قوله تعالى : { إذ أنتم } ، أي : إذ أنتم نزول يا معشر المسلمين .
قوله تعالى : { بالعدوة الدنيا } ، أي : بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة ، والدنيا تأنيث الأدنى .
قوله تعالى : { وهم } ، يعني عدوكم من المشركين .
قوله تعالى : { بالعدوة القصوى } بشفير الوادي الأقصى من المدينة ، والقصوى تأنيث الأقصى ، قرأ ابن كثير وأهل البصرة : بالعدوة بكسر العين فيهما ، والباقون بضمهما ، وهما لغتان : كالكسوة والكسوة ، والرشوة والرشوة .
قوله تعالى : { والركب } ، يعني : العير ، يريد أبا سفيان وأصحابه .
قوله تعالى : { أسفل منكم } ، أي : في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر ، على ثلاثة أميال من بدر .
قوله تعالى : { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } ، وذلك أن المسلمين خرجوا ليأخذوا العير ، وخرج الكفار ليمنعوها ، فالتقوا على غير ميعاد ، فقال تعالى : { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } لقلتكم ، وكثرة عدوكم .
قوله تعالى : { ولكن } الله جمعكم على غير ميعاد .
قوله تعالى : { ليقضي الله أمراً كان مفعولا } ، من نصر أوليائه ، وإعزاز دينه ، وإهلاك أعدائه .
قوله تعالى : { ليهلك من هلك عن بينة } أي ليموت من يموت على بينة رآها ، وعبرة عاينها ، وحجة قامت عليه .
قوله تعالى : { ويحيي من حي عن بينة } ، ويعيش من يعيش على بينة لوعده ، { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] . وقال محمد بن إسحاق : معناه ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك ، فالهلاك هو الكفر ، والحياة هي الإيمان ، وقال قتادة : ليضل من ضل عن بينة ، ويهتدي من اهتدى على بينة ، قرأ أهل الحجاز ، وأبو بكر ، ويعقوب ، حيي بيائين ، مثل خشي ، وقرأ الآخرون : بياء واحدة مشددة ، لأنه مكتوب بياء واحدة مشددة .
وهنا يعود السياق إلى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . يعود إلى المعركة ، فيعيد عرضها بأسلوب عجيب في استحضار مشاهدها ومواقفها ، كما لو كانت معروضة فعلاً ، ويكشف عن تدبير الله في إدارتها . حتى ليكاد الإنسان يرى يد الله - سبحانه - من وراء الأحداث والحركات كما يكشف عن غاية ذلك التدبير التي تحققت كما أرادها الله سبحانه :
إذ أنتم بالعدوة الدنيا ، وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم . ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً . ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة ، وإن الله لسميع عليم . إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ، ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ، ولكن الله سلم ، إنه عليم بذات الصدور . وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، وإلى الله ترجع الأمور .
إن المعركة شاخصة بمواقع الفريقين فيها ؛ وشاهدة بالتدبير الخفي من ورائها . . إن يد الله تكاد ترى ، وهي توقف هؤلاء وهؤلاء هناك والقافلة من بعيد ! والكلمات تكاد تشف عن تدبير الله في رؤيا الرسول [ ص ] وفي تقليل كل فريق في عين الفريق الآخر وفي إغراء كل منهما بالآخر . . وما يملك إلا الأسلوب القرآني الفريد ، عرض المشاهد وما وراء المشاهد بهذه الحيوية ، وبهذه الحركة المرئية ، وفي مثل هذه المساحة الصغيرة من التعبير !
وهذه المشاهد التي تستحضرها النصوص ، قد مر بنا في استعراض الوقعة من السيرة الإشارة إليها . . ذلك أن المسلمين حين خرجوا من المدينة نزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة ؛ ونزل جيش المشركين بقيادة أبي جهل بالضفة الأخرى البعيدة من المدينة ؛ وبين الفريقين ربوة تفصلهما . . أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف البحر أسفل من الجيشين .
ولم يكن كل من الجيشين يعلم بموقع صاحبه . وإنما جمعهما الله هكذا على جانبي الربوة لأمر يريده . حتى لو أن بينهما موعداً على اللقاء ما اجتمعا بمثل هذه الدقة والضبط من ناحية المكان والموعد ! وهذا ما يذكر الله به العصبة المسلمة ليذكرها بتدبيره وتقديره .
