشهود وكانت مرفية ومهرية فنهوا عن مثل هذه الأنكحة . قال محمد بن جرير الطبري . سلمنا أن المراد لا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكنا لا نسلم أن " من " تفيد العموم وإذا لم تفد العموم لم تتناول محل النزاع . لكن لم قلتم إن النهي للتحريم لا للتنزيه ؟ سلمنا أن النهي للتحريم لكن لا نسلم أنه غير صحيح لأن النهي عندكم لا يدل على الفاسد كما في البيع الفاسد وفي صوم يوم النحر . وإذا كان منعقداً صحيحاً . ثم إنا نستدل على جواز نكاح مزنية الأب بقوله تعالى :{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن }[ البقرة :221 ] نهى عن نكاحهن إلى غاية نفي إيمانهن ، وهذا يقتضي جواز نكاحهن بعد تلك الغاية على الإطلاق مزنية كانت أو غيرها ، إلا ما أخرجه الدليل ، وهكذا سائر العمومات كقوله :{ وأحل لكم ما وراء ذلكم }[ النساء : 24 ] وكقوله صلى الله عليه وسلم " إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه " وقوله : " زوّجوا أبناءكم الأكفاء " وبقوله صلى الله عليه وسلم : " الحرام لا يحرّم الحلال " .
ودخول التخصيص فيه بما لو وقع قطرة من الخمر في إناء من الماء فتحرمه لا يمنع من الاستدلال به في غيره ، وقد ناظر الشافعي محمد بن الحسن في هذه المسألة فوقع ختم الكلام على قول الشافعي وطء حدت به ووطء رجمت به فكيف يشتبهان ؟ أما قوله تعالى : { إلا ما قد سلف } فللمفسرين فيه وجوه : أحسنها ما ذكره السيد صاحب حل العقد أنه على طريق المعنى . فإن النهي يدل على المؤاخذة بارتكاب المنهي عنه فكأنه قيل : انتم مؤاخذون بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف قبل نزول آية التحريم فإنه معفوّ عنه . وقال في الكشاف : هذا كما استثنى " غير أن سيوفهم " من قوله : " ولا عيب فيهم " يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فإنه لا يحل لكم غيره وذلك غير ممكن . والغرض المبالغة في تحريمه كقوله :
{ حتى يلج الجمل في سم الخياط }[ الأعراف :40 ] وقولهم : حتى يبيض القار . وقيل : استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل . والمعنى لكن ما قد سلف فإن الله قد تجاوز عنه . وقيل : " إلا " بمعنى " بعد " كقوله :
{ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى }[ الدخان : 56 ] أي بعد موتتهم الأولى . وقيل : إلا ما قد سلف فإنكم مقرّون عليه . قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنما فعل ذلك ليكون صرفهم عن هذه العادة على سبيل التدريج . وزيف بعضهم هذا القول وقال ما أقرّ أحداً على نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية . وروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة إلى رجل عرّس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله إنه أي إن هذا النكاح كان قبل النهي فاحشة ، أعلم الله تعالى أن هذا الفعل كان أبداً ممقوتاً عند العرب ، وهذا النكاح بعد النهي فاحشة في الإسلام لأنه كان في علم الله وحكمه موصوفاً بهذا الوصف ، والمقت عبارة عن بغض مقرون باستحقار . حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه ، وهو من الله تعالى في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار . قال بعضهم : مراتب القبح ثلاث : في العقول وفي الشرع وفي العادة . فالفاحشة إشارة إلى القبح العقلي لأن زوجة الأب تشبه الأم ، والمقت إشارة إلى القبح الشرعي . { وساء سبيلاً } إشارة إلى القبح العادي وساء فعل ذم وفاعله ضمير مبهم يفسره المنصوب بعده والله تعالى أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.