قوله : " بالعُدْوَةِ " متعلقٌ بمحذوف ؛ لأنَّهُ خبر المبتدأ ، والباء بمعنى : " في " كقولك : زيد بمكة . وقرأ{[17367]} ابن كثير وأبو عمرو " بالعِدْوَةِ " بكسر العينِ فيهما ، والباقون بالضم فيهما وهما لغتان في شطِّ الوادي وشفيره وضِفَّته ، كالكُسْوة والكِسْوة ، والرُّشوة والرِّشوة ، سُمِّيت بذلك لأنَّها عدتْ ما في الوادي من ماءٍ ونحوه أن يتجاوزها ، أي : منعته ؛ قال الشَّاعرُ : [ الوافر ]
عَدَتْنِي عَنْ زيارتها العَوَادِي *** وحَالَتْ دُونهَا حَرْبٌ زُبُونُ{[17368]}
وقرأ الحسنُ وزيد بن{[17369]} علي ، وقتادة وعمرو بن عبيد بالفتح ، وهي كلها لغاتٌ بمعنى واحد .
هذا هو قولُ جمهور اللغويين ، على أنَّ أبا عمرو بن العلاء أنكر الضمَّ ، ووافقه الأخفش ، فقال : " لَمْ يُسْمَعْ من العرب إلاَّ الكسرُ " . ونقل أبو عبيد اللغتين ، إلاَّ أنه قال : الضَّمُّ أكثرهما ، وقال اليزيديُّ : " الكسر لغةُ الحجازِ " ؛ وأنشدوا قول أوس بن حجرٍ : [ البسيط ]
وفَارسٍ لمْ يَحُلَّ القومُ عُدْوتَهُ *** ولَّوْا سِرَاعاً ومَا هَمُّوا بإقْبَالِ{[17370]}
بالكسر ، والضم . وهذا هو الذي ينبغي أن يقال ، فلا وجهَ لإنكار الضَّمِّ ، ولا الكسْرِ ، لتواتر كلٍّ منهما ، ويحمل قول أبي عمرو على أنَّهُ لم يبلُغْه ، ويحتمل أن يقال في قراءةِ من قرأ بفتح العين أن يكون مصدراً سُمِّي به المكان .
وقرئ شاذّاً{[17371]} " بالعِدْيَة " بقلب الواو ياءً لانكسار ما تقدَّمها ، ولا يُعتبر الفاصلُ ؛ لأنَّه ساكن ، فهو حاجز غير حصين ، وهذا كما قالوا : " هو ابن عمي دِنيا " بكسر الدَّال ، وهو من الدنو ، وكذلك : قِنْيَة ، وصِبْيَة ، وأصله السَّلامة ، كالذِّرْوَة ، والصِّفْوة والرِّبُوَة ، وقد تقدَّم الكلام على لفظ " الدُّنْيَا " .
قول " القُصْوَى " تأنيث " الأقصى " ، والأقصى : الأبعد ، والقَصْوُ : البعد وللصَّرفيين عبارتان ، أغلبهما أن " فُعْلَى " من ذوات الواو ، إن كانت اسماً أبدلَتْ لامُها ياءً ، ثم يُمَثِّلُون بنحو : الدُّنْيَا ، والعُلْيَا ، والقُصْيَا ، وهذه صفاتٌ ؛ لأنَّها من باب أفعل التَّفضيل ، وكأنَّ العذر لهم أنَّ هذه وإن كانت في الأصْلِ صفاتٍ ، إلاَّ أنَّها جرتْ مجرى الجوامد .
قالوا : وإنْ كانت " فُعْلَى " صفةً أقرَّتْ لامُها على حالها ، نحو : الحُلْوى ، تأنيث الأحلى ونصُّوا على أن " القُصْوَى " شاذة ، وإن كانت لغة الحجاز ، وأنَّ " القُصْيَا " قياسٌ وهي لغة تميم ، وممَّنْ نصَّ على شذوذ : " القُصْوَى " يعقوب بن السِّكِّيت .