( إذ أنتم بالعدوة الدنيا ، وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم ، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىَ وَالرّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلََكِن لّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَىَ مَنْ حَيّ عَن بَيّنَةٍ وَإِنّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : أيقنوا أيها المؤمنون واعلموا أن قسم الغنيمة على ما بينه لكم ربكم إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على عبده يوم بدر ، إذ فرق بين الحقّ والباطل من نصر رسوله ، إذْ أنْتُمْ حينئذ بالعُدْوةِ الدّنْيا يقول : بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة ، وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصْوَى يقول : وعدوّكم من المشركين نزول بشفير الوادي الأقصى إلى مكة ، وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ يقول : والعير فيه أبو سفيان وأصحابه في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الدّنْيا قال : شفير الوادي الأدنى وهي بشفير الوادي الأقصى . وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ قال : أبو سفيان وأصحابه أسفل منهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الدّنْيا وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصْوَى وهما شفيرا الوادي ، كان نبيّ الله أعلى الوادي والمشركون بأسفله . وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ يعني أبا سفيان ، انحدر بالعير على حوزته حتى قدم بها مكة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الدّنْيا وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصَوَى من الوادي إلى مكة . وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ : أي عير أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها وخرجوا ليمنعوها عن غير ميعاد منكم ولا منهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ قال : أبو سفيان وأصحابه مقبلون من الشام تجارا ، لم يشعروا بأصحاب بدر ، ولم يشعر محمد صلى الله عليه وسلم بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد وأصحابه ، حتى التقيا على ماء بدر من يسقى لهم كلهم ، فاقتتلوا ، فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فأسروهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذكر منازل القوم والعير ، فقال : إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الدّنْيا وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصَوَى والركب : هو أبو سفيان وعيره ، أسفل منكم على شاطىء البحر .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدنيين والكوفيين : بالعُدْوَةِ بضم العين ، وقرأه بعض المكيين والبصريين : «بالعِدْوَةِ » بكسر العين . وهما لغتان مشهورتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، يُنْشَد بيت الراعي :
وَعَيْنانِ حُمْرٌ مَآقِيهِما ***كما نظَرَ العِدْوَةَ الجُؤْذَرُ
بكسر العين من العدوة ، وكذلك ينشد بيت أوس بن حجر :
وفارِسٍ لَوْ تَحُلّ الخَيْلُ عِدْوَتَه ***وَلّوْا سِرَاعا وَما هَمّوا بإقْبالِ
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْرا كانَ مَفْعُولاً .
يعني تعالى ذكره : ولو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه أنتم أيها المؤمنون وعدوّكم من المشركين عن ميعاد منكم ومنهم ، لاختلفتم في الميعاد لكثرة عدد عدوّكم وقلة عددكم ولكن الله جمعكم على غير ميعاد بينكم وبينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولاً . وذلك القضاء من الله كان نصره أولياءه من المؤمنين بالله ورسوله ، وهلاك أعدائه وأعدائهم ببدر بالقتل والأسر كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعادِ ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ما لقيتموهم . وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْرا كانَ مَفْعُولاً : أي ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، عن غير بلاء منكم ففعل ما أراد من ذلك بلطفه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أخبرني يونس بن شهاب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، أن عبد الله بن كعب ، قال : سمعت كعب بن مالك يقول في غزوة بدر : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قرَيش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن عمير بن إسحاق ، قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقت السقاة ، قال : ونهد الناس بعضهم لبعض .
القول في تأويل قوله تعالى : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ وَيحْيا مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإنّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ .
يقول تعالى ذكره : ولكن الله جمعهم هنالك ليقضي أمرا كان مفعولاً ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ . وهذه اللام في قوله : لِيَهْلِكَ مكررة على اللام في قوله : لِيَقْضِيَ كأنه قال : ولكن ليهلك من هلك عن بينة ، جَمَعَكُمْ .
ويعني بقوله : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ ليموت من مات من خلقه عن حجة لله قد أثبتت له ، وقطعت عذره ، وعبرة قد عاينها ورآها . وَيحْيا مَنْ حَيّ عَنْ بَينَةٍ يقول : وليعيش من عاش منهم عن حجة لله قد أثبتت له وظهرت لعينه ، فعلمها جمعنا بينكم وبين عدوكم هنالك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ لما رأى من الاَيات والعبر ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك .
وأما قوله : وَإنّ اللّهَ لَسَمِيِعٌ عَلِيمٌ فإن معناه : وإن الله أيها المؤمنون لسميع لقولكم وقول غيركم حين يرى الله نبيه في منامه ، ويريكم عدوكم في أعينكم قليلاً وهم كثير ، ويراكم عدوكم في أعينهم قليلاً ، عليم بما تضمره نفوسكم وتنطوي عليه قلوبكم ، حينئذ وفي كل حال . يقول جلّ ثناؤه لهم ولعباده : واتقوا ربكم أيها الناس في منطقكم أن تنطقوا بغير حقّ ، وفي قلوبكم أن تعتقدوا فيها غير الرشد ، فإن الله لا يخفى عليه خافية من ظاهر أو باطن .
{ إذ } بدل من { يوم التقى الجمعان } [ الأنفال : 41 ] فهو ظرف ب { لأنزلنا } [ الأنفال : 41 ] أي زمن أنتم بالعدوة الدنيا ، وقد أريد من هذا الظرف وما أضيف إليه تذكيرهم بحالة حرجة كان المسلمون فيها ، وتنبيههم للطف عظيم حفّهم من الله تعالى ، وهي حالة موقع جيش المسلمين من جيش المشركين ، وكيف التقى الجيشان في مكان واحد عن غير ميعاد ، ووجَد المسلمون أنفسهم أمام عدوّ قوي العِدّة والعُدّة والمَكانة من حسن الموقع . ولولا هذا المقصد من وصف هذه الهيئة لما كان من داع لهذا الإطناب إذ ليس من أغراض القرآن وصف المنازل إذا لم تكن فيه عبرة .
والعدوة بتثليث العين صفة الوادي وشاطئه ، والضمّ والكسر في العين أفصح وعليهما القراءات المشهورة ، فقرأه الجمهور بضمّ العين ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، و يعقوب بكسر العين .
والمراد بها شاطىء وادي بدر . وبدر اسم ماء . { والدنيا } هي القريبة أي العدوة التي من جهة المدينة ، فهي أقربُ لجيش المسلمين من العُدوة التي من جهة مكة . و { العدوة القصوى } هي التي ممّا يلي مكة ، وهي كثيب ، وهي قصوى بالنسبة لموقع بلد المسلمين .
والوصف ب { الدنيا } و { القصوى } يَشعُر المخاطبون بفائدته ، وهي أنّ المسلمين كانوا حريصين أن يسبقوا المشركين إلى العدوة القصوى ، لأنّها أصلب أرضاً فليس للوصف بالدنو والقصُو أثر في تفضيل إحدى العدوتين على الأخرى ، ولكنّه صادف أن كانت القصوى أسعدَ بنزول الجيش ، فلمّا سبق جيشُ المشركين إليها اغتمّ المسلمون ، فلمّا نزل المسلمون بالعدوة الدنيا أرسل الله المطر وكان الوادي دَهْساً فلبّد المطرُ الأرضَ ولم يعقهم عن المسير وأصاب الأرض التي بها قريش فعطّلهم عن الرحيل ، فلم يبلغوا بدراً إلاّ بعد أن وصل المسلمون وتخيروا أحسن موقع وسبقوا إلى الماء ، فاتّخذوا حوضاً يكفيهم وغوروا الماء ، فلمّا وصل المشركون إلى الماء وجدوه قد احتازه المسلمون ، فكان المسلمون يشربون ولا يجد المشركون ماء .
وضمير { وهم } عائد إلى ما في لفظ { الجمعان } من معنى : جمعكم وجمع المشركين ، فلمّا قال : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } لم يبق معاد لضمير { وهم } إلاّ الجمع الآخر وهو جمع المشركين .
و { الركب } هو ركب قريش الراجعون من الشام ، وهو العِير . { أَسْفَلَ } من الفريقين أي أخفض من منازلهما ، لأن العيِر كانوا سائِرين في طريق الساحل ، وقد تركوا ماءَ بدر عن يسارهم . ذلك أنّ أبا سفيان لمّا بلغه أنّ المسلمين خرجوا لتلقي عيره رجع بالعير عن الطريق التي تمرّ ببدر ، وسلك طريق الساحل لينجو بالعير ، فكان مسيره في السهول المنخفضة ، وكان رجال الركب أربعين رجلاً .
والمعنى : والركب بالجهة السفلى منكم ، وهي جهة البحر وضمير { منكم } خطاب للمسلمين المخاطبين بقوله : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } والمعنى أنّ جيش المسلمين كان بين جماعتين للمشركين ، وهما جيش أبي سفيان بالعدوة القصوى ، وعير القوم أسفل من العدوة الدنيا ، فلو علم العدوّ بهذا الوضع لطبّق جماعتيه على جيش المسلمين ، ولكن الله صرفهم عن التفطّن لذلك وصرف المسلمين عن ذلك ، وقد كانوا يطمعون أن يصادفوا العير فينتهبوها كما قال تعالى : { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } [ الأنفال : 7 ] ولو حاولوا ذلك لوقعوا بين جماعتين من العدوّ .
وانتصب { أسفل } على الظرفية المكانية وهو في محلّ رفع خبر عن ( الركب ) أي والركب قد فاتكم وكنتم تأملون أن تدركوه فتنتهبوا ما فيه من المتاع .
والغرض من التقييد بهذا الوقت ، وبتلك الحالة : إحضارها في ذكْرهم ، لأجل ما يلزم ذلك من شكر نعمة الله ، ومن حسن الظنّ بوعده والاعتماد عليه في أمورهم ، فإنّهم كانوا حينئذ في أشدّ ما يكون فيه جيش تجاه عدوّه ، لأنّهم يعلمون أنّ تلك الحالة كان ظاهرها ملائِماً للعدوّ ، إذ كان العدوّ في شوكة واكتمال عدّة ، وقد تمهدت له أسباب الغلبة بحسن موقع جيشه ، إذ كان بالعدوة التي فيها الماء لسقياهم والتي أرضها متوسّطة الصلابة ، فَأما جيش المسلمين فقد وجدوا أنفسهم أمام العدوّ في عدوة تسوخ في أرضها الأرجل من لين رمْلها ، مع قلّة مائِها ، وكانت العير قد فاتت المسلمين وحلّت وراء ظهور جيش المشركين ، فكانت في مأمن من أن ينالها المسلمون ، وكان المشركون واثقين بمكنة الذبّ عن عيرهم ، فكانت ظاهرةُ هذه الحالة ظاهرةَ خيبة وخوف للمسلمين ، وظاهرةَ فوز وقوة للمشركين ، فكان من عجيب عناية الله بالمسلمين أن قلب تلك الحالة رَأساً على عَقب ، فأنزل من السماء مطراً تعبّدت به الأرض لجيش المسلمين فساروا فيها غير مشفوق عليهم ، وتطهّروا وسَقَوا ، وصَارت به الأرض لجيش المشركين وحلاً يثقل فيها السيرَ وفاضت المياه عليهم ، وألقى الله في قلوبهم تهوين أمر المسلمين ، فلم يأخذوا حذرهم ولا أعدّوا للحرب عدّتها ، وجعلوا مقامهم هنالك مقام لهو وطرب ، فجعل الله ذلك سبباً لنصر المسلمين عليهم ، ورأوا كيف أنجز الله لهم ما وعدهم من النصر الذي لم يكونوا يتوقّعونه . فالذين خوطبوا بهذه الآية هم أعلم السامعين بفائدة التوقيت الذي في قوله : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } الآية . ولذلك تعيّن على المفسّر وصف الحالة التي تضمنّتها الآية ، ولولا ذلك لكان هذا التقييد بالوقت قليل الجدوى .
