قوله تعالى : { درجات منه ومغفرةً ورحمةً وكان الله غفوراً رحيماً } ، قال ابن محيريز في الآية : هي سبعون درجة ، ما بين كل درجتين عدو الفرس ، الجواد المضمر سبعين خريفاً . وقيل : الدرجات هي الإسلام ، والجهاد ، والهجرة ، والشهادة . فاز بها المجاهدون .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي ، أنا عبد الله بن مسلم أبو بكر الجورندي ، أنا يونس بن عبد الأعلى ، أنا ابن وهب ، حدثني أبو هانئ الخولاني ، عن أبي عبد الرحمن الجبلي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا سعيد ، من رضي بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ، وجبت له الجنة . قال فعجب لها أبو سعيد فقال : أعدها علي يا رسول الله ؟ فأعادها عليه ثم قال : وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، قال : وما هي يا رسول الله ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ثلاثا " .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي التياه ، أنا أبي ، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن صالح المطرز ، أنا محمد بن يحيى ، أنا شريح بن النعمان ، أنا فليح عن هلال بن علي عن عطاء ابن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من آمن بالله ورسوله ، وأقام الصلاة ، وصام رمضان ، كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة ، جاهد في سبيل الله ، أو جلس في أرضه التي ولد فيها . قالوا : يا رسول الله أفلا ننذر الناس بذلك ؟ قال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل من الدرجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة ) .
واعلم أن الجهاد في الجملة فرض ، غير أنه ينقسم إلى فرض العين ، وفرض الكفاية ، ففرض العين : أن يدخل الكفار دار قوم من المؤمنين ، فيجب على كل مكلف من الرجال ، ممن لا عذر له من أهل تلك البلدة الخروج إلى عدوهم ، حراً كان أو عبداً ، غنياً كان أو فقيراً ، دفعاً عن أنفسهم وعن جيرانهم ، وهو في حق من بعد منهم من المسلمين فرض على الكفاية ، فإن لم تقع الكفاية بمن نزل بهم يجب على من بعد منهم من المسلمين عونهم ، وإن وقعت الكفاية بالنازلين فلا فرض على الأبعدين إلا على طريق الاختيار ، ولا يدخل في هذا القسم العبيد والفقراء ، ومن هذا القبيل أن يكون الكفار قارين في بلادهم ، فعلى الإمام أن لا يخلي كل سنة عن غزوة يغزوها بنفسه أو بسراياه حتى لا يكون الجهاد معطلاً ، والاختيار للمطيق الاجتهاد مع وقوع الكفاية بغيره أن لا يقعد عن الجهاد ، ولكن لا يفترض ، لأن الله تعالى وعد المجاهدين والقاعدين الثواب في هذه الآية فقال : { وكلاً وعد الله الحسنى } ، فلو كان فرضاً على الكافة لاستحق القاعد العقاب لا الثواب .
وقد ثبت في الصحيحين{[8131]} عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن{[8132]} في الجنة مائة درجة ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " .
وقال الأعمش ، عن عمرو بن مُرّة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من بلغ بسهم فله أجره درجة " فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة ؟ فقال : " أما إنها ليست بعتبة أمك ، ما بين الدرجتين مائة عام " {[8133]} .
{ دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } . .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { دَرَجاتٍ مِنْهُ } : فضائل منه ومنازل من منازل الكرامة .
واختلف أهل التأويل في معنى الدرجات التي قال جلّ ثناؤه { دَرَجاتٍ مِنْهُ } . فقال بعضهم بما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَحَمَةً } كان يقال : الإسلام درجة ، والهجرة في الإسلام درجة ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتل في الجهاد درجة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت ابن زيد عن قول الله تعالى : { وَفَضّلَ اللّه المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيما دَرَجاتٍ مِنْه } الدرجات : هي السبع التي ذكرها في سورة براءة : { ما كانَ لأهلِ المدينةِ ومَنْ حَوْلهمْ مِنَ الأعراب أنْ يتَخلّفُوا عنْ رسُولِ اللّهِ ولا يَرْغبُوا بأنفُسهِمْ عنْ نَفسِهِ ذلك بَأَنهمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمأٌ ولا نَصبٌ } فقرأ حتى بلغ : { أحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } . قال هذه السبع الدرجات . قال : وكان أوّل شيء ، فكانت درجة الجهاد مجملة ، فكان الذي جاهد بماله له اسم في هذه ، فلما جاءت هذه الدرجات بالتفضيل أخرج منها ، فلم يكن له منها إلا النفقة . فقرأ : { لا يُصيبُهُمْ ظَمأٌ وَلا نَصَبٌ } وقال : ليس هذا لصاحب النفقة . ثم قرأ : { ولاَ يُنفِقُونَ نفقةً } قال : وهذه نفقة القاعد .
