قوله تعالى : { وكم من ملك في السماوات } ممن يعبدهم هؤلاء الكفار ويرجون شفاعتهم عند الله ، { لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله } في الشفاعة ، { لمن يشاء ويرضى } يعني : من أهل التوحيد . قال ابن عباس : يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه . وجمع الكناية في قوله : شفاعتهم والملك واحد ، لأن المراد من قوله : { وكم من ملك } الكثرة ، فهو كقوله : { فما منكم من أحد عنه حاجزين }( الحاقة-47 ) .
وإذا خلص الأمر كله لله في الآخرة والأولى . فإن أوهام المشركين عن شفاعة الآلهة المدعاة - من الملائكة - لهم عند الله . كما قالوا : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) . . إن هذه الأوهام لا أصل لها . فالملائكة الحقة في السماء لا تملك الشفاعة إلا حين يأذن الله في شيء منها :
( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا . إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) . .
ومن ثم تسقط دعواهم من أساسها ، فوق ما فيها من بطلان تولى تفنيده في الآيات السابقة . وتتجرد العقيدة من كل غبش أو شبهة . فالأمر لله في الآخرة والأولى . ومنى الإنسان لا تغير من الحق الواقع شيئا . والشفاعة لا تقبل إلا بإذن من الله ورضى . فالأمر إليه في النهاية . والاتجاه إليه وحده في الآخرة والأولى .
وقوله : وكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السّمَواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئا يقول تعالى ذكره : وكم من مَلك في السموات لا تغني : كثير من ملائكة الله ، لا تنفع شفاعتهم عند الله لمن شفعوا له شيئا ، إلا أن يشفعوا له من بعد أن يأذن الله لهم بالشفاعة لمن يشاء منهم أن يشفعوا له ويرضى ، يقول : ومن بعد أن يرضى لملائكته الذين يشفعون له أن يشفعوا له ، فتنفعه حينئذٍ شفاعتهم ، وإنما هذا توبيخ من الله تعالى ذكره لعبدة الأوثان والملأ من قريش وغيرهم الذين كانوا يقولون ما نَعْبُدَهُمْ إلاّ لِيُقَرّبُونا إلى اللّهِ زُلْفَى فقال الله جلّ ذكره لهم : ما تنفع شفاعة ملائكتي الذين هم عندي لمن شفعوا له ، إلا من بعد إذني لهم بالشفاعة له ورضاي ، فكيف بشفاعة من دونهم ، فأعلمهم أن شفاعة ما يعبدون من دونه غير نافعتهم .
لما بين الله أن أمور الدارين بيد الله تعالى وأن ليس للإِنسان ما تمنّى ، ضَرب لذلك مِثالاً من الأماني التي هي أعظم أمانيّ المشركين وهي قولهم في الأصنام { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه زلفى } [ الزمر : 3 ] ، وقولهم : { هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه } [ يونس : 18 ] ، فبينّ إبطال قولهم بطريق فحوى الخطاب وهو أن الملائكة الذين لهم شرف المنزلة لأن الملائكة من سكان السماوات { فهم لا يستطيعون إنكار أنهم أشرف من الأصنام } لا يملكون الشفاعة إلا إذا أذن الله أن يشفع إذا شاء أن يقبل الشفاعة في المشفوع له ، فكيف يكون للمشركين ما تمنوا من شفاعة الأصنام للمشركين الذين يقولون { هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه } وهي حجارة في الأرض وليست ملائكة في السماوات ، فثبت أن لا شفاعة إلا لمن شاء الله ، وقد نفي الله شفاعة الأصنام فبطل اعتقاد المشركين أنهم شفعاؤهم ، فهذه مناسبة عطف هذه الجملة على جملة { أم للإنسان ما تمنى } [ النجم : 24 ] . وليس هذا الانتقال اقتضاباً لبيان عظم أمر الشفاعة .
و { كم } اسم يدل على كثرة العدد وهو مبتدأ والخبر { لا تغني شفاعتهم } .
وقد تقدم الكلام على { كم } في قوله تعالى : { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة } في سورة البقرة { 211 } ، وقوله : { وكم من قرية أهلكناها } في الأعراف { 4 } .
وفي { السموات } صفة ل { ملك } . والمقصود منها بيان شرفهم بشرف العالم الذي هم أهله ، وهو عالم الفضائل ومنازل الأسرار .
وجملة { لا تغني شفاعتهم } الخ ، خبر عن { كم } ، أي لا تغني شفاعة أحدهم فهو عام لوقوع الفعل في سياق النفي ، ولإِضافة شفاعة إلى ضميرهم ، أي جميع الملائكة على كثرتهم وعلوّ مقدارهم لا تغني شفاعة واحد منهم .
و { شيئاً } مفعول مطلق للتعميم ، أي شيئاً من الإِغناء لزيادة التنصيص على عموم نفي إغناء شفاعتهم .
ولما كان ظاهر قوله : { لا تغني شفاعتهم } يوهم أنهم قد يشفعون فلا تقبل شفاعتهم ، وليس ذلك مراداً لأن المراد أنهم لا يجْرَأون على الشفاعة عند الله فلذلك عقب بالاستثناء بقوله : { إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } ، وذلك ما اقتضاه قوله : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] وقوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [ البقرة : 225 ] أي إلا من بعد أن يأذن الله لأحدهم في الشفاعة ويرضى بقبولها في المشفوع له .
فالمراد ب { لمن يشاء } من يشاؤه الله منهم ، أي فإذا أذن لأحدهم قبلت شفاعته . واللام في قوله : { لمن يشاء } هي اللام التي تدخل بعد مادة الشفاعة على المشفوع له فهي متعلقة بشفاعتهم على حد قوله تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } ، وليست اللامُ متعلقة ب { يأذن الله } . ومفعول { يأذن } محذوف دل عليه قوله : { لا تغني شفاعتهم } ، وتقديره : أن يأذنهم الله .
ويجوز أن تكون اللام لتعدية { يأذن } إذا أريد به معنى يستمع ، أي أن يُظهر لمن يشاء منهم أنه يقبل منه .
ومعنى ذلك أن الملائكة لا يزالون يتقربون بطلب إلحاق المؤمنين بالمراتب العليا كما دل عليه قوله تعالى : { ويستغفرون للذين آمنوا } [ غافر : 7 ] وقوله : { ويستغفرون لمن في الأرض } [ الشورى : 5 ] فإن الاستغفار دعاء والشفاعة توجه أَعلى ، فالملائكة يعلمون إذا أراد الله استجابة دعوتهم في بعض المؤمنين أذن لأحدهم أن يشفع له عند الله فيشفع فتقبل شفاعته ، فهذا تقريب كيفية الشفاعة . ونظيره ما ورد في حديث شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في موقف الحشر .
وعُطف { ويرضى } على { لمن يشاء } للإِشارة إلى أن إذن الله بالشفاعة يجري على حسب إرادته إذا كان المشفوع له أهلاً لأن يُشفع له . وفي هذا الإِبهام تحريض للؤمنين أن يجتهدوا في التعرض لرضَى الله عنهم ليكونوا أهلاً للعفو عما فرطوا فيه من الأعمال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.