قوله تعالى : { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت } أي : وطأنا . قال ابن عباس : جعلنا . وقيل : بينا قال الزجاج : جعلنا مكان البيت مبوأ إبراهيم . وقال مقاتل بن حيان : هيأنا . وإنما ذكرنا مكان البيت لأن الكعبة رفعت إلى السماء زمان الطوفان ، ثم لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت لم يدر أين يبني فبعث الله ريحاً خجوجاً فكنست له ما حول البيت على الأساس . وقال الكلبي : بعث الله سحابةً بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري فبني عليه . قوله تعالى : { أن لا تشرك بي شيئاً } أي : عهدنا إلى إبراهيم وقلنا له : لا تشرك بي شيئاً ، { وطهر بيتي للطائفين } يعني : الذين يطوفون بالبيت ، { والقائمين } أي : المقيمين ، { والركع السجود } أي : المصلين .
ثم يرجع إلى نشأة هذا البيت الحرام ، الذي يستبد به المشركون ، يعبدون فيه الأصنام ، ويمنعون منه الموحدين بالله ، المتطهرين من الشرك . . يرجع إلى نشأته على يد إبراهيم - عليه السلام - بتوجيه ربه وإرشاده . ويرجع إلى القاعدة التي أقيم عليها وهي قاعدة التوحيد . وإلى الغرض من إقامته وهو عبادة الله الواحد ، وتخصيصه للطائفين به والقائمين لله فيه :
( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئا ، وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود . وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، ليشهدوا منافع لهم ، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير . ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق . . )
فللتوحيد أقيم هذا البيت منذ أول لحظة . عرف الله مكانه لإبراهيم - عليه السلام - وملكه أمره ليقيمه على هذا الأساس : ألا تشرك بي شيئا فهو بيت الله وحده دون سواه . وليطهره به من الحجيج ، والقائمين فيه للصلاة : ( وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود )فهؤلاء هم الذين أنشى ء البيت لهم ، لا لمن يشركون بالله ، ويتوجهون بالعبادة إلى سواه .
هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله ، وأشرك به من قريش ، في البقعة التي أسسّتْ من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، فذكر تعالى أنه بَوأ إبراهيم مكانَ البيت ، أي : أرشده إليه ، وسلمه له ، وأذن له في بنائه .
واستدل به كثير ممن قال : " إن إبراهيم ، عليه السلام ، هو أول من بنى البيت العتيق ، وأنه لم يبن قبله " ، كما ثبت في الصحيح{[20136]} عن أبي ذر قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وُضعَ أول ؟ قال : " المسجد الحرام " . قلت : ثم أي ؟ قال : " بيت المقدس " . قلت كم بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " {[20137]} .
وقد قال الله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيم } الآية [ آل عمران : 96 ، 97 ] ، وقال تعالى : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [ البقرة : 125 ] .
وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار ، بما أغنى عن إعادته هاهنا{[20138]} .
وقال تعالى هاهنا : { أَنْ لا تُشْرِكْ بِي } أي : ابْنه على اسمي وحدي ، { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } قال مجاهد وقتادة : من الشرك ، { لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي : اجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له .
