مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{دَرَجَٰتٖ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا} (96)

قوله تعالى { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما }

اعلم أن في كيفية النظم وجوها : الأول : ما ذكرناه أنه تعالى لما رغب في الجهاد أتبع ذلك بيان أحكام الجهاد . فالنوع الأول من أحكام الجهاد : تحذير المسلمين عن قتل المسلمين ، وبيان الحال في قتلهم على سبيل الخطأ كيف ، وعلى سبيل العمد كيف ، وعلى سبيل تأويل الخطأ كيف ، فلما ذكر ذلك الحكم أتبعه بحكم آخر وهو بيان فضل المجاهد على غيره وهو هذه الآية .

الوجه الثاني : لما عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم من قتل من تكلم بكلمة الشهادة ، فلعله يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد لئلا يقع بسببه في مثل هذا المحذور ، فلا جرم ذكر الله تعالى في عقيبه هذه الآية وبين فيها فضل المجاهد على غيره إزالة لهذه الشبهة .

الوجه الثالث : أنه تعالى لما عاتبهم على ما صدر منهم من قتل تكلم بالشهادة ذكر عقيبه فضيلة الجهاد ، كأنه قيل : من أتى بالجهاد فقد فاز بهذه الدرجة العظيمة عند الله تعالى ، فليحترز صاحبها من تلك الهفوة لئلا يخل منصبه العظيم في الدين بسبب هذه الهفوة ، والله أعلم وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قرئ { غير أولى الضرر } بالحركات الثلاث في { غير } فالرفع صفة لقوله : { القاعدون } والمعنى لا يستوي القاعدون المغايرون لأولي الضرر والمجاهدون ، ونظيره قوله : { أو التابعين غير أولى الإربة } وذكرنا جواز أن يكون { غير } صفة المعرفة في قوله : { غير المغضوب } قال الزجاج : ويجوز أن يكون { غير } رفعا على جهة الاستثناء ، والمعنى لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين ، أي الذين أقعدهم عن الجهاد الضرر ، والكلام في رفع المستثنى بعد النفي قد تقدم في قوله : { ما فعلوه إلا قليل منهم } و أما القراءة بالنصب ففيها وجهان : الأول : أن يكون استثناء القاعدين ، والمعنى لا يستوي القاعدون إلا أولي الضرر ، وهو اختيار الأخفش . الثاني : أن يكون نصبا على الحال ، والمعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم ، والمجاهدون ، كما تقول : جاءني زيد غير مريض ، أي جاءني زيد صحيحا ، وهذا قول الزجاج والفراء وكقوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد } وأما القراءة بالجر فعلى تقدير أن يجعل { غير } صفة للمؤمنين ، فهذا بيان الوجوه في هذه القراءات .

ثم هاهنا بحث آخر : وهو أن الأخفش قال : القراءة بالنصب على سبيل الاستثناء أولى لأن المقصود منه استثناء قوم لم يقدروا على الخروج . روي في التفسير أنه لما ذكر الله تعالى فضيلة المجاهدين على القاعدين جاء قوم من أولي الضرر فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : حالتنا كما ترى ، ونحن نشتهي الجهاد ، فهل لنا من طريق ؟ فنزل { غير أولي الضرر } فاستثناهم الله تعالى من جملة القاعدين . وقال آخرون : القراءة بالرفع أولى لأن الأصل في كلمة { غير } أن تكون صفة ، ثم أنها وإن كانت صفة فالمقصود والمطلوب من الاستثناء حاصل منها ، لأنها في كلتا الحالتين أخرجت أولي الضرر من تلك المفضولية ، وإذا كان هذا المقصود حاصلا على كلا التقديرين وكان الأصل في كلمة { غير } أن تكون صفة كانت القراءة بالرفع أولى .

المسألة الثانية : الضرر النقصان سواء كان بالعمى أو العرج أو المرض ، أو كان بسبب عدم الأهبة .