وقال الزمخشريُّ : وأمَّا " القُصْوَى " فكالقَوَد في مجيئه على الأصل ، وقد جاء " القُصْيَا " إلاَّ أنَّ استعمال " القُصوى " أكثر ، كما كثر استعمال " استصوب " مع مجيء " استَصَابَ " ، و " أغيَلت " مع " أغَالَتْ " انتهى .
وقد قرأ زيد{[17372]} بن عليٍّ : " بالعُدْوةِ القُصْيَا " فجاء بها على لغة تميم ، وهي القياسُ عند هؤلاء .
والعبارة الثانية - وهي القليلةُ - العكس ، أي : إن كانت صفةً أبدلتْ ، نحو : العُلْيَا والدُّنيا ، والقُصْيا ، وإن كانت اسماً أقرَّتْ ؛ نحو " حُزْوَى " ؛ كقوله : [ الطويل ]
أدَاراً بِحُزْوَى هِجْتِ للعَيْنِ عَبْرَةً *** فَمَاءُ الهَوَى يرفَضُّ ، أو يَتَرقْرَقُ{[17373]}
وعلى هذا ف " الحُلْوَى " شاذة ؛ لإقرار لامها مع كونها صفة ، وكذا " القُصْوَى " أيضاً ، عند هؤلاء ؛ لأنها صفة وقد ترتَّب على هاتين العبارتين أنَّ " قُصْوَى " على خلافِ القياس فيهما وأن " قًصْيَا " هي القياس ؛ لأنها عند الأولين من قبيل الأسماء ، وهم يقلبونها ياء وعند الآخرين من قبيل الصفات ، وهم يقلبونها أيضاً ياءً ، وإنَّما يظهر الفرقُ في " الحُلْوى " و " حُزْوَى " ف : " الحُلْوَى " عند الأولين تصحيحها قياسٌ ، لكونها صفةً ، وشاذة عند الآخرين ، لأنَّ الصفةَ عندهم تُقْلبُ واوُها ياءً . و " الحُزْوَى " عكسُها ، فإنَّ الأولين يقلبُون في الأسماء ، دون الصفات ، والآخرون عكسُهم . وهذا موضعٌ حسنٌ ، يختلط على كثير من النَّاس ، فلذلك شرحناه .
ونعني بالشذوذِ : شذوذ القياس ، لا شذوذ الاستعمال ، ألا ترى إلى استعمال التواتر ب " القُصْوَى " .
قوله { والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ } الأحسنُ في هذه الواو ، والواو التي قبلها الداخلة على " هم " : أن تكون عاطفة ما بعدها على " أنتُم " ؛ لأنَّها مبدَأ تقسيم أحوالهم ، وأحوال عدوِّهم ويجوزُ أن يكونا وَاوَي حال ، و " أسْفَلَ " منصوبٌ على الظَّرف النَّائب عن الخبرِ ، وهو في الحقيقة صفةٌ لظرف مكان محذوفٍ ، أي : والرَّكْبُ مكاناً أسفل مِنْ مكانكم .
وقرأ زيد{[17374]} بنُ عليٍّ " أسْفَلُ " بالرَّفعِ ، على سبيل الاتِّساع ، جعل الظرف نفس الركب مبالغةً واتساعاً .
وقال مكيٌّ : " وأجاز الفرَّاءُ ، والأخفشُ ، والكسائي رحمهم الله تعالى " أسْفَلُ " بالرَّفع على تقدير محذوفٍ ، أي : موضعُ الرَّكب أسفل " ، والتخريجُ الأوَّل أبلغُ في المعنى ، والرَّكْبُ : اسمُ جمعٍ ل " رَاكبٍ " لا جمع تكسر له ؛ خلافاً للأخفش ؛ كقوله : [ الرجز ]
بَنَيْتُهُ مِنْ عُصْبَةٍ مِنْ ماليَا *** أخْشَى رُكَيْباً ورُجَيْلاً عَادِيَا{[17375]}
فصَغَّره على لفظه ، ولو كان جمعاً لما صُغِّر على لفظه .
