البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ سُلۡطَٰنٍ أَتَىٰهُمۡ إِن فِي صُدُورِهِمۡ إِلَّا كِبۡرٞ مَّا هُم بِبَٰلِغِيهِۚ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (56)

والظاهر أن المجادلين في آيات الله ، وهي دلائله التي نصبها على توحيده وكتبه المنزلة ، وما أظهر على يد أنبيائه من الخوارق ، هم كفار قريش والعرب .

{ بغير سلطان } : أي حجة وبرهان .

{ في صدورهم إلا كبر } : أي تكبر وتعاظم ، وهو إرادة التقدم والرياسة ، وذلك هو الحامل على جدالهم بالباطل ، ودفعهم ما يجب لك من تقدمك عليهم ، لما منحك من النبوة وكلفك من أعباء الرسالة .

{ ما هم ببالغيه } : أي ببالغي موجب الكبر ومقتضيه من رياستهم وتقدمهم ، وفي ذلك إشارة إلى أنهم لا يرأسون ، ولا يحصل لهم ما يؤملونه .

وقال الزجاج : المعنى على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر عليك ، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر ، لأن الله أذلهم وقال ابن عطية : تقديره مبالغي إرادتهم فيه .

وقال مقاتل : هي في اليهود .

قال مقاتل : عظمت اليهود الدجال وقالوا : إن صاحبنا يبعث في آخر الزمان وله سلطان ، فقال تعالى : { إن الذين يجادلون في آيات الله } ، لأن الدجال من آياته ، { بغير سلطان } : أي حجة ، { فاستعذ بالله } من فتنة الدجال .

والمراد بخلق الناس الدجال ، وإلى هذا ذهب أبو العالية ، وهذا القول أصح .

وقال الزمخشري : وقيل المجادلون هم اليهود ، وكانوا يقولون : يخرج صاحبنا المسيح بن داود ، يريدون الدجال ، ويبلغ سلطانه البر والبحر ، وتسير معه الأنهار ، وهو آية من آيات الله ، فيرجع إلينا الملك ، فسمى الله تمنيتهم ذلك كبراً ، ونفى أن يبلغوا متمناهم . انتهى .

وكان رئيس اليهود في زمانه في مصر موسى بن ميمون الأندلسي القرطبي قد كتب رسالته إلى يهود اليمن أن صاحبهم يظهر في سنة كذا وخمسمائة ، وكذب عدوّ الله .

جاءت تلك السنة وسنون بعدها كثيرة ، ولم يظهر شيء مما قاله ، لعنه الله .

وكان هذا اليهودي قد أظهر الإسلام ، حتى استسلم اليهود بعض ملوك المغرب ، ورجل من الأندلس .

فيذكر أنه صلى بالناس التراويح وهم على ظهر السفينة في رمضان ، إذ كان يحفظ القرآن .

فلما قدم مصر ، وكان ذلك في دولة العبيديين ، وهم لا يتقيدون بشريعة ، رجع إلى اليهودية وأخبر أنه كان مكرهاً على الإسلام ، فقبل منه ذلك ، وصنف لهم تصانيف ، ومنها : ( كتاب دلالة الحائرين ) ، وإنما استفاد ما استفاد من مخالطة علماء الأندلس وتودده لهم ، والرياسة إلى الآن بمصر لليهود في كل من كان من ذريته .

{ فاستعذ بالله } : أي التجيء إليه من كيد من يحسدك .

{ إنه هو السميع } لما تقول ويقولون ، { البصير } بما تعمل { ويعملون } ، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم .