الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

قوله تعالى : { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } : في " ما " هذه قولان أحدهما : أنها موصولة اسمية واقعة على أنواعِ مَنْ يَعْقِل ، كما تقدم ذلك في قوله

{ مَا طَابَ لَكُمْ } [ النساء : 3 ] ، وهذا عند مَنْ لا يجيز وقوعَها على آحاد العقلاء . فأمَّا مَنْ يُجيز ذلك فيقول : إنها واقعة موقعَ " مَنْ " ، ف " ما " مفعول به بقوله { وَلاَ تَنكِحُواْ } ، والتقدير : ولا تتزوجوا مَنْ تزوج آباؤكم . والثاني : أنها مصدرية ِأي : ولا تَنْكحوا مثلَ نكاح آبائكم الذي كان في الجاهلية وهو النكاح الفاسد كنكاح الشِّغار وغيرِه ، واختار هذا القولَ جماعة منهم ابن جرير الطبري قال : " ولو كان معناه : ولا تنكحوا النساء التي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضعُ " ما " " من " . انتهى . وتبيَّن كونُه حراماً أو فاسداً [ من ] قوله : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً } . قوله : { مِّنَ النِّسَآءِ } : تقدَّم نظيرُه أولَ السورة .

قوله : { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } في هذا الاستثناء قولان ، أحدهما : أنه منقطعٌ ، إذ الماضي لا يُجامع الاستقبال ، / والمعنى : أنه لَمَّا حَرَّم عليهم نكاحَ ما نكح آباؤهم تطرَّق الوهمُ إلى ما مضى في الجاهلية ما حكمُه ؟ فقيل : إلا ما قد سَلَفَ أي : لكن ما سلف فلا إثمَ فيه . وقال ابن زيد في معنى ذلك أيضاً : " إن المراد بالنكاح العقدُ الصحيح " وحَمَل { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } على ما كا ن يتعاطاه بعضُهم من الزنا فقال : " إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا بالنساء فذلك جائزٌ لكم زواجُهم في الإِسلام ، وكأنه قيل : ولا تَعْقِدوا على مَنْ عَقَد عليه آباؤُكم إلا ما قد سلف مِنْ زِناهم ، فإنه يجوزُ لكم أن تتزوَّجُوهم فهو استثناءٌ منقطع أيضاً .

والثاني : أنه استثناءٌ متصل وفيه معنيان ، أحدهما : أن يُحْمل النِّكاحُ على الوطء ، والمعنى : أنه نهى أن يَطَأ الرجلُ امرأةً وَطِئها أبوه إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بالمرأة فإنه يجوز للابن تزويجها . نُقِل هذا المعنى عن ابن زيد أيضاً ، إلا أنه لا بد من التخصيص في شيئين : أحدُهما قولُه : { وَلاَ تَنكِحُواْ } أي ولا تَطَؤوا وَطْئاً مباحاً بالتزويج . والثاني : التخصيص في قوله : { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } بوطء الزنا ، وإلا فالوطء فيما قد سلف قد يكون وَطْئاً غيرَ زنا ، وقد يكون زنا ، فيصير التقدير : ولا تَطَؤوا ما وطِىء آباؤكم وطئاً مباحاً بالتزويج إلا مَنْ كان وَطْؤُها فيما مضى وطءَ زنا . ويجوز على هذا المعنى الذي ذهب إليه ابن زيد أن يُراد بالنكاحِ الأولِ العقدُ ، وبالثاني الوطءُ ، اي : ولا تتزوجوا مَنْ وَطِئها آباؤكم إلا من كان وطؤها وطءَ زنا .

والمعنى الثاني : " ولا تَنْكِحوا مثلَ نكاحِ آبائكم في الجاهلية إلا ما تقدَّم منكم مِنْ تلك العقودِ الفاسدةِ فمباحٌ لكم الإِقامةُ عليها في الإِسلام إذا كان مما يقِّرُ الإِسلامُ عليه " وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ " ما " مصدريةً وقد تقدَّم .

وقال الزمخشري : " فإنْ قلت : كيف استثنى " ما قد سلف " من " ما نكح آباؤكم " ؟ قلت : كما استثنى " غيرَ أنَّ سيوفهم " من قوله : " ولا عيبَ فيهم " يعني : إنْ أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يَحِلُّ لكم غيرُه ، وذلك غير ممكن ، والغَرضُ المبالغةُ في تحريمه وسَدُّ الطريق إلى إباحته ، كما تعلق بالمُحالِ في التأبيد في نحو قولهم : " حتى يَبْيَضَّ القارُّ " و " حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياط " . انتهى . أشار رحمه الله إلى بيت النابغة في قوله :

ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم *** بِهِنَّ فُلولٌ من قِراعِ الكتائبِ

يعني إنْ وُجِد فيهم عَيْبٌ فهو هذا ، وهذا لا يَعُدُّه أحدٌ عيباً فانتفى العيب عنهم بدليله . ولكن هل الاستثناءُ على هذا المعنى الذي أبداه الزمخشري من قبيلِ المنقطعِ أو المتصل ؟ والحقُّ أنه متصلٌ لأنَّ المعنى : ولا تَنْكِحوا ما نكح آباؤكم إلا اللائي مَضَيْنَ وفَنِين ، وهذا مُحالٌ ، وكونُه مُحالاً لا يُخْرِجُه عن الاتصال . وأمَّا البيتُ ففيه نظرٌ ، والظاهر أن الاستثناءَ فيه متصلٌ أيضاً ، لأنه جَعَلَ العيبَ شامِلاً لقولِه " غيرَ أنَّ سيوفَهم " بالمعنى الذي أراده . وللبحثِ فيه مجالٌ .

وتَلَخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ المرادَ بالنكاحِ في هذه الآية العقدُ الصحيحُ أو الفاسدُ أو الوطء ، أو : يُرادُ بالأول العقدُ وبالثاني الوَطْءُ ، وقد تقدَّم القولُ في البقرةِ : هل هو حقيقةٌ فيهما أو في أحدِهما ؟ واختلافُ الناسِ في ذلك .

وزعم بعضُهم أنَّ في الآيةِ تقديماً وتأخيراً والأصلُ : ولا تَنْكِحوا ما نكح آباؤكم من النساء ، إنه كان فاحشة ومَقْتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف . وهذا فاسدٌ من حيث الإِعراب ومن حيث المعنى : أمَّا الأولُ فلأنَّ ما في حَيِّز " إنَّ " لا يتقدَّم عليها ، وأيضاً فالمستثنى لا يتقدَّمُ على الجملة التي هو من متعلَّقاتها سواءً كان متصلاً أم منقطعاً ، وإنْ كان في هذا خلافٌ ضعيفٌ . وأما الثاني فلأنه أَخْبر أنه فاحشةٌ ومَقْت في الزمان الماضي بقوله " كان " فلا يَصِحُّ أن يُسْتثنى منه الماضي ، إذ يصير المعنى : هو فاحشةٌ في الزمانِ الماضي إلا ما وقع منه في الزمانِ الماضي فليس بفاحشة .

والمَقْتُ : بُغْضٌ مقرونٌ باستحقارٍ فهو أخصُّ منه . والضمير في قوله " إنه " عائدٌ على النكاح المفهوم من قولِه : { وَلاَ تَنكِحُواْ } ، ويجوز أن يعودَ على الزنى إذا أريد بقوله { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } الزنى و " كان " هنا لا تدل على الماضي فقط لأن معناها هنا معنى لم يَزَلْ ، وهذا المعنى هو الذي حَمَل المبردَ على قوله " إنها زائدة " .

ورُدَّ عليه بوجودِ الخبر والزائدةُ لا خبرَ لها ، وكأنه يعني بزيادتها ما ذكرته من كونها لا تَدُلُّ على الماضي فقط ، فَعَبَّر عن ذلك بالزيادة .

قوله : { وَسَآءَ سَبِيلاً } في " ساء " قولان ، أحدهما : أنها جارية مَجْرى " بئس " في الذم والعمل ، ففيها ضميرٌ مبهمٌ يُفَسِّره ما بعده وهو " سبيلاً " والمخصوصُ بالذم محذوف تقديره : " وساء سبيلاً سبيلُ هذا النكاحِ " كقوله : " بِئْسَ الشراب " أي : ذلك الماء . والثاني : أنها لا تَجْري مَجْرى " بِئْس " في العمل بل هي كسائر الأفعالِ ، فيكونُ فيها ضميرٌ يَعُود على ما عاد عليه الضميرُ في " إنه " ، و " سبيلاً " على كلا التقديرين تمييزٌ .

وفي هذه الجملة وجهان أحدهما : أنه لا محل لها بل هي مستأنفة ، ويكون الوقفُ على قوله : " ومقتاً " ثم يستأنف " وساء سبيلاً " أي : وساءَ هذا السبيل منْ نكاح مَنْ نكحهن من الآباء . والثاني : أن يكونَ معطوفاً على خبر " كان " ، على أَنْ يُجْعَلَ محكيّاً بقول مضمر ، ذلك القولُ هو المعطوفُ على الخبر ، والتقدير : ومَقُولاً فيه : ساء سبيلاً ، هكذا قَدَّره أبو البقاء . ولقائلٍ أن يقولَ : يجوز أَنْ يكونَ عطفاً على خبر " كان " مِنْ غيرِ إضمارِ قول ، لأنَّ هذه الجملةَ في قوة المفرد ، ألا ترى أنه يقعُ خبراً بنفسه تقول : " زيدٌ ساءَ رجلاً " و " كان زيدا ساء رجلاً " ، فغاية ما في الباب أنك أتيت بأخبار " كان " أحدُهما مفردَ والآخرُ جملة ، اللهم إلا أَنْ يُقالَ : إن هذه جملةٌ إنشائيةٌ ، والإِنشائية لا تقع خبراً ل " كان " ، فاحتاج إلى إضمار القول وفيه بحث .