محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{دَرَجَٰتٖ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا} (96)

( درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما96 ) .

( درجات منه ) بدل من ( أجرا ) بدل الكل . مبين لكمية التفضيل و ( منه ) متعلق بمحذوف وقع صفة ل ( درجات ) دالة على فخامتها وجلالة قدرها . قاله أبو السعود .

وقد ثبت في ( الصحيحين ) {[2157]} عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله . ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " .

وقال الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال{[2158]} : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رمى بسهم فله أجره درجة . فقال رجل : يا رسول الله ! وما الدرجة ؟ فقال : أما إنها ليست بعتبة أمك : ما بين الدرجتين مائة عام " ( ومغفرة ) أي : لذنوبهم ( ورحمة ) فوق الأجر ودرجاته ( وكان الله غفورا رحيما ) تذييل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة . وههنا فوائد :

الأولى : دلت الآية على أن الجهاد ليس بفرض عين . إذ لو كان فرضا من فروض الأعيان لم يكن للقاعد فضل ، ولكن تفاوت الفضل بينه وبين المجاهد ، وقال : ( وكلا وعد الله الحسنى ) .

الثانية : دلت أيضا على أن الجهاد أفضل من القرب التي يفعلها القاعد . لأنه فضله على القاعد مطلقا . ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " الجهاد سنام الدين " . وقد فرع العلماء على هذا أن رجلا لو وقف ماله على أحسن وجوه البر ، أو أوصى أن يصرف في أحسن وجوه البر ، فإنه يصرف في الجهاد . خلاف ما ذكره أبو علي أنه يصرف في طلب العلم . كذا في بعض التفاسير .

الثالثة : قال السيوطي في ( الاكليل ) : في الآية تفضيل المجاهدين على غيرهم . وأن المعذورين في درجة المجاهدين ، واستدل بقوله : ( بأموالهم ) على تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديون أو نحوه .

الرابعة : قال الرازي : لقائل أن يقول : انه تعالى قال : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ) . فقدم ذكر النفس على المال . وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله : ( والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم ) . قدم ذكر المال على النفس ، فما السبب ؟ وجوابه : أن النفس أشرف من المال . فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد . والبائع أخر ذكرها تنبيها على أن المضايقة فيها أشد . فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب .

الخامسة : قال أبو السعود : لعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة ، وتقييده تارة بدرجة وأخرى بدرجات ، مع اتحاد المفضل والمفضل عليه ، حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن النظام- اما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيدا لسلوك طريق الابهام ، ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير . كما في قوله تعالى : ( ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ) {[2159]} . كأنه قيل : فضل الله المجاهدين على القاعدين ، قيل : ( وكلا وعد الله الحسنى ) ، ثم أريد تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام ، بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة ، فقيل ما قيل . ولله در شأن التنزيل . واما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات ، على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة ، وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر ، كما ينبئ عند تقديم الأول وتأخير الثاني ، وتوسيط الوعد بالجنة بينهما ، كأنه قيل : وفضلهم عليهم . في الدنيا درجة واحدة وفي الآخرة درجات لا تحصى . وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود ، أعني الوعد بالجنة ، توضيحا لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول . والله سبحانه أعلم .


[2157]:الحديث ليس لأبي سعيد وانما هو لأبي هريرة. وهو من ضمن حديث طويل أخرجه البخاري في: 56 –كتاب الجهاد، 4 –باب درجات المجاهدين في سبيل الله، حديث 1335 وهذا نصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها". فقالوا: يا رسول الله! أفلا نبشر الناس؟ قال: "ان في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض. فاذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فانه أوسط الجنة واعلى الجنة، أراه فوقه عرش الرحمان. ومنه تتفجر أنهار الجنة".
[2158]:الحديث في سنن النسائي في: 25 –كتاب الجهاد، 26 –باب ثواب من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل. ولكن عن كعب بن مرة.
[2159]:|11/ هود/ 58|.