فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{دَرَجَٰتٖ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا} (96)

التفاوت بين درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر ، ودرجات من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه ، وإن كان معلوماً ، لكن أراد سبحانه بهذا الإخبار تنشيط المجاهدين ليرغبوا ، وتبكيت القاعدين ليأنفوا . قوله : { غَيْرُ أُوْلِى الضرر } قرأ أهل الكوفة ، وأبو عمرو بالرفع على أنه وصف للقاعدين ، كما قال الأخفش ؛ لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم ، فصاروا كالنكرة ، فجاز وصفهم بغير . وقرأ أبو حيوة بكسر الراء على أنه وصف للمؤمنين . وقرأ أهل الحرمين بفتح الراء على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين ، أي : إلا أولى الضرر ، فإنهم يستوون مع المجاهدين . ويجوز أن يكون منتصباً على الحال من القاعدين ، أي : لا يستوي القاعدون الأصحاء في حال صحتهم ، وجازت الحال منهم ؛ لأن لفظهم لفظ المعرفة . قال العلماء : أهل الضرر هم أهل الأعذار ؛ لأنها أضرّت بهم حتى منعتهم عن الجهاد ، وظاهر النظم القرآني أن صاحب العذر يعطى مثل أجر المجاهد ، وقيل : يعطى أجره من غير تضعيف ، فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل المباشرة . قال القرطبي : والأوّل أصحّ إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك : «إن بالمدينة رجالاً ما قطعتم ، وادياً ، ولا سرتم مسيراً إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر » قال : وفي هذا المعنى ما ورد في الخبر : «إذا مرض العبد قال الله تعالى : اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ ، أو أقبضه إليّ » قوله : { فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً } هذا بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم الاستواء إجمالاً ، والمراد هنا : غير أولي الضرر حملاً للمطلق على المقيد ، وقال هنا : { دَرَجَةً } ، وقال فيما بعد : { درجات } فقال قوم : التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات ، إنما هو مبالغة وبيان تأكيد . وقال آخرون : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة ، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير أولى الضرر بدرجات ، قاله ابن جريج ، والسدّي ، وغيرهما . وقيل : إن معنى درجة علوّاً ، أي : أعلى ذكرهم ، ورفعهم بالثناء والمدح ، ودرجة منتصبة على التمييز ، أو المصدرية لوقوعها موقع المرة من التفضيل ، أي : فضل الله تفضيلة ، أو على نزع الخافض ، أو على الحالية من المجاهدين أي : ذوي درجة .

قوله : { وَكُلاًّ } مفعول لقوله : { وَعَدَ الله } قدّم عليه لإفادته القصر ، أي : كل واحد من المجاهدين والقاعدين ، وعده الله الحسنى ، أي : المثوبة ، وهي : الجنة . قوله : { أَجْراً } هو : منتصب على التمييز . وقيل : على المصدرية ، لأن فضل بمعنى آجر ، فالتقدير آجرهم أجراً . وقيل : مفعول ثان لفضل لتضمنه معنى الإعطاء . وقيل : منصوب بنزع الخافض . وقيل : على الحال من درجات مقدّم عليها ، وأما انتصاب درجات ومغفرة ورحمة : فهي بدل من أجراً .

وقيل : إن مغفرة ورحمة ناصبهما أفعال مقدّرة ، أي : غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة .

وقد أخرج البخاري ، وأحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه : «لا يستوي القاعدون من المؤمنين ، والمجاهدون في سبيل الله » فجاء ابن أم مكتوم ، وهو يمليها عليّ ، فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، وكان أعمى ، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفخذه على فخذي : { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } . وقد أخرج هذا المعنى عبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث البراء . وأخرجه أيضاً سعيد ابن منصور ، وأحمد ، وأبو داود ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، من حديث خارجة بن زيد ابن ثابت عن أبيه . وأخرج الترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : { لا يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر } عن بدر ، والخارجون إلى بدر . وأخرجه عنه أيضاً عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر . وأخرج عبد بن حميد ، والطبراني ، والبيهقي عنه قال : نزلت في قوم كانت تشغلهم أمراض ، وأوجاع ، فأنزل الله عذرهم من السماء . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، عن أنس بن مالك قال : نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم ، ولقد رأيته في بعض مشاهد المسلمين معه اللواء .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في قوله : { فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً } قال : على أهل الضرر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } قال : الجنة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج قال : كان يقال الإسلام درجة ، والهجرة درجة في الإسلام ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتل في الجهاد درجة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن محيريز في قوله : { درجات } قال : الدرجات سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة . وأخرج نحوه عبد الرزاق في المصنف ، عن أبي مجلز . وأخرج البخاري ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين ، كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله ، فسلوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة » .