اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{دَرَجَٰتٖ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا} (96)

قوله - تعالى - " درجات " فيه سِتَّة أوجه :

الأربعة المذكورة في " دَرَجَة " .

والخامس : أنه بدلٌ من " أجْراً " .

السادس ذكره ابن عَطِيَّة أنه منصوبٌ بإضْمَار فعلٍ ، على أن يكون تَأكِيداً للأجْرِ ، كما تقول : " لك عليَّ ألفُ دِرْهَمٍ عُرْفاً " كأنك قُلْت : أعْرِفُها عُرْفاً ، وفيه نظر ، و " مغفرة ورحمة " عطف على " دَرَجَاتٍ " ، ويجُوز فيهما النَّصْب بإضْمَار فِعْلِهِما [ تَعْظِيماً ] ، أي : وغَفَرَ لهم مَغْفِرَةً ، ورحِمَهُم رَحْمَةً .

فأن قيل : إنه - تعالى - لِمَ ذَكَرَ أولاً " دَرَجَة " وهَهُنَا " دَرَجَاتٍ " ؟

فالجواب من وُجوه :

أحدها : ليس المُرَاد بالدَّرجة الوَاحِدَةَ بالعَدَدِ ، بل الوَاحِد بالجِنْسِ ، فيدْخُل تحته الكَثير بالنَّوْعِ .

وثانيها : أن المُجَاهِد أفضَل [ بالضَّرُورة ]{[26]} من القَاعِد المَضْرُور [ بدرجَة ]{[27]} ومن القَاعِد الصَّحيح [ بدَرَجَات ]{[28]} وهذا على القَوْل بعدم المُسَاواةِ بين المُجَاهِدِين والأضِرّاء .

وثالثها : فضَّلَ المُجَاهِدِين في الدُّنْيَا بدرجَة وَاحِدة ، وهي الغَنِيمَة ، وفِي الآخِرة بدرجَات كَثيِرة في الجَنَّة .

ورابعها : أن المُرَاد ب " المُجَاهِدين " في الأولى : المُجَاهِدِين بأمْوَالِهِم وأنفُسِهِم ، وههنا المراد ب " المُجَاهِدِين " : من كان مُجَاهِدَاً على الإطْلاق في كُلِّ الأمُور ، وأعْنِي : في عمل الظَّاهِرِ ؛ كالجهاد بالنفس والمَالِ{[29]} والحج ، وعلى العباداتِ كُلِّها ، وفي أعْمَال القلُوب وهو أشرف أنْوَاعِ الجِهَاد ؛ لأنه صَرْف القَلْبِ{[30]} من الالْتِفَات إلى غَيْر الله إلى الاستغَراقِ في طَاعَةِ اللَّه .

فصل

ذكر المفَسِّرون معنى " الدرجات " .

قال ابن جبير{[31]} في هذه الآيَةِ هي سَبْعُونَ دَرَجَة ، ما بَيْن كل دَرَجَتَيْن{[32]} عَدْو الفَرَسِ الجَوادِ المضمر سَبْعين خريفاً{[33]} .

وقيل : الدَّرَجَاتِ هي الإسْلام والهِجْرَةِ والجِهَادِ والشَّهَادَة ، فاز بها المُجَاهدُِون .