فالطائف به معروف ، وهو أخص العبادات عند البيت ، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها ، { وَالْقَائِمِينَ } أي : في الصلاة ؛ ولهذا قال : { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فقرن الطواف بالصلاة ؛ لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت ، فالطواف عنده ، والصلاة إليه في غالب الأحوال ، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب ، وفي النافلة في السفر ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ بَوّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِيَ لِلطّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، مُعْلِمَه عظيم ما ركب من قومه قريش خاصة دون غيرهم من سائر خلقه بعبادتهم في حرمه ، والبيت الذي أمر إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم ببنائه وتطهيره من الاَفات والرّيَب والشرك : واذكر يا محمد كيف ابتدأنا هذا البيت الذي يعبد قومك فيه غيري ، إذ بوأنا لخليلنا إبراهيم ، يعني بقوله : «بوأنا » : وطّأنا له مكان البيت . كما :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور عن معمر ، عن قَتادة ، قوله : وَإذْ بَوّأْنْا لإِبْرَاهِيمَ مَكانَ البَيْتِ قال : وضع الله البيت مع آدم صلى الله عليه وسلم حين أهبط آدم إلى الأرض وكان مهبطه بأرض الهند ، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فكانت الملائكة تهابه فنقص إلى ستين ذراعا . وإن آدم لمّا فَقَد أصوات الملائكة وتسبيحهم ، شكا ذلك إلى الله ، فقال الله : يا آدم إني قد أهبطت لك بيتا يُطاف به كما يطاف حول عرشي ، ويُصلّى عنده كما يصلّى حول عرشي ، فانطَلِقْ إليه فخرج إليه ، ومدّ له في خطوه ، فكان بين كل خطوتين مفازة ، فلم تزل تلك المفاوز على ذلك حتى أتى آدم البيت ، فطاف به ومن بعده من الأنبياء .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين ، انطلق إبراهيم حتى أتى مكة ، فقام هو وإسماعيل ، وأخذا المعاول ، لا يدريان أين البيت ، فبعث الله ريحا يقال لها ريح الخَجُوج ، لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأوّل ، واتبعاها بالمعاول يحفران ، حتى وضعا الأساس فذلك حين يقول : وَإذْ بَوّأْنا لإِبْرَاهِيمَ مَكانَ البَيْتِ .
ويعني بالبيت : الكعبة ، أنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئا في عبادتك إياي ، وَطَهّرْ بَيْتِيَ الذي بنيته من عبادة الأوثان . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سفيان عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : وَطَهّرْ بَيْتِيَ قال : من الشرك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، قال : من الاَفات والرّيب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : طَهّرَا بَيْتِيَ قال : من الشرك وعبادة الأوثان .
وقوله : للطّائِفِينَ يعني للطائفين به . والقَائِمِينَ بمعنى المصلين الذين هم قيام في صلاتهم . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عطاء في قوله : وَطَهّرْ بَيْتِيَ للطّائِفِينَ والقائِمِينَ قال : القائمون في الصلاة .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة : والقَائِمِينَ قال : القائمون المصلون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : والقائمِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ قال : القائم والراكع والساجد هو المصلي ، والطائف هو الذي يطوف به . وقوله : وَالرّكّعِ السّجُودِ يقول : والركع السجود في صلاتهم حول البيت .
المعنى واذكر { إذ بوأنا } ، و «بوأ » هي تعدية باء بالتضعيف ، و «باء » معناه رجع فكأن المبوِّىء يرد المبوأ إلى المكان ، واستعملت اللفظة بمعنى سكن ، ومنه قوله تعالى : { نتبوأ من الجنة حيث نشاء }{[8348]} [ الرمز : 74 ] وقال الشاعر :
كم من أخ لي صالح . . . بوأته بيديَّ لحدا{[8349]}
واللام في قوله تعالى : { لإبراهيم } قالت فرقة هي زائدة ، وقالت فرقة { بوأنا } نازلة منزلة فعل يتعدى باللام كنحو جعلنا{[8350]} ع والأظهر أن يكون المفعول الأول ب { بوأنا } محذوفاً تقديره الناس أو العالمين ، ثم قال { لإبراهيم } بمعنى له كانت هذه الكرامة وعلى يديه بوؤا{[8351]} ، و { البيت } هو الكعبة ، وكان فيما روي قد جعله الله تعالى متعبداً لآدم عليه السلام ، ثم درس بالطوفان ، وغيره فلما جاءت مدة إبراهيم أمره الله تعالى ببنائه ، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثراً ، فبعث الله ريحاً فكشف له عن أساس آدم ، فرفع قواعده عليه . وقوله { أن لا تشرك } هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام ، في قول الجمهور حكيت لنا بمعنى قيل له لا تشرك ، وقرأ عكرمة «ألا يشرك » بالياء على نقل معنى القول الذي قيل له ، قال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى لأن لا يشرك ع يحتمل أن تكون «أن » في قراءة الجمهور مفسرة ، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة{[8352]} ، وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت ، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعد ، وأنتم لم تفوا بل أشركتم ، وقالت فرقة : الخطاب من قوله { أن لا تشرك } لمحمد صلى عليه وسلم وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج ع والجمهور على أن ذلك إبراهيم وهو الأصح . وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء وغير ذلك ، و «القائمون » ، هم المصلون ، وذكر تعالى من أركان الصلاة : أعظمها . وهي القيام والركوع والسجود .