المسألة الثالثة : حاصل الآية : لا يستوي القاعدون المؤمنون الأصحاء والمجاهدون في سبيل الله ، واختلفوا في أن قوله : { غير أولى الضرر } هل يدل على أن المؤمنين القاعدين الأضراء يساوون المجاهدين أم لا ؟ قال بعضهم : أنه لا يدل لأنا إن حملنا لفظ { غير } على الصفة وقلنا التخصيص بالصفة لا يدل على نفي الحكم عما عداه لم يلزم ذلك ، وإن حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي ليس بإثبات لم يلزم أيضا ذلك ، أما إذا حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي إثبات لزم القول بالمساواة . واعلم أن هذه المساواة في حق الاضراء عند من يقول بها مشروطة بشرط آخر ذكره الله تعالى في سورة التوبة وهو قوله : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } إلى قوله : { إذا نصحوا لله ورسوله } .

واعلم أن القول بهذه المساواة غير مستبعد ، ويدل عليه النقل والعقل ، أما النقل فقوله عليه الصلاة والسلام عند انصرافه من بعض غزواته «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر » وقال عليه الصلاة والسلام : «إذا مرض العبد قال الله عز وجل اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ » وذكر بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى : { ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون } أن من صار هرما كتب الله تعالى له أجر ما كان يعمله قبل هرمه غير منقوص من ذلك شيئا . وذكروا في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام «نية المؤمن خير من عمله » أن ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبدا خير له من عمله الذي أدركه في مدة حياته ، وأما المعقول فهو أن المقصود من جميع الطاعات والعبادات استنارة القلب بنور معرفة الله تعالى ، فإن حصل الاستواء فيه للمجاهد والقاعد فقد حصل الاستواء في الثواب ، وإن كان القاعد أكثر حظا من هذا الاستغراق كان هو أكثر ثوابا .

المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : إنه تعالى قال : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } فقدم ذكر النفس على المال ، وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله : { المجاهدين بأموالهم وأنفسهم } قدم ذكر المال على النفس ، فما السبب فيه ؟

وجوابه : أن النفس أشرف من المال ، فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد ، والبائع أخر ذكرها تنبيها على أن المضايقة فيها أشد ، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب .

واعلم أنه تعالى لما بين أن المجاهدين والقاعدين لا يستويان ثم ان عدم الاستواء يحتمل الزيادة ويحتمل النقصان ، لا جرم كشف تعالى عنه فقال : { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } وفي انتصاب قوله { درجة } وجوه : الأول : أنه يحذف الجار ، والتقدير بدرجة فلما حذف الجار وصل الفعل فعمل الثاني : قوله { درجة } أي فضيلة ، والتقدير : وفضل الله المجاهدين فضيلة كما يقال : زيد أكرم عمرا إكراما والفائدة في التنكير والتفخيم .

الثالث : قوله { درجة } نصب على التمييز .

ثم قال : { وكلا وعد الله الحسنى } أي وكلا من القاعدين والمجاهدين فقد وعده الله الحسنى وقال الفقهاء : وفيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية ، وليس على كل واحد بعينه لأنه تعالى وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين ، ولو كان الجهاد واجبا على التعيين لما كان القاعد أهلا لوعد الله تعالى إياه الحسنى .

ثم قال تعالى : { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في انتصاب قوله : { أجرا } وجهان :

الأول : انتصب بقوله : { وفضل } لأنه في معنى قولهم : آجرهم أجرا ، ثم قوله : { درجات منه ومغفرة ورحمة } بدل من قوله : { أجرا } .

الثاني : انتصب على التمييز و{ درجات } عطف بيان { ومغفرة ورحمة } معطوفان على { درجات } .

المسألة الثانية : لقائل أن يقول : إنه تعالى ذكر أولا { درجة } ، وهاهنا { درجات } ، وجوابه من وجوه : الأول : المراد بالدرجة ليس هو الدرجة الواحدة بالعدد ، بل بالجنس ، والواحد بالجنس يدخل تحته الكثير بالنوع ، وذلك هو الأجر العظيم ، والدرجات الرفيعة في الجنة المغفرة والرحمة . الثاني : أن المجاهد أفضل من القاعد الذي يكون من الأضراء بدرجة ، ومن القاعد الذي يكون من الأصحاء بدرجات ، وهذا الجواب إنما يتمشى إذا قلنا بأن قوله : { غير أولى الضرر } لا يوجب حصول المساواة بين المجاهدين وبين القاعدين الأضراء . الثالث : فضل الله المجاهدين في الدنيا بدرجة واحدة وهي الغنيمة ، وفي الآخرة بدرجات كثيرة في الجنة بالفضل والرحمة والمغفرة . الرابع : قال في أول الآية { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما } ولا يمكن أن يكون المراد من هذا المجاهد هو المجاهد بالمال والنفس فقط ، وإلا حصل التكرار ، فوجب أن يكون المراد منه من كان مجاهدا على الإطلاق في كل الأمور ، أعني في عمل الظاهر ، وهو الجهاد بالنفس والمال والقلب وهو أشرف أنواع المجاهدة ، كما قال عليه السلام : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر » وحاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير الله إلى الاستغراق في طاعة الله ، ولما كان هذا المقام أعلى مما قبله لا جرم جعل فضيلة الأول درجة ، وفضيلة هذا الثاني درجات .

