التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً22 }

تعليق الآية

( وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ )الخ

عبارة الآية واضحة . وهي في نهي المسلمين عن عادة بشعة جاهلية وتشنيعها وإبطالها .

وقد روى المفسرون{[517]} أنه كان من عادة العرب قبل الإسلام ، ومنهم من روى ذلك عن أهل المدينة خاصة إذا مات رجل منهم عن زوجة وله ابن بالغ من غيرها وألقى عليها ثوبا ، فإن ذلك يكون بمثابة إعلان رغبته فيها فيصبح أحق بها من نفسها إن شاء تزوجها وإن شاء زوجها لغيره وإن شاء أمسكها في بيته وإن شاء سرحها مقابل فدية تفدي بها نفسها من مال تدفعه أو حق تتنازل عنه له . وقد رووا هذا في سياق الآيات السابقة كما ذكرنا قبل . ورووا إلى هذا أن الآية نزلت في مناسبة مراجعة امرأة كانت زوجة لأبي قيس ابن الأسلت الأنصاري ، فلما مات خطبها ابنه فأتت رسول الله وأخبرته وقالت : إني أعد ابنه ابنا لي ، فما لبثت الآية أن نزلت بالنهي . كذلك مما رووه أن الآية نزلت في مناسبة حالات متعددة من هذا الباب ذكروا أسماء أصحابها من قريش ؛ حيث خلف صفوان بن أمية والأسود بن خلف على زوجتي أبويهما .

ويلحظ أولا : أن الآية منصبة على النهي عن نكاح زوجات الآباء وتشنيعه فقط .

وثانيا : أنه جاء بعدها فصل فيه بيان المحرم على المسلمين من الأنكحة والحلال لهم ؛ حيث يسوغ القول : إنها غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق موضوعا وظرفا ، وهذا لا يمنع أن يكون بعض الروايات أو جميعها وقعت ، أو مما كان يقع وإن امرأة شكت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية وما بعدها من ما فيه محرمات الأنكحة .

وأسلوب الآية قوي في التشنيع حاسم في النهي . والمتبادر أن استثناء ما قد سلف قد استهدف تسوية نتائجه الطبيعية كالذرية التي نتجت من هذا النكاح تسوية شرعية وحقوقية . وفي هذا من الحكمة والحق ما هو ظاهر .

ويستفاد من أقوال المفسرين{[518]} ورواياتهم عن أهل التأويل أن الاستثناء أي جملة ( إلا ما قد سلف ) هو من أجل الأولاد الذين ولدوا من هذه الحالة قبل تحريمها ليعتبروا أولادا شرعيين ؛ لأنهم من نكاح كان سائغا ، وليس للسماح باستمرار الزوجية بين زوجة الأب وابن الزوج . وهو حق سديد ولقد روى الترمذي حديثا عن فيروز الديلمي قال ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له : إني أسلمت وتحتي أختان . فقال : اختر أيتهما شئت وفي رواية طلق أيتهما شئت ) {[519]} وقد حرمت آية تأتي بعد هذا جمع الأختين إلا ما قد سلف ؛ حيث يدعم هذا ذلك القول .

ولقد قال المفسر ابن كثير في سياق تفسير الآية : إن من يتزوج زوجة أبيه بعد تحريم ذلك يكون مرتدا عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال . وأورد للتدليل على ذلك حديثا رواه أصحاب السنن والإمام أحمد عن البراء ابن عازب قال ( لقيت عمي ومعه راية فقلت : أين تريد ؟ قال : بعثني رسول الله إلى رجل نكح امرأة أبيه ، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله ) {[520]} حيث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع هذه العقوبة لمثل هذا الجرم الفظيع حينما اقترف في الإسلام رغم التحريم والتسفيه الشديدين اللذين احتوتهما الآية .

وهناك أقوال يوردها المفسرون ، ومنهم من يعزوها أو يعزو بعضها إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى الآية{[521]} من ذلك أن لفظ الآباء يشمل الجد بحيث يكون التحريم شاملا لنكاح ما نكحه الجد من قبل حفيده . ومنها أن زوجة الأب تحرم على الابن ، ولو لم يدخل بها إن كان طلقها أو مات عنها قبل الدخول . ومنها أن التحريم يشمل ما استفرشه الآباء من إمائهم وما باشروه مباشرة بدون جماع من إمائهم وزوجاتهم ، بل ومن يكونون خلوا بهن منهن أو رأوهن مجردات أي عاريات . ثم تخلوا عنهن بدون جماع ، وهذه أقوال وجيهة . وهناك اختلاف في ما جمعه الآباء سفاحا وما باشروه مباشرة وقبلوه بشهوة بدون جماع من نساء حرائر وإماء ولم يكن زوجاتهم وملك يمينهم . فبعض المؤولين والفقهاء أخذوا جملة ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ) على معنى الجماع بالزواج أو بالسفاح وألحق به المباشرة والتقبيل بشهوة . وقال : إن ذلك يحرم المرأة المزنى بها أو المباشرة أو المقبلة بشهوة على الأبناء . وعزا الخازن هذا القول إلى عمران بن الحصين وجابر بن زيد والحسن وفقهاء العراق . ورتب أصحاب هذا الرأي حرمة المصاهرة عليه بحيث تكون بنت الزنا محرمة على أخيها الشرعي وعلى والد أبيها . وبعضهم أخذوا الجملة على معنى عقد الزواج ، وقالوا بعدم حرمة من ليس زوجة بعقد يجب فيه الصداق على الزوج ، ويلحق به الولد وتجب فيه العدة على الزوجة ، وعزا الخازن هذا القول إلى على وابن عباس وسعيد ابن المسيب وعروة ابن الزبير والزهري ومالك والشافعي وفقهاء الحجاز ، ومعنى هذا أن زواج الابن من امرأة زنى بها الأب غير محرم فضلا عن ما باشره أو خلا بها ، أو قبله بشهوة من نساء حراما . وهذا الرأي مستفاد من الجزء الثاني من موطأ مالك .

وإذا لحظنا أن القرآن إنما استعمل كلمة ( النكاح ) ومشتقاتها في مقام الزواج وعقده دون استثناء مما مثاله ما جاء في آية البقرة ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) ( 221 ) وفي آية الأحزاب ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ) ( 49 ) ومما سوف يأتي أمثلة له في هذه السورة وما بعدها يكون القول الثاني هو الأوجه . وإن كان ضمير المرء يشعر أن القول الأول لا يخلو من وجاهة أيضا باستثناء اللمس والتقبيل بشهوة والمباشرة بدون جماع للمرأة غير الزوجة ؛ لأن هذه الأفعال لا يمكن أن تدخل في وصف النكاح ولو حمل على محمل الجماع . والمتبادر أن الإماء يلحقن بالحرائر في كلا القولين . والله تعالى أعلم .


[517]:انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.
[518]:انظر بخاصة تفسير ابن كثير والطبرسي والخازن لهذه الآيات
[519]:التاج ج 2 ص 324
[520]:التاج ج 3 ص 26
[521]:انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن مثلا.