وقال آخرون : عُني بذلك درجات الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن الحسن الأزدي ، قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن هشام بن حسان ، عن جبلة بن سُحيم ، عن ابن محيريز في قوله : { فَضّلَ اللّه المُجاهِدينَ على القاعِدينَ } . . . إلى قوله : { دَرَجاتٍ } قال : الدرجات : سبعون درجة ، ما بين الدرجتين حُضْرُ الفرس الجواد المضمّر سبعين سنة .
وأولى التأويلات بتأويل قوله¹ { دَرَجاتٍ مِنْه } أن يكون معنيّا به درجات الجنة ، كما قال ابن محيريز¹ لأن قوله تعالى ذكره : { دَرَجاتٍ مِنْهُ } ترجمة وبيان عن قوله : { أجْرا عَظِيما } ، ومعلوم أن الأجر إنما هو الثواب والجزاء ، وإذا كان ذلك كذلك ، وكانت الدرجات والمغفرة والرحمة ترجمة عنه ، كان معلوما أن لا وجه لقول من وجه معنى قوله : { دَرَجاتٍ مِنْه } إلى الأعمال وزيادتها على أعمال القاعدين عن الجهاد كما قال قتادة وابن زيد . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان الصحيح من تأويل ذلك ما ذكرنا ، فبيّن أن معنى الكلام : وفضل الله المجاهدين في سبيل الله على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما وثوابا جزيلاً ، وهو درجات أعطاهموها في الاَخرة من درجات الجنة ، رفعهم بها على القاعدين بما أبلوا في ذات الله . { وَمغفرةً } يقول : وصفح لهم عن ذنوبهم ، فتفضل عليهم بترك عقوبتهم عليها . { ورحمةً } يقول : ورأفة بهم . { وكانع اللّهُ غَفُورا رَحِيما } يقول : ولم يزل الله غفورا لذنوب عباده المؤمنين ، فيصفح لهم عن العقوبة عليها { رَحِيما } بهم ، يتفضل عليهم بنعمه ، مع خلافهم أمره ونهيه وركوبهم معاصيه .
وقال ابن محيريز : «الدرجات » هي درجات في الجنة ، سبعون ، ما بين الدرجتين حضر{[4223]} الفرس الجواد المضمر سبعين سنة ، وقال بهذا القول الطبري ورجحه ، وقال ابن زيد : «الدرجات » في الآية هي السبع المذكورات في سورة براءة ، فهي قوله تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله }{[4224]} الآيات فذكر فيها الموطىء الغائظ للكفار ، والنيل من العدو ، والنفقة الصغيرة والكبيرة ، وقطع الأودية والمسافات .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : ودرجات الجهاد لو حصرت أكثر من هذه ، لكن يجمعها بذل النفس والاعتمال بالبدن والمال في أن تكون كلمة الله هي العليا ، ولا شك أن بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها تكون مراتب الجنة ودرجاتها ، فالأقوال كلها متقاربة ، وباقي الآية وعد كريم وتأنيس . ونصب { درجات } إما على البدل من الأجر ، وإما على إضمار فعل على أن تكون تأكيداً للأجر ، كما تقول : لك عليَّ ألف درهم عرفاً ، كأنك قلت أعرفها عرفاً .
انتصب درجات على البدل من قوله { أجراً عظيماً } ، أو على الحال باعتبار وصف درجات بأنّها { منه } أي من الله .
وجُمع { درجات } لإفادة تعظيم الدرجة لأنّ الجمع لما فيه من معنى الكثرة تستعار صيغته لمعنى القوّة ، ألا ترى أنّ علقمة لمّا أنشد الحارثَ بنَ جبلة ملِكَ غسان قولَه يستشفع لأخيه شَأس بن عبْدة :