المسألة الثالثة : قالت الشيعة : دلت هذه الآية على أن علي بن أبي طالب عليه السلام أفضل من أبي بكر ، وذلك لأن عليا كان أكثر جهادا ، فالقدر الذي فيه حصل التفاوت كان أبو بكر من القاعدين فيه ، وعلي من القائمين ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون علي أفضل منه لقوله تعالى : { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما } فيقال لهم : إن مباشرة علي عليه السلام لقتل الكفار كانت أكثر من مباشرة الرسول لذلك ، فليزمكم بحكم هذه الآية أن يكون علي أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا لا يقوله عاقل ، فإن قلتم إن مجاهدة الرسول مع الكفار كانت أعظم من مجاهدة علي معهم ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجاهد الكفار بتقرير الدلائل والبينات وإزالة الشبهات والضلالات ، وهذا الجهاد أكمل من ذلك الجهاد ، فنقول : فاقبلوا منا مثله في حق أبي بكر ، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه لما أسلم في أول الأمر سعى في إسلام سائر الناس حتى أسلم على يده عثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون ، وكان يبالغ في ترغيب الناس في الإيمان وفي الذب عن محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه وبماله ، وعلي في ذلك الوقت كان صبيا ما كان أحد يسلم بقوله ، وما كان قادرا على الذب عن محمد عليه الصلاة والسلام ، فكان جهاد أبي بكر أفضل من جهاد علي من وجهين : أحدهما : أن جهاد أبي بكبر كان في أول الأمر حين كان الإسلام في غاية الضعف ، وأما جهاد علي فإنما ظهر في المدينة في الغزوات ، وكان الإسلام في ذلك الوقت قويا . والثاني : أن جهاد أبي بكر كان بالدعوة إلى الدين ، وأكثر أفاضل العشرة إنما أسلموا على يده ، وهذا النوع من الجهاد هو حرفة النبي عليه الصلاة والسلام . وأما جهاد علي فإنما كان بالقتل ، ولا شك أن الأول أفضل .

المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : دلت الآية على أن نعيم الجنة لا ينال إلا بالعمل لأن التفاوت في العمل لما أوجب التفاوت في الثواب والفضيلة دل ذلك على أن علة الثواب هو العمل ، وأيضا لو لم يكن العمل موجبا للثواب لكان الثواب هبة لا أجرا ، لكنه تعالى سماه أجرا ، فبطل القول بذلك ، فيقال لهم : لم لا يجوز أن يقال : العمل علة الثواب لكن لا لذاته ، بل بجعل الشارع ذلك العمل موجبا له .

المسألة الخامسة : قالت الشافعية : دلت الآية على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح ، لأنا بينا أن الجهاد فرض على الكفاية بدليل قوله : { وكلا وعد الله الحسنى } ولو كان الجهاد من فروض الأعيان لما كان القاعد عن الجهاد موعودا من عند الله بالحسنى .

إذا ثبت هذا فنقول : إذا قامت طائفة بالجهاد سقط الفرض عن الباقين ، فلو أقدموا عليه كان ذلك من النوافل لا محالة ، ثم إن قوله : { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما } يتناول جميع المجاهدين سواء كان جهاده واجبا أو مندوبا ، والمشتغل بالنكاح قاعد عن الجهاد ، فثبت أن الاشتغال بالجهاد المندوب أفضل من الاشتغال بالنكاح ، والله أعلم .