قوله تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } . معناه هل انتهى إليك يا محمد خبر الذي حاج إبراهيم ؟ أي خاصم وجادل ، وهو نمرود وهو أول من وضع التاج على رأسه ، وتجبر في الأرض وادعى الربوبية .
قوله تعالى : { أن آتاه الله الملك } . أي لأن آتاه الله الملك فطغى ، أي كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه ، قال مجاهد : ملك الأرض أربعة : مؤمنان وكافران ، فأما المؤمنان فسليمان وذو القرنين ، وأما الكافران : فنمرود وبختنصر . واختلفوا في وقت هذه المناظرة ، قال مقاتل : لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ، ثم أخرجه ليحرقه بالنار فقال له : من ربك الذي تدهونا إليه ؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت ، وقال آخرون : كان هذا بعد إلقائه في النار ، وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمرود ، وكان الناس يمتارون من عنده الطعام ، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله : من ربك ؟ فإن قال : أنت ، باع منه الطعام ، فأتاه إبراهيم فيمن أتاه فقال له نمرود : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ، فاشتغل بالمحاجة ولم يعطه شيئاً فرجع إبراهيم فمر على كثيب من رمل أعفر فأخذ منه تطييباً لقلوب أهله إذا دخل عليهم ، فلما أتى أهله ووضع متاعه نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام ما رأته ، فأخذته فصنعت له منه فقربته إليه فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به ، فعرف أن الله رزقه ، فحمد الله .
قال الله تعالى : { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت } . وهذا جواب سؤال غير مذكور تقديره قال له : من ربك ؟ فقال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، قرأ حمزة ، ( ربي الذي يحيي ويميت ) ، بإسكان الياء ، وكذلك ( حرم ربي الفواحش ) ، ( وعن آياتي الذين يتكبرون ) ، ( و قل لعبادي الذين ) ، ( وآتاني الكتاب ) ، ( ومسني الضر ) ، ( وعبادي الصالحون ) ، ( وعبادي الشكور ) ، ( ومسني الشيطان ) ، ( و إن أرادني الله ) ، ( وإن أهلكني الله ) أسكن الياء فيهن حمزة ، ووافق ابن عامر والكسائي في ( لعبادي الذين آمنوا ) ، وابن عامر ( آياتي الذين ) وفتحها الآخرون .
قوله تعالى : { قال } . نمرود .
قوله تعالى : { أنا أحيي وأميت } . قرأ أهل المدينة " أنا " بإثبات الألف والمد في الوصل إذا تلتها مفتوحة أو مضمومة ، والباقون بحذف الألف ، ووقفوا جميعا بالألف ، قال أكثر المفسرين : دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر ، فجعل القتل إماتة وترك القتل إحياء ، فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى ليعجزه ، فإن حجته كانت لازمة لأنه أراد بالأحياء إحياء الميت ، فكان له أن يقول : فأحي من أمت إن كنت صادقاً ، فانتقل إلى حجه أخرى أوضح من الأولى .
قوله تعالى : { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } . أي تحير ودهش وانقطعت حجته . فإن قيل : كيف بهت وكان يمكنه أن يعارض إبراهيم فيقول له : سل أنت ربك حتى يأتي بها من المغرب ؟ قيل : إنما لم يقله لأنه خاف أن لو سأل ذلك دعا إبراهيم ربه فكان زيادة في فضيحته ، وانقطاعه ، والصحيح أن الله صرفه عن تلك المعارضة إظهاراً للحجة عليه ، أو معجزة لإبراهيم عليه السلام . قوله تعالى : { والله لا يهدي القوم الظالمين } .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
يقول تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } أي : إلى جرائته وتجاهله وعناده ومحاجته فيما لا يقبل التشكيك ، وما حمله على ذلك إلا { أن آتاه الله الملك } فطغى وبغى ورأى نفسه مترئسا على رعيته ، فحمله ذلك على أن حاج إبراهيم في ربوبية الله فزعم أنه يفعل كما يفعل الله ، فقال إبراهيم { ربي الذي يحيي ويميت } أي : هو المنفرد بأنواع التصرف ، وخص منه الإحياء والإماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير ، ولأن الإحياء مبدأ الحياة الدنيا والإماتة مبدأ ما يكون في الآخرة ، فقال ذلك المحاج : { أنا أحيي وأميت } ولم يقل أنا الذي أحيي وأميت ، لأنه لم يدع الاستقلال بالتصرف ، وإنما زعم أنه يفعل كفعل الله ويصنع صنعه ، فزعم أنه يقتل شخصا فيكون قد أماته ، ويستبقي شخصا فيكون قد أحياه ، فلما رآه إبراهيم يغالط في مجادلته ويتكلم بشيء لا يصلح أن يكون شبهة فضلا عن كونه حجة ، اطرد معه في الدليل فقال إبراهيم : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق } أي : عيانا يقر به كل أحد حتى ذلك الكافر { فأت بها من المغرب } وهذا إلزام له بطرد دليله إن كان صادقا في دعواه ، فلما قال له أمرا لا قوة له في شبهة تشوش دليله ، ولا قادحا يقدح في سبيله { بهت الذي كفر } أي : تحير فلم يرجع إليه جوابا وانقطعت حجته وسقطت شبهته ، وهذه حالة المبطل المعاند الذي يريد أن يقاوم الحق ويغالبه ، فإنه مغلوب مقهور ، فلذلك قال تعالى : { والله لا يهدي القوم الظالمين } بل يبقيهم على كفرهم وضلالهم ، وهم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك ، وإلا فلو كان قصدهم الحق والهداية لهداهم إليه ويسر لهم أسباب الوصول إليه ، ففي هذه الآية برهان قاطع على تفرد الرب بالخلق والتدبير ، ويلزم من ذلك أن يفرد بالعبادة والإنابة والتوكل عليه في جميع الأحوال ، قال ابن القيم رحمه الله : وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا ، وهي أن شرك العالم إنما هو مستند إلى عبادة الكواكب والقبور ، ثم صورت الأصنام على صورها ، فتضمن الدليلان اللذان استدل بهما إبراهيم إبطال إلهية تلك جملة بأن الله وحده هو الذي يحيي ويميت ، ولا يصلح الحي الذي يموت للإلهية لا في حال حياته ولا بعد موته ، فإن له ربا قادرا قاهرا متصرفا فيه إحياء وإماتة ، ومن كان كذلك فكيف يكون إلها حتى يتخذ الصنم على صورته ، ويعبد من دونه ، وكذلك الكواكب أظهرها وأكبرها للحس هذه الشمس وهي مربوبة مدبرة مسخرة ، لا تصرف لها بنفسها بوجه ما ، بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد لأمره ومشيئته ، فهي مربوبة مسخرة مدبرة ، لا إله يعبد من دون الله . " من مفتاح دار السعادة "
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 258 )
{ ألم تر } تنبيه ، وهي رؤية القلب( {[2473]} ) ، وقرأ علي بن أبي طالب «ألم ترْ » بجزم الراء( {[2474]} ) ، و { الذي حاج إبراهيم } هو نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة( {[2475]} ) ، هذا قول مجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم( {[2476]} ) وغيرهم . وقال ابن جريج : هو أول ملك في الأرض وهذا مردود . وقال قتادة : هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل( {[2477]} ) . وقيل : إنه ملك الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته( {[2478]} ) وهو أحد الكافرين . والآخر بخت نصر . وقيل : إن { الذي حاج إبراهيم } نمرود بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وفي قصص هذه المحاجة روايتان إحداهما : ذكر زيد بن أسلم أن النمرود هذا قعد يأمر للناس بالميرة( {[2479]} ) فكلما جاء قوم قال : من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميّروهم وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار ، فقال له من ربك وإلهك ؟ قال { قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت } ، فلما سمعها نمرود قال : { أنا أحيي وأميت } ، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس ، { فبهت الذي كفر } ، وقال : لا تميروه ، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء ، فمر على كثيب من رمل كالدقيق ، فقال لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهما ، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلا يلعبان فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء ، فقالت امرأته : لو صنعت له طعاماً يجده حاضراً إذا انتبه ، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحُوَّارَي( {[2480]} ) فخبزته ، فلما قام وضعته بين يديه فقال : من أين هذا ؟ فقالت من الدقيق الذي سقت ، فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك ، وقال الربيع وغيره في هذه القصص : إن النمرود لما قال : { أنا أحيي وأميت } أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر وقال : قد أحييت هذا وأمتُّ هذا ، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت ، والرواية الأخرى ذكر السدي : أنه لما خرج إبراهيم من النار( {[2481]} ) أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه ، فكلمه وقال له : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيى ويميت ، قال نمرود : { أنا أحيي وأميت } ، أنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتاً ولا يطعمون شيئاً ولا يسقون ، حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا ، وتركت اثنين فماتا ، فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت . وذكر الأصوليون في