قوله تعالى :{ إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم } ما في قلوبهم ، والصدر موضع القلب ، فكنى به عن القلب لقرب الجوار ، { إلا كبر } قال ابن عباس : ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والعظمة ، { ما هم ببالغيه } قال مجاهد : ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر ، لأن الله عز وجل مذلهم . قال ابن قتيبة : إن في صدورهم إلا تكبر على محمد صلى الله عليه وسلم ، وطمع في أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك . قال أهل التفسير : نزلت في اليهود ، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن صاحبنا المسيح بن داود يعنون الدجال يخرج في آخر الزمان ، فيبلغ سلطانه في البر والبحر ، ويرد الملك إلينا ، قال الله تعالى : { فاستعذ بالله } من فتنة الدجال . { إنه هو السميع البصير* }
( إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه . فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير . لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وما يستوي الأعمى والبصير ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء ، قليلاً ما تتذكرون . إن الساعة لآتية لا ريب فيها ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . وقال ربكم : ادعوني أستجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) . .
إن هذا المخلوق الإنساني لينسى نفسه في أحيان كثيرة ، ينسى أنه كائن صغير ضعيف ، يستمد القوة لا من ذاته ، ولكن من اتصاله بمصدر القوة الأول . من الله . فيقطع اتصاله هذا ثم يروح ينتفخ ، ويورم ، ويتشامخ ، ويتعالى . يحيك في صدره الكبر . يستمده من الشيطان الذي هلك بهذا الكبر . ثم سلط على الإنسان فأتاه من قبله !
وإنه ليجادل في آيات الله ويكابر . وهي ظاهرة ناطقة معبرة للفطرة بلسان الفطرة . وهو يزعم لنفسه وللناس أنه إنما يناقش لأنه لم يقتنع ، ويجادل لأنه غير مستيقن . والله العليم بعباده ، السميع البصير المطلع على السرائر ، يقرر أنه الكبر . والكبر وحده . هو الذي يحيك في الصدر . وهو الذي يدعو صاحبه إلى الجدال فيما لا جدال فيه . الكبر والتطاول إلى ما هو أكبر من حقيقته . ومحاولة أخذ مكان ليس له ، ولا تؤهله له حقيقته . وليست له حجة يجادل بها ، ولا برهان يصدع به . إنما هو ذلك الكبر وحده :
( إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ) . .
ولو أدرك الإنسان حقيقته وحقيقة هذا الوجود . ولو عرف دوره فأتقنه ولم يحاول أن يتجاوزه . ولو اطمأن إلى أنه كائن مما لا يحصى عدده من كائنات مسخرة بأمر خالق الوجود ، وفق تقديره الذي لا يعلمه إلا هو ، وأن دوره مقدر بحسب حقيقته في كيان هذا الوجود . . لو أدرك هذا كله لاطمأن واستراح ، ولتطامن كذلك وتواضع ، وعاش في سلام مع نفسه ومع الكون حوله . وفي استسلام لله وإسلام .
( فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ) . .
والاستعاذة بالله في مواجهة الكبر توحي باستبشاعه واستفظاعه . فالإنسان إنما يستعيذ بالله من الشيء الفظيع القبيح ، الذي يتوقع منه الشر والأذى . . وفي الكبر هذا كله . وهو يتعب صاحبه ويتعب الناس من حوله ؛ وهو يؤذي الصدر الذي يحيك فيه ويؤذي صدور الآخرين . فهو شر يستحق الاستعاذة بالله منه . . ( إنه هو السميع البصير ) . . الذي يسمع ويرى ، والكبر الذميم يتمثل في حركة ترى وفي كلام يسمع . فهو يكل أمره إلى السميع البصير يتولاه بما يراه .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ مّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين يخاصمونك يا محمد فيما أتيتهم به من عند ربك من الاَيات بغير سلطان أتاهم يقول : بغير حجة جاءتهم من عند الله بمخاصمتك فيها إنْ فِي صُدُورهِمْ إلاّ كِبْرٌ يقول : ما في صدورهم إلا كبر يتكبرون من أجله عن اتباعك ، وقبول الحقّ الذي أتيتهم به حسدا منهم على الفضل الذي آتاك الله ، والكرامة التي أكرمك بها من النبوّة ما هُمْ بِبالِغِيهِ يقول : الذي حسدوك عليه أمر ليسوا بمُدركيه ولا نائليه ، لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وليس بالأمر الذي يدرك بالأمانيّ وقد قيل : إن معناه : إن في صدورهم إلا عظمة ما هم ببالغي تلك العظمة لأن الله مذلّهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنّ فِي صُدُورِهِمْ إلاّ كِبْرٌ قال : عظمة .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : إنّ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ بغَيْرِ سُلْطانٍ أتاهُمْ قال : أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ بغَيْرِ سُلْطانٍ أتاهُمْ لم يأتهم بذاك سلطان .
وقوله : فاسْتَعِذْ باللّهِ إنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول تعالى ذكره : فاستجر بالله يا محمد من شرّ هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان ، ومن الكبر أن يعرض في قلبك منه شيء إنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول : إن الله هو السميع لما يقول هؤلاء المجادلون في آيات الله وغيرهم من قول البصير بما تعمله جوارحهم ، لا يخفى عليه شيء من ذلك .
{ إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم } عام في كل مجادل مبطل وإن نزل في مشركي مكة واليهود حين قالوا : لست صاحبنا بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار . { إن في صدورهم إلا كبر } إلا تكبر عن الحق وتعظم عن التفكر والتعلم ، أو إرادة الرياسة أو إن النبوة والملك لا يكونان إلا لهم . { ما هم ببالغيه } ببالغي دفع الآيات أو المراد . { فاستعذ بالله } فالتجئ إليه . { إنه هو السميع البصير } لأقوالكم وأفعالكم .
ثم أخبر تعالى عن أولئك الكفار الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان وهم يريدون بذلك طمسها والرد في وجهها أنهم ليسوا على شيء ، بل في صدورهم وضمائرهم كبر وأنفة عليك حسداً منهم على الفضل الذي آتاك الله ، ثم نفى أن يكونوا يبلغون آمالهم بحسب ذلك الكبر فقال : { ما هم ببالغيه } وهنا حذف مضاف تقديره : ببالغي إرادتهم فيه ، وفي هذا النفي الذي تضمن أنهم لا يبلغون أملاً تأنيٌس لمحمد عليه السلام . ثم أمره تعالى الاستعاذة بالله في كل أمره من كل مستعاذ منه ، لأن الله يسمع أقواله وأقوال مخالفيه . وهو بصير بمقاصدهم ونياتهم ، ويجازي كلاًّ بما يستوجبه ، ( والمقصد بأن يستعاذ منه عند قوم الكبر المذكور ) ، كأنه قال : هؤلاء لهم كبر لا يبغون منه أملاً ، { فاستعذ بالله } من حالهم . وذكر الثعلبي : أن هذه الاستعاذة هي من الدجال وفتنته ، والأظهر ما قدمناه من العموم في كل مستعاذ منه .