قوله " ولكِن ليَقْضِيَ " متعلِّقٌ بمحذوف ، أي : ولكن تلاقَيْتُم لِيقْضِي ، وقدَّرَ الزمخشريُّ ذلك المحذوف فقال : " أي : ليقضي اللَّهُ أمراً كان واجباً أن يفعل ، وهو نصرُ أوليائه وقهرُ أعدائه دبر ذلك " ، و " كَانَ " يحتمل أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزَّمانِ الماضي ، وأن تكون بمعنى " صار " ، فتدُلَّ على التحوُّلِ ، أي : صار مفعولاً بعد أن لم يكن كذلك .
قوله " لِيَهْلِكَ " فيه أوجه :
أحدها : أنَّهُ بدلٌ من قوله : " ليَقضيَ اللَّهُ " بإعادة العاملِ فيتعلَّق بما تعلَّق به الأول .
الثاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بقوله " مَفْعُولاً " ، أي : فعل هذا الأمر لِكَيْتَ وكَيْتَ .
الثالث : أنَّهُ متعلِّق بما تعلَّق به " لِيَقْضِيَ " على سبيل العطفِ عليه بحرفِ عطفٍ محذوف ، تقديره : وليهلكَ ، فحذف العاطفَ ، وهو قليلٌ جدّاً ، وتقدَّم التنبيه عليه .
الرابع : أنَّهُ متعلِّق ب " يَقْضِي " ذكره أبُو البقاءِ رحمه الله تعالى .
وقرأ الأعمشُ وعصمة{[17376]} عن أبي بكر عن عاصم " لِيَهْلَكَ " بفتح اللاَّم ، وقياسُ ما مضى هذا " هَلِكَ " بالكسر ، والمشهور إنما هو الفتح ، قال تعالى : { إِن امرؤ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] { حتى إِذَا هَلَكَ } [ غافر : 34 ] .
قوله " مَنْ حَيَّ " قرأ نافعٌ وأبو بكر{[17377]} عن عاصم ، والبزيُّ عن ابن كثير بالإظهار والباقون بالإدغام ، والإظهارُ والإدغام في هذا النَّوْعِ لغتان مشهورتان ، وهو كُلُّ ما آخرُه ياءان من الماضي أولاهما مكسورة ؛ نحو : " حَيِيَ ، وعَيِيَ " ، ومن الإدغام قول المتلمِّس : [ الطويل ]
فَهَذَا أوانُ العِرضْ حَيَّ ذُبابُه *** . . . {[17378]}
وقال الآخرُ : [ مجزوء الكامل ]
عَيُّوا بأمْرِهِمْ كَمَا *** عَيَّتْ ببَيْضَتِهَا الحَمامَهْ{[17379]}
فأدغم " عَيُّوا " ، وينُشدُ " عَيَّتْ ، وعَييَتْ " بالإظهارِ والإدغام ، فمن أظهر ؛ فلأنه الأصلُ ولأن الإدغامَ يُؤدِّي إلى تضعيف حرفِ العلَّةِ ، وهو ثقيلٌ في ذاته ؛ ولأن الياء الأولى يتعينَّ فيها الإظهارُ في بعض الصُّورِ ، وذلك في مضارع هذا الفعل ؛ لانقلاب الثَّانية ألفاً في يَحْيَا ، ويَعْيَا ، فحمل الماضي عليه طرداً للباب ؛ ولأنَّ الحركةَ في الثَّانية عارضةٌ ؛ لزوالها في نحو : حَيِيتُ ، وبابه ؛ ولأنَّ الحركتين مختلفتان ؛ واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين .
قالوا وكذلك : لَحِحَت عينه وضببَ المكان ، وألِلَ السِّقَاءُ ، ومشِشَتْ الدَّابة .
قال سيبويه{[17380]} : " أخبرنا بهذه اللُّغةِ يونسُ " يعني بلغة الإظهار .
قال : " قد سمعت بعض العرب يقولُ : أحْيِياء ، وأحْيِيَة ، فيظهر " . وإذا لم يدغم مع لزوم الحركةِ فمع عروضها أوْلى ، ومنْ أدغم فلاستثقال ظهور الكسرةِ في حرف يُجانسه ؛ ولأنَّ الحركة الثانية لازمةٌ لأنَّهَا حركةُ بناء ، ولا يضُرُّ زوالها في نحو : " حَيِيْتُ " ، كما لا يَضُرُّ ذلك فيما يجب إدغامُه من الصحيح ، نحو : حَلَلْتُ وظَللْتُ ، وهذا كلَّه فيما كانت حركتُه حركة بناءٍ ، ولذلك قُيِّد به الماضي .
أمَّا إذا كانت حركة إعراب فالإظهارُ فقط ، نحو : لن يُحْيِي ولن يُعْيِيَ .
قوله " عَن بيِّنَةٍ " متعلق ب " يَهْلِكَ " و " يَحْيَا " ، والهلاكُ ، والحياةُ عبارةُ عن الإيمان والكفرِ ، والمعنى : ليصدرَ كُفْرُ من كفر عن وضوحٍ وبيان ، لا عن مُخالطةِ شبهة ، وليصدر إسلامُ من أسلم عن وضوحٍ لا عن مُخالطة شبهة .
معنى الآية : " إذْ أنتُمْ " أي : اذكرُوا يا معشر المسلمين : { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا } أي : بشفير الوادي الأدنى من المدينة ، والدُّنْيَا : تأنيثُ الأدْنَى ، " وهُم " يعني : المشركين . " بالعُدُوَةِ القُصْوَى " بشفير الوادي الأقصى من المدينة ممَّا يلي جانب مكَّة ، وكان الماءُ في العدوة التي نزل بها المشركون ، فكان استظهارهم من هذا الوجه أشد ، " والرَّكْبُ " العير التي خرجوا إليها : " أسْفَلَ مِنكُمْ " أي : في موضع أسفل إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر .
" ولوْ توَاعَدتُّمْ " أنتم ، وأهل مكَّة " لاخْتَلَفْتُمْ " لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم ، وكثرتهم ، أو لأن المسلمين خرجوا ليأخُذُوا العير ، وخرج الكفَّارُ ليمنعوها ، فالتقوا على غير ميعاد ، ولكن الله جمعكم على غير ميعاد ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، لنصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه { ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } .
وذلك أن عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر ، كانوا في غاية الضَّعْفِ والخوف بسبب القلَّةِ ، وعدم الأهبة ، ونزلُوا بعيداً عن الماءِ ، وكانت الأرض الَّتي نزلُوا فيها رَمْلاً تغوصُ فيه أرجُلُهُمْ ، والكُفَّارُ كانوا في غاية القُوَّةِ ، لكثرتهم في العدد والعدة ، وكانوا قريباً من الماء وكانت الأرض التي نزلوا فيها صالحة للمضي ، والعير كانوا خلف ظهورهم وكانوا يتوقَّعُون مجيء المدد ساعةً فساعةً ، ثُمَّ إنَّه تعالى قلب القصَّة ، وجعل الغلبة للمسلمين ، والدَّمار على الكافرين ، فصار ذلك من أعظم المعجزات ، وأقوى البيِّنات على صدق محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر .
وقوله : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ } إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنَّ الذين هلكوا إنَّما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة ، والذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة ، والمراد من البيِّنةِ : المعجزة ، ثم قال : { وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : يسمع دعاءكم ، ويعلم حاجتكم وضعفكم ويصلح مهمكم .