وجملة { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } في موضع الحال من { الجمعان } [ الأنفال : 41 ] وعامل الحال فعل { التقى } [ الأنفال : 41 ] أي في حال لقاء على غير ميعاد ، قد جاء ألزم ممّا لو كان على ميعاد ، فإنّ اللقاء الذي يكون موعوداً قد يتأخّر فيه أحد المتواعدَين عن وقته ، وهذا اللقاء قد جاء في إبان متّحد وفي مكان متجاور متقابل .
ومعنى الاختلاف في الميعاد : اختلاف وقته بأن يتأخّر أحد الفريقين عن الوقت المحدود فلم يأتوا على سواء .
والتلازم بين شرط { لو } وجوابها خفي هنا وقد أشكل على المفسّرين ، ومنهم من اضطرّ إلى تقدير كلام محذوف تقديره : ثم علمتم قلّتكم وكثرتكم ، وفيه أنّ ذلك يفضي إلى التخلّف عن الحضور لا إلى الاختلاف . ومنهم من قدر : وعلمتم قلّتكم وشعر المشركون بالخوف منكم لِما ألقى الله في قلوبهم من الرعب ، أي يجعل أحد الفريقين يتثاقل فلم تحضروا على ميعاد ، وهو يفضي إلى ما أفضى إليه القول الذي قبله ، ومنهم من جعل ذلك لما لا يخلو عنه الناس من عروض العوارض والقواطع ، وهذا أقرب ، ومع ذلك لا ينثلج له الصدر .
فالوجه في تفسير هذه الآية أنّ { لو } هذه من قبيل ( لو ) الصُهَيْبِية فإنَّ لها استعمالات ملاكها : أن لا يقصد من ( لو ) ربطُ انتفاء مضمون جوابها بانتفاء مضمون شرطها ، أي ربط حصول نقيض مضمون الجواب بحصول نقيض مضمون الشرط ، بل يقصد أنّ مضمون الجواب حاصل لا محالة ، سواء فرض حصول مضمون شرطها أو فرض انتفاؤه ، إمّا لأنّ مضمون الجواب أولى بالحصول عند انتفاء مضمون الشرط ، نحو قوله تعالى : { ولو سمعوا ما استجابوا لكم } [ فاطر : 14 ] ، وإمّا بقطع النظر عن أولَوية مضمون الجواب بالحصول عند انتفاء مضمون الشرط نحو قوله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] . ومحصّل هذا أنّ مَضمون الجزاء مستمرُّ الحصول في جميع الأحوال في فرض المتكلم ، فيأتي بجملة الشرط متضمنّةً الحالةَ التي هي عند السامع مظنةُ أن يحصلُ فيها نقيضُ مضمون الجواب . ومن هذا قول طفيل في الثناء على بني جعفر بن كِلاب :
أبَوْا أنْ يمَلُّونا ولَوْ أنَّ أمَّنا *** تلاَقِي الذي لاَقَوْه منا لَمَلَّتِ
وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا عند قوله تعالى : { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } في هذه السورة [ 23 ] ، وكنا أحلنا عليه وعلى ما في هذه الآية عند قوله تعالى : { ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة } الآية في سورة [ الأنعام : 111 ] .
والمعنى : لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، أي في وقت ما تواعدتم عليه ، لأن غالب أحوال المتواعِدَين أن لا يستوي وفاؤهما بما تواعدا عليه في وقت الوفاء به ، أي في وقت واحدٍ ، لأنّ التوقيت كان في تلك الأزمان تقريباً يقدّرونه بأجزاء النهار كالضحى والعَصر والغروب ، لا ينضبط بالدرج والدقائق الفلَكية ، والمعنى : فبالأحرى وأنتم لم تتواعدوا وقد أتيتم سواء في اتّحاد وقت حلولكم في العُدوتين فاعلموا أنّ ذلك تيسير بقدر الله لأنّه قدر ذلك لتعلموا أنّ نصركم من عنده على نحو قوله : { وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى } [ الأنفال : 17 ] .
وهذا غير ما يقال ، في تقارب حصول حاللٍ لأناس : « كأنهم كانوا على ميعاد » كما قال الأسود بن يَعفر يرثي هلاك أحلافه وأنصاره :
جَرَتِ الرياحُ على محلّ ديارهم *** فكأنهم كانوا على مِيعاد
فإنّ ذلك تشبيه للحصول المتعاقب .
