{ وقد أضلوا كثيراً } أي : ضل بسبب الأصنام كثير من الناس كقوله عز وجل : { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس }( إبراهيم- 36 ) ، وقال مقاتل : أضل كبراؤهم كثيراً من الناس ، { ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً } هذا دعاء عليهم بعدما أعلم الله نوحاً أنهم لا يؤمنون ، وهو قوله : { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن }( هود- 36 ) .
وهكذا تلك القيادات الضالة المضللة تقيم أصناما ، تختلف أسماؤها وأشكالها ، وفق النعرة السائدة في كل جاهلية ؛ وتجمع حواليها الأتباع ، وتهيج في قلوبهم الحمية لهذه الأصنام ، كي توجههم من هذا الخطام إلى حيث تشاء ، وتبقيهم على الضلال الذي يكفل لها الطاعة والانقياد : ( وقد أضلوا كثيرا )ككل قيادة ضالة تجمع الناس حول الأصنام . . أصنام الأحجار . وأصنام الأشخاص . وأصنام الأفكار . . سواء ! ! للصد عن دعوة الله ، وتوجيه القلوب بعيدا عن الدعاة ، بالمكر الكبار ، والكيد والإصرار !
هنا انبعث من قلب النبي الكريم نوح - عليه السلام - ذلك الدعاء على الظالمين الضالين المضلين ، الماكرين الكائدين :
( ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ) . .
ذلك الدعاء المنبعث من قلب جاهد طويلا ، وعانى كثيرا ، وانتهى - بعد كل وسيلة - إلى اقتناع بأن لا خير في القلوب الظالمة الباغية العاتية ؛ وعلم أنها لا تستحق الهدى ولا تستأهل النجاة .
وقوله : وَقَدْ أضَلّوا كَثِيرا يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح : وقد ضلّ بعبادة هذه الأصنام التي أُحدثت على صور هؤلاء النفر المسمينَ في هذا الموضع كثير من الناس فنُسِب الضّلال إذ ضَلّ بها عابدوها إلى أنها المُضِلة .
وقوله : وَلا تَزدِ الظّالِمِينَ إلاّ ضَلالاً يقول : ولا تزد الظالمين أنفسهم بكفرهم بآياتنا إلا ضلالاً ، إلا طبعا على قلبه ، حتى لا يهتدي للحقّ .
وقوله : { وقد أضلوا كثيراً } هو إخبار نوح عنهم وهو منقطع مما حكاه عنهم . والمعنى وقد أضل هؤلاء القائلون كثيراً من الناس الأتباع والعوام ، ثم دعا عليهم إلى الله تعالى بأن لا يزيدهم إلا ضلالاً ، وذكر { الظالمين } لتعم الدعوة الدعوة كل من جرى مجراهم . وقال الحسن في كتاب النقاش : أراد بقوله { وقد أضلوا } ، الأصنام المذكورة وعبر عنها بضمير من يعقل من حيث يعاملها جمهور أهلها معاملة من يعقل ، ويسند إليها أفعال العقل .
عطف على { وقالوا لا تذرن ءالهتكم } [ نوح : 23 ] ، أي أضلوا بقولهم هذا وبغيره من تقاليد الشرك كثيراً من الأمة بحيث ما آمن مع نوح إلاّ قليل .
{ وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضلالا } .
يجوز أن تكون هذه الجملة تتمة كلام نوح متصلةً بحكاية كلامه السابق ، فتكون الواو عاطفة جزء جملة مقولةٍ لفعل { قال } [ نوح : 21 ] على جزئها الذي قبلها عطف المفاعيل بعضِها على بعض كما تقول قال امرؤ القيس قفا نبْك . ختم نوح شكواه إلى الله بالدعاء على الضالّين المتحدث عنهم بأن يزيدهم الله ضلالاً .
ولا يريبك عطف الإِنشاء على الخبر لأن منع عطف الإِنشاء على الخبر على الإِطلاق غير وجيه والقرآن طافح به .
ويجوز أن تكون جملة { ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً } غير متصلة بحكاية كلامه في قوله : { قال نوح رب إنهم عصوني } [ نوح : 21 ] بل هو حكاية كلام آخرَ له صدر في موقف آخر ، فتكون الواو عاطفة جملة مقولة قول على جملة مقولة قول آخر ، أي نائبةٍ عن فعل قال كما تقول : قال امرؤ القيس :
و : أَلاَ عمْ صباحاً أيها الطلل البالي
وقد نحا هذا المعنى من يأبون عطف الإِنشاء على الخبر .
والمراد ب { الظالمين } : قومه الذين عصوه فكان مقتضى الظاهر التعبير عنهم بالضمير عائداً على { قومي } من قوله : { دعوتُ قومي ليلاً ونهاراً } [ نوح : 5 ] فعدل عن الإِضمار إلى الإِظهار على خلاف مقتضى الظاهر لما يؤذن به وصف { الظالمين } من استحقاقهم الحرمان من عناية الله بهم لظلمهم ، أي إشراكهم بالله ، فالظلم هنا الشرك { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] .
والضلال ، مستعار لعدم الاهتداء إلى طرائق المكر الذي خشي نوح غائلته في قوله : { ومكروا مكراً كُباراً } [ نوح : 22 ] ، أي حُلْ بيننا وبين مكرهم ولا تزدهم إمهالاً في طغيانهم علينا إلاّ أن تضللهم عن وسائله ، فيكون الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، أو أراد إبهام طرق النفع عليهم حتى تنكسر شوكتهم وتلين شكيمتهم نظير قول موسى عليه السلام { ربَّنا اطمِسْ على أموالهم واشْدُد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] .
