فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِذۡ أَنتُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلۡقُصۡوَىٰ وَٱلرَّكۡبُ أَسۡفَلَ مِنكُمۡۚ وَلَوۡ تَوَاعَدتُّمۡ لَٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡمِيعَٰدِ وَلَٰكِن لِّيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗا لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (42)

{ إذ } أي اذكروا أيها المسلمون إذ { أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى } قرئ بضم العين في الموضعين وكذا بالفتح والكسر وقرئ بهما أيضا وهي لغات بمعنى واحد ، وهذا هو قول جمهور اللغويين ، والعدوة شط الوادي وشفيره وحافته سميت بذلك لأنها عدلت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوزها أي منعته ، وقال أبو عمرو : هي المكان المرتفع ، والدنيا تأنيث الأدنى من دنا يدنو أي القربى من المدينة ، والقصوى تأنيث الأقصى من قصا يقصو ، ويقال القصيا والأصل الواو وهي لغة أهل الحجاز ، والمعنى وقت نزولكم بالجانب الأدنى من الوادي إلى جهة المدينة ، وعدوكم بالجانب الأقصى منه مما يلي مكة والباء بمعنى في كقولك زيد بمكة .

{ والركب أسفل منكم } أي والحال أن الركب في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه مما يلي البحر ، وأجاز الأخفش والكسائي والفراء رفع أسفل على معنى أشد سفلا منكم ، وقيل الواو للعطف ، والركب اسم جمع لراكب أو جمع له وهم العشرة فصاعدا ، ولا تقول العرب ركب للجماعة الراكبي الإبل ، وقد يقال لمن كان على فرس وغيرها ركب والجمع أركب وركوب كذا قال ابن فارس وحكاه ابن السكيت عن أكثر أهل اللغة .

والمراد بالركب هنا ركب أبي سفيان وهي المراد بالعير فإنهم كانوا في موضع أسفل منهم مما يلي ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر ، قيل وفائدة ذكر هذه الحالة التي كانوا عليها من كونهم بالعدوة الدنيا وعدوهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منهم ، الدلالة على قوة شأن العدو وشوكته وذلك لأن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضا لا بأس بها ، وأما العدوة الدنيا فكانت رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها وكانت العير وراء ظهر العدو مع كثرة عددهم ، فامتن الله على المسلمين بنصرتهم عليهم والحال هذه .

{ ولو تواعدتم } أي أنتم والمشركون من أهل مكة على أن تلتقوا في هذا الموضع للقتال وأعلم كل منكم الآخر للخروج له { لاختلفتم في الميعاد } أي لخالف بعضكم بعضا فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالوعد وثبطهم ما في قلوبهم من المهابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالميعاد معناه التواعد والميعاد المواعدة ووقتها ومكانها كما في القاموس .

{ ولكن } جمع الله بينكم في هذا الموطن بغير ميعاد { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } أي حقيقا بأن يفعل من نصر أوليائه وخذلان أعدائه وإعزاز دينه وإذلال الكفر فأخرج المسلمين لأخذ العير وغنيمتها عند أنفسهم ، وأخرج الكافرين للمدافعة عنها ولم يكن في حسبان الطائفتين أن يقع هذا الاتفاق على هذه الصفة .

{ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة } أي ليموت من يموت عن بينة ويعيش من يعيش عن بينة رآها وعبرة عاينها وحجة قامت عليه ، لئلا تبقى لأحد على الله حجة ، وقيل الهلاك والحياة مستعاران للكفر والإسلام أي ليصدر إسلام من أسلم عن وضوح بينة ويقين بأنه دين الحق ، ويصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة ، وهو معنى قول ابن إسحق وقتادة { وإن الله لسميع } بكفر الكافرين وإيمان المؤمنين { عليم } بهما لا يخفى عليه خافية .