وضمير { اختلفتم } على الوجوه كلّها شامل للفريقين : المخاطبِين والغائبِين ، على تغليب المخاطبين ، كما هو الشأن في الضمائر مثله .
وقد ظهر موقع الاستدراك في قوله : { ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا } إذ التقدير : ولكن لم تتواعدوا وجئتم على غيرِ اتّعاد ليقضي اللَّهَ أي ليحقّق ويُنجز ما أراده من نصركم على المشركين . ولمّا كان تعليل الاستدراك المفادِ بلكِنْ قد وقع بفعللٍ مسند إلى الله كان مفيداً أنّ مجيئهم إلى العُدوتين على غير تواعد كان بتقدير من الله عِنايةً بالمسلمين .
ومعنى { أمراً } هنا الشيء العظيم ، فتنكيره للتعظيم ، أو يجعل بمعنى الشأن وهم لا يطلقون ( الأمر ) بهذا المعنى إلاّ على شيءٍ مهمّ ، ولعلّ سبب ذلك أنه ما سمّي ( أمراً ) لا باعتبار أنّه ممّا يؤمر بفعله أو بعمله كقوله تعالى : { وكان أمراً مقضياً } [ مريم : 21 ] وقوله : { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } [ الأحزاب : 38 ] .
و { كان } تدلّ على تحقّق ثبوت معنى خبرها لاسمها من الماضي مثل { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } [ الروم : 47 ] أي ثبت له استحقاق الحَقية علينا من قديم الزمن . وكذلك قوله : { وكان أمراً مقضياً } [ مريم : 21 ] . فمعنى { كان مفعولا } أنّه ثبت له في علم الله أنّه يُفعل . فاشتق له صيغة مفعول من فَعَل للدلالة على أنّه حين قدرت مفعوليته فقد صار كأنّه فُعل ، فوصف لذلك باسم المفعول الذي شأنه أن يطلق على من اتّصف بتسلط الفعل في الحال لا في الاستقبال .
فحاصل المعنى : لينجز الله ويوقع حدثاً عظيماً متّصفاً منذ القدم بأنّه محقّق الوقوع عند إبّانه ، أي حقيقاً بأن يُفعل حتّى كأنّه قد فعل لأنّه لا يمنعه ما يحفّ به من الموانع المعتادة .
وجملة : { ليهلك من هلك عن بينة } في موضع بدل الاشتمال من جملة : { ليقضي الله أمراً كان مفعولا } لأنّ الأمر هو نصر المسلمين وقهر المشركين وذلك قد اشتمل على إهلاك المهزومين وإحياء المنصورين وحَفّه من الأحوال الدالّة على عناية الله بالمسلمين وإهانته المشركين ما فيه بيّنه للفريقين تقطع عذر الهالكين ، وتقتضي شكرَ الأحياء . ودخول لام التعليل على فعل { يهلك } تأكيد للام الداخلة على ل { يقضي } في الجملة المبدل منها . ولو لم تدخل اللام لقيل : يَهْلِكُ مرفوعاً .
والهلاك : الموت والاضمحلال ، ولذلك قوبل بالحياة . والهَلاك والحياة مستعاران لمعنى ذهاب الشوكة ، ولمعنى نهوض الأمة وقوتها ، لأنّ حقيقة الهلاك الموت ، وهو أشد الضرّ فلذلك يشبَّه بالهلاك كلّ ما كان ضُرّاً شديداً ، قال تعالى : { يهلكون أنفسهم } [ التوبة : 42 ] ، وبضدّه الحياة هي أنفع شيء في طبع الإنسان فلذلك يشبه بها ما كان مرغوباً ، قال تعالى : { لينذر من كان حياً } [ يس : 70 ] وقد جمع التشبيهين قوله تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] . فإن الكفار كانوا في عزّة ومنعة ، وكان المسلمون في قِلّة ، فلما قضى الله بالنصر للمسلمين يوم بدر أخفق أمر المشركين ووهنوا ، وصار أمر المسلمين إلى جدّة ونهوض ، وكان كلّ ذلك ، عن بينة ، أي عن حجّة ظاهرة تدلّ على تأييد الله قوماً وخذلِه آخرين بدون ريبٍ .
ومن البعيد حمل { يهلك } و { يحيى } على الحقيقة لأنّه وإن تحمَّله المعنى في قوله : { ليهلك من هلك } فلا يتحمّله في قوله : { ويحيى ممن حي } لأنّ حياة الأحياء ثابتة لهم من قبل يوم بدر .
ودلّ معنى المجاوزة الذي في { عن } على أنّ المعنى ، أن يكون الهلاك والحياة صادرين عن بيّنة وبارزين منها .
وقرأ نافع ، والبَزّي عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف « حَييَ » بإظهار الياءَيْن ، وقرأه البقية : « حَيَّ » بإدغام إحدى الياءين في الأخرى على قياس الإدغام وهما وجهان فصيحان .
و { عن } للمجاوزة المجازية ، وهي بمعنى ( بعد ) ، أي : بعد بيّنة يتبيّن بها سبب الأمرين : هلاك من هلك ، وحياة من حيي .
