الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{إِذۡ أَنتُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلۡقُصۡوَىٰ وَٱلرَّكۡبُ أَسۡفَلَ مِنكُمۡۚ وَلَوۡ تَوَاعَدتُّمۡ لَٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡمِيعَٰدِ وَلَٰكِن لِّيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗا لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (42)

وقوله سبحانه : { إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ } [ الأنفال : 42 ] .

العُدْوَة : شفيرُ الوادِي ، وحَرْفُهُ الذي يتعذَّرُ المَشْيُ فيه بمنزلة رَجَا البئْر ؛ لأنها عَدَتْ ما في الوادِي من ماء ونحوه ؛ أن يتجاوز الوادِيَ ، أي : منعته ؛ ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]

عَدَتْنِي عَنْ زِيَارَتِكِ العَوَادِي *** وَحَالَتْ دُونَهَا حَرْبٌ زَبُون

وقرأ ابنُ كَثِير ، وأبو عمرو : { بِالعِدْوَة } بِكَسْرِ العين ، وقوله : { الدنيا } ، و{ القصوى } ، إِنَّما هو بالإِضافة إِلى المدينة ، وبين المدينة ووادِي بَدْر موضعُ الوقعة مَرْحَلتان ، و{ الدُّنْيَا } : من الدُّنُوِّ ، و{ القصوى } : منِ القُصُوِّ ، وهو البُعْد ، { والركب } ، بإِجماعٍ من المفسِّرين : عِيرُ أبي سفيان ، وقوله : { أَسْفَلَ } ، في موضع خَفْض ، تقديره : في مكان أَسْفَلَ كَذَا .

قال سِيبَوَيْهِ : وكان الرَّكْبُ ، ومُدَبِّر أمره أبو سفيانَ بْنُ حَرْب ، قد نَكَبَ عن بَدْر حين نَذَرَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأخَذَ سيْفَ البَحْرِ ، فهو أَسْفَلُ ؛ بالإِضافة إِلى أَعلى الوَادِي .

وقوله سبحانه : { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد } ، المَقْصدُ من الآية : تَبْيينُ نعمة اللَّه سُبْحانه في شأنِ قِصَّة بَدْر ، وتيسيره سُبْحانه ما يَسَّر من ذلك ، والمَعنَى : لو تواعدتم ، لاختلفتم في الميعادِ بَسَببِ العوارِضِ التي تَعْرضُ للناس ، إِلاَّ مع تيسير اللَّه الذي تَممَّ ذلك ، وهذا كما تقولُ لصاحبك في أمْر سَنَاهُ اللَّه تعالى دونَ تَعَبٍ كثير : لَوْ بَنَيْنَا عَلَى هَذَا ، وسَعَيْنَا فِيهِ ، لَمْ يَتِمَّ هَكَذَا ، ولكن { لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } ، أي : لينفِّذَ ويُظْهِر أمراً قد قدَّره في الأزل مفعولاً لكم ؛ بشرط وجودكم في وَقْتِ وجودِكُمْ ، وهذا كلُّه معلومٌ عنده عزَّ وجلَّ لم يتجدَّد له به علْمٌ ، وقوله عزَّ وجلَّ : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } ، قال الطبريُّ : المَعنى : ليُقْتَلَ من قُتِلَ من كفَّار قريش وغيرهم ؛ ببيانٍ مِنَ اللَّه وإِعذارٍ بالرسالة ، ويَحْيَ أيضاً ويعيشَ مَنْ عاش ؛ عن بيانٍ منْه أيضاً وإِعذار ؛ لا حجة لأحد عليه سبحانه .

( ت ) : قال أبو عمر بنُ عَبْدِ البَرِّ في كتاب «فضل العلْمِ » في قوله عز وجلَّ : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ } الآية : البيِّنة : ما بان به الحقُّ . انتهى .

وقال ابنُ إِسْحَاق وغيره : معنى «لِيَهْلِكَ » أيْ : لِيَكْفُرَ و{ يَحْيَا } أي : ليؤمنَ ؛ فالحياةُ والهلاكُ على هذا التأويل : مستعارتان .