وليس المراد بالضلال الضلال عن طريق الحق والتوحيد لظهور أنه ينافي دعوة نوح قومه إلى الاستغفار والإِيمان بالبعث فكيف يسأل الله أن يزيدهم منه .
ويجوز أن يكون الضلال أطلق على العذاب المسبب عن الضلال ، أي في عذاب يوم القيامة وهو عذاب الإِهانة والآلام .
ويجوز أن تكون جملةً معترضة وهي من كلام الله تعالى لنوح فتكون الواو اعتراضية ويقدر قول محذوف : وقلنا لا تزد الظالمين . والمعنى : ولا تزد في دعائهم فإن ذلك لا يزيدهم إلاّ ضلالاً ، فالزيادة منه تزيدهم كفراً وعناداً . وبهذا يبقى الضلال مستعملاً في معناه المشهور في اصطلاح القرآن ، فصيغة النهي مستعملة في التأييس من نفع دعوته إياهم . وأعلَمَ الله نوحاً أنه مهلكهم بقوله : { أُغْرقوا فأُدْخلوا ناراً } الآية [ نوح : 25 ] وهذا في معنى قوله : { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } [ هود : 36 ، 37 ] .
ألا ترى أن ختام كلتا الآيتين متحد المعنى من قوله هنا { أغرقوا وقوله في الآية الأخرى { إنهم مغرقون } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} يعني إلا خسارا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله: "وَقَدْ أضَلّوا كَثِيرا": يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح: وقد ضلّ بعبادة هذه الأصنام التي أُحدثت على صور هؤلاء النفر المسمينَ في هذا الموضع كثير من الناس فنُسِب الضّلال إذ ضَلّ بها عابدوها إلى أنها المُضِلة.
" وَلا تَزدِ الظّالِمِينَ إلاّ ضَلالاً ": ولا تزد الظالمين أنفسهم بكفرهم بآياتنا إلا ضلالاً، إلا طبعا على قلبه، حتى لا يهتدي للحقّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقد أضلوا كثيرا} فجائز أن يكون أريد به الكبراء أنهم أضلوا كثيرا، أي دعوا إلى الضلال، وزينوه في قلوبهم، فأضلوا سفهاءهم بذلك.
وجائز أن يكون أريد به الأصنام...
{ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} فهذا يشبه أن يكون بعد ما بين له {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} [هود: 36] فإذ قد علم أنهم لا يؤمنون، لم يدع لهم بالهدى، ولكن دعا الله تعالى ليزيد في إضلالهم، ويكون الإضلال عبارة عن الهلاك، والضلال الهلاك. قال الله تعالى: {وقالوا أئذا ضللنا في الأرض} [السجدة: 10] أي أهلكنا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمعنى وقد أضل هؤلاء القائلون كثيراً من الناس الأتباع والعوام، ثم دعا عليهم إلى الله تعالى بأن لا يزيدهم إلا ضلالاً، وذكر {الظالمين} لتعم الدعوة كل من جرى مجراهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر مكرهم وما أظهروا من قولهم، عطف عليه ما توقع السامع من أمرهم فقال: {وقد أضلوا} أي الأصنام وعابدوها بهذه العبادة {كثيراً} من عبادك الذين خلقتهم على الفطرة السليمة من أهل زمانهم وممن أتى بعدهم فإنهم أول من سن هذه السنة السيئة فعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. ولما كان التقدير: فلا تزد الظالمين إلا خساراً، عطف عليه قوله مظهراً في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف: {ولا تزد الظالمين} أي الراسخين في الوصف الموجب لأن تكون آثار المتصف به كآثار الماشي في الظلام في وقوعها مختلة، شيئاً من الأشياء التي هي فيهم {إلا ضلالاً} أي طبعاً على عقولهم و قلوبهم حتى يعموا عن الحق وعن جميع مقاصدهم الفاسدة الضالة الراسخة في الضلال فلا يكون منها شيء على وجه يكون فيه شيء من سداد، وكان هذا بعد أن أعلمه الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، والكلام عليه على كل حال كالكلام على دعاء موسى هارون عليهما وعلى محمد أفضل الصلاة و السلام في الشد على قلوب فرعون وملائه لئلا يؤمنوا في حال ينفعهم فيه كما مضى في سورة يونس عليه السلام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا تلك القيادات الضالة المضللة تقيم أصناما، تختلف أسماؤها وأشكالها، وفق النعرة السائدة في كل جاهلية؛ وتجمع حواليها الأتباع، وتهيج في قلوبهم الحمية لهذه الأصنام، كي توجههم من هذا الخطام إلى حيث تشاء، وتبقيهم على الضلال الذي يكفل لها الطاعة والانقياد: (وقد أضلوا كثيرا) ككل قيادة ضالة تجمع الناس حول الأصنام.. أصنام الأحجار. وأصنام الأشخاص. وأصنام الأفكار.. سواء!! للصد عن دعوة الله، وتوجيه القلوب بعيدا عن الدعاة، بالمكر الكبار، والكيد والإصرار! هنا انبعث من قلب النبي الكريم نوح -عليه السلام- ذلك الدعاء على الظالمين الضالين المضلين، الماكرين الكائدين: (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا).. ذلك الدعاء المنبعث من قلب جاهد طويلا، وعانى كثيرا، وانتهى -بعد كل وسيلة- إلى اقتناع بأن لا خير في القلوب الظالمة الباغية العاتية؛ وعلم أنها لا تستحق الهدى ولا تستأهل النجاة.