وقوله : { وإن الله لسميع عليم } تذييل يشير إلى أنّ الله سميع دعاء المسلمين طلب النصر ، وسميع ما جرى بينهم من الحوار في شأن الخروج إلى بدر ومن مودّتهم أن تكون غير ذات الشوكة هي إحدى الطائفتين التي يلاقونها ، وغير ذلك ، وعليم بما يجول في خواطرهم من غير الأمور المسموعة وبما يصلح بهم ويبني عليه مجد مستقبلهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر المؤمنين عن حالهم التي كانوا عليها، فقال: أرأيتهم معشر المؤمنين: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا}، يعنى من دون الوادي على شاطئ مما يلي المدينة، {وهم بالعدوة القصوى} من الجانب الآخر مما يلي مكة، يعنى مشركي مكة، فقال: {والركب أسفل منكم}، يعنى على ساحل البحر أصحاب العير أربعين راكبا أقبلوا من الشام إلى مكة فيهم: أبو سفيان، وعمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل {ولو تواعدتم} أنتم والمشركون، {لاختلفتم في الميعاد ولكن} الله جمع بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد، أنتم ومشركو مكة {ليقضى الله أمرا} في علمه، {كان مفعولا} يقول: أمرا لا بد كائنا؛ ليعز الإسلام وأهله، ويذل الشرك وأهله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أيقنوا أيها المؤمنون واعلموا أن قسم الغنيمة على ما بينه لكم ربكم إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على عبده يوم بدر، إذ فرق بين الحقّ والباطل من نصر رسوله، "إذْ أنْتُمْ "حينئذ "بالعُدْوةِ الدّنْيا" يقول: بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة، "وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصْوَى" يقول: وعدوّكم من المشركين نزول بشفير الوادي الأقصى إلى مكة، "وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ" يقول: والعير فيها أبو سفيان وأصحابه في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر.
"وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْرا كانَ مَفْعُولاً"
يعني تعالى ذكره: ولو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه أنتم أيها المؤمنون وعدوّكم من المشركين عن ميعاد منكم ومنهم، لاختلفتم في الميعاد لكثرة عدد عدوّكم وقلة عددكم ولكن الله جمعكم على غير ميعاد بينكم وبينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولاً، وذلك القضاء من الله كان نصره أولياءه من المؤمنين بالله ورسوله، وهلاك أعدائه وأعدائهم ببدر بالقتل والأسر... "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ وَيحْيا مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإنّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ"
يقول تعالى ذكره: ولكن الله جمعهم هنالك ليقضي أمرا كان مفعولاً، "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ". وهذه اللام في قوله: "لِيَهْلِكَ" مكررة على اللام في قوله: "لِيَقْضِيَ" كأنه قال: ولكن ليهلك من هلك عن بينة، جَمَعَكُمْ.
ويعني بقوله: "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ" ليموت من مات من خلقه عن حجة لله قد أثبتت له وقطعت عذره، وعبرة قد عاينها ورآها. "وَيحْيا مَنْ حَيّ عَنْ بَينَةٍ" يقول: وليعيش من عاش منهم عن حجة لله قد أثبتت له وظهرت لعينه فعلمها، جمَعنا بينكم وبين عدوكم هنالك.
وقال ابن إسحاق في ذلك...: "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ" لما رأى من الآيات والعبر، ويؤمن من آمن على مثل ذلك.
وأما قوله: "وَإنّ اللّهَ لَسَمِيِعٌ عَلِيمٌ" فإن معناه: وإن الله أيها المؤمنون لسميع لقولكم وقول غيركم حين يرى الله نبيه في منامه، ويريكم عدوكم في أعينكم قليلاً وهم كثير، ويراكم عدوكم في أعينهم قليلاً، عليم بما تضمره نفوسكم وتنطوي عليه قلوبكم، حينئذ وفي كل حال. يقول جلّ ثناؤه لهم ولعباده: واتقوا ربكم أيها الناس في منطقكم أن تنطقوا بغير حقّ، وفي قلوبكم أن تعتقدوا فيها غير الرشد، فإن الله لا يخفى عليه خافية من ظاهر أو باطن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) إما للخروج نفسه وإما للميعاد نفسه؛ أتخرجون، أو لا تخرجون؟ أو منكم من يؤخر الخروج عن وقت الميعاد، ومنكم من لا يخرج رأسا ليقضي ذلك.
وقوله تعالى: (وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً)... لينجز الله ما كان وعد من الظفر والنصر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يخبر -سبحانه- أنَّ ما جرى يَومَ بدرٍ من القتال، وما حَصَلَ من فنون الأحوال كان بحكم التقدير، لا بما يحصل من الخَلْق من التدبير، أو بحكم تقتضيه رَوِيَّةُ التفكير. بل لو كان ذلك على اختيار وتَوَاعُد، كنتم عن تلك الجملة على استكراه وتَبَاعدُ، فجرى على ما جرى ليقضِيَ الله أمراً كان مقضيًّا، وحصل من الأمور ما سَبَقَ به التقدير. قوله جلّ ذكره: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَي عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}. أي ليُضِلَّ منْ زاغ عن الحقِّ بعد لزومه الحجة، ويهتديَ مَنْ أقام على الحقِّ بعد وضوح الحُجَّة. ويقال الحقُّ أوْضَحَ السبيلَ ونَصَبَ الدليلَ، ولكن سَدَّ بصائرَ قومٍ عن شهود الرشد، وَفَتح بصائرَ آخرين لإدراك طرق الحق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين «وأن العير كانت أسفل منهم»؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته، وتكامل عدّته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم وأنّ غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله سبحانه، ودليلاً على أنّ ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوّته وباهر قدرته... وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر.
{لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} يعلم كيف يدبر أموركم ويسوي مصالحكم، أو لسميع عليم بكفر من كفر وعقابه، وبإيمان من آمن وثوابه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {ليهلك} أي ليكفر {ويحيى} أي ليؤمن. والمعنى أن الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن من آمن عن وضوح وبيان، ويكفر أيضاً من كفر عن مثل ذلك.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وفي حديث كعب بن مالك قال: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِيرَ قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ} أي: لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به {عَلِيمٌ} أي: بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر لهم يوم ملتقاهم، صور لهم حالتهم الموضحة للأمر المبينة لما كانوا فيه من اعترافهم بالعجز تذكيراً لهم بذلك ردعاً عن المنازعة ورداً إلى المطاوعة فقال مبدلاً من {يوم الفرقان} {إذ أنتم} نزول {بالعدوة الدنيا} أي القربى إلى المدينة {وهم} أي المشركون نزول {بالعدوة القصوى} أي البعدى منها القريبة إلى البحر،... والعدوة -بالكسر في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب، وبالضم في قراءة غيرهم: جانب الوادي وشطه، ومادتها- بأي ترتيب كان -تدور على الاضطراب ويلزمه المجاورة والسكون والإقبال والرجوع والاستباق والمحل القابل لذلك، فكأنها الموضع الذي علا عن محل فكان السيل موضعاً للعدو {والركب} أي العير الذي فيه المتجر الذي خرجتم لاقتطاعه ورئيس جماعته أبو سفيان، ونصب على الظرف قوله: {أسفل منكم} أي أيها الجمعان إلى جانب البحر على مدى من قرية تكادون تقعون عليه وتمدون أيديكم إليه مسافة ثلاثة أميال- كما قال البغوي، وهو كان قصدكم وسؤلكم، فلو كانت لكم قوة على طرقه لبادرتم إلى الطرف وغالبتم عليه الحتف، ولكن منعكم من إدراك مأمولكم منه من كان جاثماً بتلك العدوة جثوم الأسد واثقاً بما هو فيه من القوى والعدد كما قال صلى الله عليه وسلم لسلمة بن سلامة بن وقش رضي الله عنه -لما قال في تحقيرهم بعد قتلهم وتدميرهم: إن وجدنا إلا عجائز صلعاً، ما هو إلا أن لقيناهم فمنحونا أكتافهم- جواباً له "أولئك يا ابن أخي الملأ لو رأيتهم لهبتهم ولو أمروك لأطعتهم "مع استضعافكم لأنفسكم عن مقاومتهم لولا رسولنا يبشركم وجنودنا تثبتكم، وإلى مثل هذه المعاني أشار تصوير مكانهم ومكان الركب إيماء إلى ما كان فيه العدو من قوة الشوكة وتكامل العدة وتمهد أسباب الغلبة وضعف حال المسلمين وأن ظفرهم في مثل هذا الحال ليس إلا صنعاً من الله. {ولو تواعدتم} أي أنتم وهم على الموافاة إلى تلك المواضع في آن واحد {لاختلفتم في الميعاد} أي لأن العادة قاضية بذلك لأمرين: أحدهما بعد المسافة التي كنتم بها منها وتعذر توقيت سير كل فريق بسير صاحبه، والثاني كراهتكم للقائهم لما وقر في أنفسهم من قوتهم وضعفكم، وقد كان الذي كرّه إليكم لقاءهم قادر على أن يكره إليهم لقاءكم، فيقع الاختلاف من جهتهم كما كان في بدر الموعد، وأما في هذه الغزوة فدعاهم من حماية غيرهم داع لم يستطيعوا التخلف معه، وطمس الله بصائرهم وقسى قلوبهم مع قول أبي جهل الذي كان السبب الأعظم في اللقاء لمن عرض عليه المدد بالسلاح والرجال: إن كنا نقاتل الناس فما بنا ضعف عنهم، وإن كنا إنما نقاتل -كما يزعم محمد- الله، فما لأحد بالله من طاقة، وقوله أيضاً في هذه الغزوة للأخنس بن شريق: إن محمداً صادق وما كذب قط. فعل الله ذلك لما علم في ملاقاتهم لكم من إعلاء كلمته وإظهار دينه {ولكن} أي دبر ذلك سبحانه حتى توافيتم إلى موطن اللقاء كلكم في يوم واحد من غير ميعاد ولم تختلفوا في موافاة ذلك الموضع مع خروج ذلك عن العادة لكونه أتقن أسبابه، فأطمعكم في العير أولاً مع ما أنتم فيه من الحاجة ثم وعدكم إحدى الطائفتين مبهماً وأخرج قريشاً لحماية عيرهم إخراجاً لم يجدوا منه بداً، ولما نجت عيرهم أوردهم الرياء والسمعة والبطر بما هم فيه من الكثرة والقوة كما قال أبو جهل: لا نرجع حتى نرد بدراً فننحر بها الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم من حضرنا من العرب فلا يزالون يهابوننا مدى الزمان -{ليقضي الله} أي الذي له جميع الأمر من إعزاز دينه بإعزازكم وإذلالهم {أمراً كان} كما تكون الجبلات والطبائع في التمكن والتمام {مفعولاً} أي مقدراً في الأزل من لقائهم وما وقع فيه من قتلهم وأسرهم على ذلك الوجه العظيم فهو مفعول لا محالة ليتبين به أيمان من آمن باعتماده على الله وتصديقه بموعده وكفر من كفر.