فصل : في حكم الجهاد

والجهاد في الجُمْلَة فَرضٌ ، غير أنه يَنْقَسِم إلى فَرْضِ العَيْنِ وفَرْضِ الكِفَاية ، ففرض العَيْنِ أن يَدْخُلَ العَدُوُّ دارَ قوم من المُؤمِنِيِن ، فيجب على كُلِّ مكَلَّفِ من الرِّجَالِ ممن لا عُذْرَ له مِنْ أهْلِ تلك البَلْدَةِ الخُرُوج إلى عَدوِّهم ، حراً كان أو عَبْداً ، غنياً كان أو فَقِيراً ، دفعاً عن أنفسهم وعن جِيِرانِهم ، وهو في حَقِّ من بَعُد مِنْهُم من المُسْلِمِين فرضٌ على الكِفَاية ، فإن لم يَقَع الكِفَاية بمن نَزَل بِهِم ، يجب على من بَعُد منهم من المُسْلِمِين عَوْنُهم ، وإن وقعت الكِفَاية بالنَّازِِلين بهم ، فلا فرضَ على الأبْعَدين ، ولا يَدْخُل في هذا القِسْم العَبيد والفُقَراء ، فإذا كان الكُفَّار قَادِرِين في بِلادهم ، فعلى الإمَام ألا يُخَلَّي كلَّ سَنَة عن غَزْوة يغزوها بِنفْسِه أو بسَراياه ، حتى لا يكُون الجِهَاد مُعَطلاً .

فصل : رد شبهة الشيعة

قال الشِّيعة : عَلِيُّ كان مِن المُجَاهِدِين ، وأبو بكر من القَاعِدِين ، فيكون عَلِيٌّ أفْضَل ، للآية ، فيُقَالُ لهم : مباشَرَة علي للقِتَالِ أكثر مُبَاشَرَةً من النَّبِيِّ{[34]} صلى الله عليه وسلم ، فيكون أفْضَل منه ، وهذا لا يَقُولُه عَاقِلٌ ، فإن قالوا : جِهَاد النَّبِي صلى الله عليه وسلم لأنه في إظْهَارِ الدِّين بتَقْرير [ الأدلة ]{[35]} قُلْنَا : وكذلك أبُو بَكْر ، سعى في إظْهَارِ الدِّين في أوّل الإسْلام ، حتى أسْلَم على يَدِه جَمَاعَة ، وبالغ في الذَّبِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم بنفْسِه وماله ، وكان عَلِيُّ حينئذٍ صَبِيّاً لا يُسَلِّم أَحَدٌ بقوله ، وما كان قَادِراً على الدِّين ، وجهاد أبِي بكْر في أوَّل الإسْلام وضَعْفِه ، وجِهَاد عَلِيَّ كان وهو في الدِّين بعد ظُهُور الإسْلام وقُوَّتِه ، والأوّل أفضل ، وأيضاً : فجهَاد أبِي بكر كان بالدَّعْوةِ إلى الدِّين ، وأكثر أفاضل العَشْرة أسْلَمُوا على يَدِهِ ، وذلك حِرْفَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وجهاد عَلِيٍّ كان بالقَتْل{[36]} ، والأوّل أفضل .

فصل : رد شبهة المعتزلة

[ قالت المعتزلة ]{[37]} لما كان التَّفَاوُت في الثواب بحسب التَّفاوُت في العَمَل ، دَلَّ على أن عِلَّة الثَّوابِ هو العَمَل ، وأيضاً لو لم يكن العَمَل مُوجِباً للثَّوَاب ، لكان{[38]} الثَّوَاب هِبَةً لا أجراً ، والله - تعالى - سمَّاه أجراً .

فالجواب : أن العمل عِلَّةُ الثَّوَاب ، بجعل الشَّارع لا بِذَاتِه .

فصل : الاشتغال بالنوافل أفضل من النكاح

قال{[39]} الشَّافِعِيّة : دَلَّت الآية على أن الاشتغال بالنَّوافِل ، أفْضَل من الاشتغال بالنكاح ، لأن من أقَام بالجِهَادِ ، سقط الفَرْضُ عن البَاقِين ، فلو أُقيموا عليه كان من النَّوافِل ، والآية تَقْتَضِي تَفْضِيل جميع المُجَاهِدين{[40]} من مُفْتَرَضٍ و [ من ]{[41]} مُتنَفِّل على القَاعِدِين والمتنقل بالنِّكاح قاعِد عن الجِهَاد ، فثبت أن الاشْتِغَال بالمَنْدُوب إليه من الجِهَاد أفْضَل من الاشْتِغَال بالنِّكاح .


[26]:تقدمت.
[27]:سقط في أ.
[28]:سقط في أ.
[29]:ينظر: المشكل 1/123.
[30]:ينظر: الكتاب 3/324.
[31]:ينظر:الإملاء 1/ 122.
[32]:ينظر: الكشاف 1/335، والمحرر الوجيز 1/397، والبحر المحيط 2/ 389، الدر المصون 2/7. وأما رد الفارسي لكلام أبي إسحاق الزجاج وانتصاره للأخفش فلم أجده في "الحجة" في مظنته، بل إنه لم يحك مذهب كسر الميم.
[33]:ينظر معاني القرآن للزجاج 1/327. وفي ب الذي حكاه الأخفش من كسر الميم- خطأ لا يجوز، ولا تقوله العرب لثقله.
[34]:وهذا الطعن عندي ضعيف، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها، فإذا اجتمعا، عظم الثقل، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك: "الله" وهو في غاية الخفة، فيصير اللسان منتقلا من أثقل الحركات إلى أخف الحركات، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا: "الله" فكان النطق بها سهلا، فهذا وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم. ينظر الرازي 7/134.
[35]:(10) في أ: وبقوله.
[36]:سقط في أ.
[37]:روي ذلك عن مقاتل، وذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/389.
[38]:آية 61 من سورة آل عمران. والبهل: اللعن: وفي حديث ابن الصبغاء قال: الذي بهله بريق أي الذي لعنه ودعا عليه رجل اسمه بريق. وبهله الله بهلا: لعنه. وعليه بهلة الله وبهلته أي لعنته. وفي حديث أبي بكر: من ولي من أمور الناس شيئا فلم يعطهم كتاب الله فعليه بهلة الله أي لعنة الله، وتضم باؤها وتفتح. وباهل القوم بعضهم بعضا وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا. والمباهلة: الملاعنة. يقال: باهلت فلانا؟ أي لاعنته، ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. وفي حديث ابن عباس: من شاء باهلته أن الحق معي. ينظر: اللسان (بهل).
[39]:(نجران) بفتح النون وسكون الجيم: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، يشتمل على ثلاثة وسعين قرية مسيرة يوم للراكب السريع، كذا في زيادات يونس بن بكير بإسناد له في المغازي، وذكر ابن إسحاق أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهم حينئذ عشرون رجلا، لكن أعاد ذكرهم في الوفود بالمدينة فكأنهم قدموا مرتين. قال ابن سعد: كان النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم، فخرج إليه وفدهم في أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وعند ابن إسحاق أيضا من حديث كرز بن علقمة: أنهم كانوا أربعة وعشرين رجلا، وسرد أسماءهم. وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخل في الإسلام، حتى يلتزم أحكام الإسلام، وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته، وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة، وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي، ووقع ذلك لجماعة من العلماء، ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة، فلم يقم بعدها غير شهرين، وفيها مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال، ويجري ذلك مجرى الجزية عليهم؛ فإن كلا منهما مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام، وفيها بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام، وفيها منقبة ظاهرة لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى أهل نجران؛ ليأتيه بصدقتاهم وجزيتهم، وهذه القصة غير قصة أبي عبيدة؛ لأن أبا عبيدة توجه معهم، فقبض مال الصلح ورجع، وعلي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقبض منهم ما استحق عليهم من الجزية، ويأخذ ممن أسلم منهم ما وجب عليه من الصدقة والله أعلم. ينظر فتح الباري 8/428، 429.
[40]:والحبرة والحبرة: ضرب من برود اليمن منمر، والجمع حبر وحبرات. الليث: حبرة ضرب من البرود اليمانية. يقال برد حبير وبرد حبرة، مثل عنبة. على الوصف والإضافة وبرود حبرة. قال: وليس حبرة موضعا أو شيئا معلوما إنما هو وشيء كقولك ثوب قرمز. ينظر لسان العرب 2/749- 750. (حبر)، النهاية في غريب الحديث 1/328.
[41]:سقط في ب.