تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ سُلۡطَٰنٍ أَتَىٰهُمۡ إِن فِي صُدُورِهِمۡ إِلَّا كِبۡرٞ مَّا هُم بِبَٰلِغِيهِۚ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (56)

الآية 56 وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } قال عامة أهل التأويل : إن اليهود جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدّجّال أنه منهم ، وأنه في الطَّول كذا ، ونحوه . وعلى ذلك نسقوا الآيات التي تتلو هذه الآية .

ولكن لسنا ندري بماذا صرفوا مجادلتهم في آيات الله إلى المجادلة في الدّجال إلا أن يثبت خبرٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرق التواتر أن المجادلة في الدّجال ، فحينئذ يصرف إلى ذلك ، والله أعلم .

ثم قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ } أي يجادلون في دفع آيات الله بغير حجة أتتهم من الله . وكانت المجادلة في دفع آيات الله من رؤساء الكفرة وأكابرهم ؛ كانوا يُموِّهون بمجادلتهم في دفع آيات الله تعالى ، والطعن فيها في أتباعهم وسفلتهم لتبقى لهم الرئاسة والمأكلة التي كانت لهم ، وهو ما ذكر : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ } الآية [ الأنعام : 112 ] { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا } [ الأنعام : 123 ] وغير ذلك من الآيات .

لم يزل الأكابر منهم والرؤساء يطعنون في آيات الله تعالى ، ويدفعونها ؛ يريدون التمويه والتلبيس على أتباعهم وسفلتهم ليبقى العز والشرف الذي كان لهم ، ويبطلوا به الحق ، ويطفئوا نوره ، كقوله عز وجل : { ليُدحِضوا به الحق } [ الكهف : 56 ] وقوله : { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } [ التوبة : 32 ] . هذا كان مرادهم من مجادلتهم في آيات الله والطعن فيها .

ثم أخبر عز وجل أنهم يجادلون ، ويفعلون ذلك تكبّرا منهم على آيات الله والخضوع لرسله عليهم السلام حين قال عز وجل : { إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } أي ما في صدورهم إلا كِبر ، أي كِبرُهم هو الذي حملهم على المجادلة في آيات الله .

ثم الذي حملهم على الكِبر جهلهم بسبب العز والشرف ؛ ظنوا أن العزّ والشرف إنما يكون بالأتباع الذين يصدرون عن آرائهم . ولو عرفوا فيم يكون العز والشرف ؟ لكانوا لا يفعلون ذلك .

إنما العز والشرف في طاعة الله عز وجل واتباع أمره ، ليس في اتباع من اتبعهم ولا في ائتمار من ائتمرهم . ولكن في ما ذكرنا ، والله أعلم .

ثم أخبر أنهم ليسوا ببالغين إلى ما قصدوا من إطفاء النور الذي أعطى المؤمنين وإرخاص الحق وإبطاله حين{[18323]} قال عز وجل : { ما هم ببالغيه } وقال{[18324]} : { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } [ التوبة : 32 ] .

وقوله عز وجل : { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } قال عامة أهل التأويل : أمره أن يستعيذ بالله من فتنة الدّجال .

لكن عندما أمره أن يتعوذ بالله من مكائد أولئك الأكابر والفراعنة الذين توهموا أن يمكروا به ، ويكيدوا ، أمره أن يتعوذ بالله من مكرهم وكيدهم كما أمره أن يتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم حين{[18325]} قال : { وقل ربّ أعوذ بك من همزات الشياطين } الآية [ المؤمنون : 97 ] . وهذا أولى من الأول ، والله أعلم .


[18323]:في الأصل وم: حيث.
[18324]:في الأصل وم: وقوله.
[18325]:في الأصل وم: حيث.