ولما علل ذلك التدبير في اللقاء بقوله: {ليقضي الله} علل تلك العلة بقوله: {ليهلك} أي بعد رؤية ذلك القضاء الخارق للعادة {من هلك} أي من الفريقين: الكفار في حالة القتال وبعدها، والمسلمين هلاكاً متجاوزاً وناشئاً {عن} حالة {بينة} لما بان من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الوقعة في كل ما وعد به وكذب الكفار في كل ما كانوا يقولونه قاطعين به مع أن ظاهر الحال يقضي لهم، فكان ذلك من أعظم المعجزات {ويحيى من حيّ} أي بالإسلام حياة هي في أعلى الكمال بما تشير إليه قراءة نافع والبزي عن ابن كثير وأبي بكر عن عاصم بإظهار الياءين، أو في أدنى الكمال بما يشير إليه إدغام الباقين تخفيفاً حياة متجاوزة وناشئة {عن} حالة {بينة} أي كائنة بعد البيان في كون الكافرين على باطل والمؤمنين على حق لما سيأتي من أنهم كانوا يقولون
{غر هؤلاء دينهم} [الأنفال: 49] فحينئذ تبين المغرور وكشفت عجائب المقدور عن أعين القلوب المستور.
ولما كان التقدير: فإن الله في فعل ذلك لعزير حكيم، عطف عليه قوله: {وإن الله لسميع} أي لما كنتم تقولونه وغيره {عليم} بما كنتم تضمرونه وغيره فاستكينوا لعظمته وارجعوا عن منازعتكم لخشيته.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وقوله: {كان مفعولا} أي حقيقا بأن يفعل. وقيل: {كان} بمعنى {صار} أي صار مفعولا، بعد أن لم يكن. وقيل: إنه عبر به عنه لتحققه حتى كأنه مضى وقوله تعالى: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} أي إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد، لينصركم عليهم ويرفع حجة الحق على الباطل ليصير الأمر ظاهرا والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك، أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره، أنه مبطل لقيام الحجة عليه. ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة ويقين، بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه، والتمسك به، وذلك أن ما كان من وقعة (بدر) من الآيات الغر المحجلة، التي من كفر بعدها، كان مكابرا لنفسه مغالطا لها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} أي فعل ذلك ليترتب على قضاء هذا الأمر أن يهلك من هلك من الكفار عن حجة بينة مشاهدة بالبصر على حقية الإسلام، بإنجاز وعده تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، بحيث تنفي الشبهة، وتقطع لسان الاعتذار عند الله عن إجابة الدعوة، ويحيا من حي من المؤمنين عن بينة قطعية حسية كذلك فيزدادوا يقينا بالإيمان، ونشاطا في الأعمال...
{وإن الله لسميع عليم} لا يخفى عليه شيء من أقوال أهل الإيمان والكفر ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو يسمع ما يقول كل فريق من الأقوال الصادرة عن عقيدته، والأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره في أعماله، عليم بما يخفيه ويكنه من ذلك وغيره، فيجازي كلا بحسب ما يعلم وما يسمع منه.
وجملة القول: إن هذا الفرقان الذي رتبه الله على غزوة بدر قامت به حجة الله البالغة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم صلى الله عليه وسلم، وهي حجته البالغة على الكافرين بخذلانهم وانكسارهم كما أنذرهم صلى الله عليه وسلم، إذ لا مجال للمكابرة فيها ولا للتأويل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا يعود السياق إلى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. يعود إلى المعركة، فيعيد عرضها بأسلوب عجيب في استحضار مشاهدها ومواقفها، كما لو كانت معروضة فعلاً، ويكشف عن تدبير الله في إدارتها. حتى ليكاد الإنسان يرى يد الله -سبحانه- من وراء الأحداث والحركات كما يكشف عن غاية ذلك التدبير التي تحققت كما أرادها الله سبحانه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والغرض من التقييد بهذا الوقت، وبتلك الحالة: إحضارها في ذكْرهم، لأجل ما يلزم ذلك من شكر نعمة الله، ومن حسن الظنّ بوعده والاعتماد عليه في أمورهم، ومعنى {أمراً} هنا الشيء العظيم، فتنكيره للتعظيم المعنى: لينجز الله ويوقع حدثاً عظيماً متّصفاً منذ القدم بأنّه محقّق الوقوع عند إبّانه، أي حقيقاً بأن يُفعل حتّى كأنّه قد فعل لأنّه لا يمنعه ما يحفّ به من الموانع المعتادة.