هذه الآية : أن إبراهيم عليه السلام وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة ، لكنه أمر له حقيقة ومجاز ، قصد إبراهيم عليه السلام الحقيقة ، ففزع نمرود إلى المجاز( {[2482]} ) وموه به على قومه ، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل ، وانتقل معه من المثال ، وجاءه بأمر لا مجاز فيه ، { فبهت الذي كفر } ، ولم يمكنه أن يقول : أنا الآتي بها من المشرق ، لأن ذوي الأسنان يكذبونه( {[2483]} ) ، وقوله { حاجّ } وزنه «فاعل » من الحجة أي جاذبه أياها والضمير في { ربه } يحتمل أن يعود على إبراهيم عليه السلام ، ويحتمل أن يعود على { الذي حاج } ، و { أن }( {[2484]} ) مفعول من أجله والضمير في { آتاه } للنمرود ، وهذا قول جمهور المفسرين ، وقال المهدوي : يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم أن آتاه ملك النبوءة ، وهذا تحامل من التأويل( {[2485]} ) ، وقرأ جمهور القراء { أن أحيي } بطرح الألف التي بعد النون من { أنا } إذا وصلوا في كل القرآن غير نافع ، فإن ورشاً وابن أبي أويس وقالون رأوا إثباتها في الوصل إذا لقيتها همزة في كل القرآن ، مثل [ أنا أحيي ] [ أنا أخوك ] ( {[2486]} ) إلا في قوله تعالى :{ إن أنا إلا نذير }( {[2487]} ) [ الأعراف : 188 ] [ الشعراء : 115 ] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء وتابع أصحابه في حذفها عند غير همزة ، قال أبو علي : ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون( {[2488]} ) ثم إن الألف تلحق في الوقف كما تلحق الهاء أحياناً في الوقف فإذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت الهاء فكذلك الألف ، وهي مثل ألف حيهلا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مثال الألف التي تلحق في القوافي ، فتأمل . قال أبو علي : فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطت الألف ، لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف ، وقد جاءت الألف مثبتة في الوصل في الشعر من ذلك قول الشاعر :
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني . . . حميداً قد تذريت السناما( {[2489]} )
وقرأ الجمهور( {[2490]} ) : «فبُهِتَ » الذي بضم الباء وكسر الهاء ، يقال بهت الرجل : إذا انقطع وقامت عليه الحجة . قال ابن سيده : ويقال في هذا المعنى : «بَهِتَ » بفتح الباء وكسر الهاء ، «وَبَهُت » بفتح الباء وضم الهاء . قال الطبري : وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى ، «بَهَت » بفتح الباء والهاء .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا ضبطت اللفظة في نسخة ابن ملول( {[2491]} ) دون تقييد بفتح الباء والهاء ، قال ابن جني : قرا أبو حيوة : «فبَهُت » بفتح الباء وضم الهاء هي لغة في بهت بكسر الهاء ، قال : وقرأ ابن السميفع : «فبَهَت » بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر ، فالذي في موضع نصب ، قال : وقد يجوز أن يكون «بَهَت » بفتحهما لغة في بهت . قال : وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة «فبهِت » بكسر الهاء كَخَرِقَ ودهِش( {[2492]} ) ، قال : والأكثر بالضم في الهاء ، قال ابن جني : يعني أن الضم يكون للمبالغة ، قال الفقيه أبو محمد : وقد تأول قوم في قراءة من قرأ { فبهت } بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف ، وأن نمرود هو الذي سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة ، وقوله تعالى : { والله لا يهدي القوم الظالمين } ، إخبار لمحمد عليه السلام وأمته .
والمعنى : لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم ، لأنه لا هدى في الظلم ، فظاهره العموم ، ومعناه الخصوص ، كما ذكرنا( {[2493]} ) ، لأن الله قد يهدي الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان . ويحتمل أن يكون الخصوص فيمن يوافي ظالماً .
جرى هذا الكلام مجرى الحجة على مضمون الجملة الماضية أو المثالِ لها ؛ فإنّه لما ذكر أنّ الله يخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور وأنّ الطاغوت يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات ، ساق ثلاثة شواهد على ذلك هذا أولها وأجمعها لأنّه اشتمل على ضلال الكافر وهدى المؤمن ، فكان هذا في قوّة المثال .
والمقصود من هذا تمثيل حال المشركين في مجادلتهم النبي صلى الله عليه وسلم في البعث بحال الذي حاجّ إبراهيم في ربه ، ويدل لذلك ما يرد من التخيير في التشبيه في قوله : { و كالذي مر على قرية } [ البقرة : 259 ] الآية .
وقد مَضى الكلام على تركيب ألم تر . والاستفهامُ في { ألم تر } مجازي متضمّن معنى التعجيب ، وقد تقدم تفصيل معناه وأصله عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } [ البقرة : 243 ] . وهذا استدلال مسوق لإثبات الوحدانية لله تعالى وإبطال إلاهية غيره لانفراده بالإحياء والإماتة ، وانفراده بخلق العوالم المشهودة للناس . ومعنى { حاجّ } خاصم ، وهو فعل جاء على زنة المفاعلة ، ولا يعرف لحاجّ في الاستعمال فعل مجرد دال على وقوع الخصام ولا تعرف المادة التي اشتق منها . ومن العجيب أنّ الحجة في كلام العرب البرهان المصدّق للدعوى مع أنّ حاج لا يستعمل غالباً إلاّ في معنى المخاصمة ؛ قال تعالى : { وإذ يتحاجّون في النار } [ غافر : 47 ] مع قوله : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] ، وأنّ الأغلب أنّه يفيد الخصام بباطل ، قال تعالى : { وحاجّه قومه قال أتحاجّوني في الله وقد هدان } [ الأنعام : 80 ] وقال : { فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله } [ آل عمران : 20 ] والآيات في ذلك كثيرة . فمعنى { الذي حاجّ إبراهيم } أنّه خاصمه خصاماً باطلاً في شأن صفات الله ربّ إبراهيم .
والذي حَاجّ إبرهيم كافر لا محالة لقوله : { فبهت الذي كفر } ، وقد قيل : إنّه نمرودُ بن فالخ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن كوش بن حام بن نوح ، فيكون أخا ( رَعو ) جدِّ إبراهيم . والذي يُعتمد أنّه ملك جبّار ، كان ملكاً في بابل ، وأنّه الذي بنى مدينة بابل ، وبنى الصرح الذي في بابل ، واسمه نمرُود بالدال المهملة في آخره ويقال بالذال المعجمة ، ولم تتعرّض كتب اليهود لهذه القصة وهي في المرويات .
والضمير المضاف إليه رَب عائِد إلى إبراهيم ، والإضافة لتشريف المضاف إليه ، ويجوز عوده إلى الذي ، والإضافة لإظهار غلطه كقول ابن زيابة
نُبِّئْتُ عَمراً غارزاً رأسَه *** في سِنَةٍ يُوعِدُ أخوا لَه
أي ما كان من شأن المروءة أن يُظهر شراً لأهلِ رحمه .
وقوله : { أن أتاه الله الملك } تعليل حذفت منه لام التعليل ، وهو تعليل لما يتضمنّه حاجّ من الإقدام على هذا الغلط العظيم الذي سهّله عنده ازدهاؤه وإعجابه بنفسه ، فهو تعليل محض وليس علة غَائِيَّة مقصودةً للمحاجِّ من حجاجه .
وجوّز صاحب « الكشاف » أن يكون تعليلاً غائياً أي حاجّ لأجل أنّ الله آتاه الملك ، فاللام استعارة تبعية لمعنى يُؤدَّى بحرف غير اللام ، والداعي لهاته الاستعارة التهكّم ، أي أنّه وضعَ الكفر موضع الشكر كما في أحد الوجهين في قوله تعالى : { وتجعلون رزقكم أنَّكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ] ، أي جزاءَ رزقكم . وإيتاء الملك مجاز في التفضّل عليه بتقدير أن جعله ملكاً وخوّله ذلك ، ويجيء تفصيل هذا الفعل عند قوله تعالى : { وتلك حجّتنا آتيناها إبراهيم } في سورة الأنعام ( 83 ) . قيل : كان نمرود أولَ ملك في الأرض وأولَ من وضع التاج على رأسه . { وإذ قال } ظرف لحَاجّ . وقد دل هذا على أنّ إبراهيم هو الذي بدأ بالدعوة إلى التوحيد واحتجّ بحجة واضحة يدركها كل عاقل وهي أن الربّ الحق هو الذي يحيي ويميت ؛ فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنّه لا يستطيع إحياء ميت فلذلك ابتدأ إبراهيم الحجة بدلالة عجز الناس عن إحياء الأموات ، وأراد بأنّ الله يحيي أنّه يخلق الأجسام الحيّة من الإنسان والحيوان وهذا معلوم بالضرورة . وفي تقديم الاستدلال بخلق الحياة إدماج لإثبات البعث لأنّ الذي حاجّ إبراهيم كان من عبدة الأصنام ، وهم ينكرون البعث . وذلك موضع العِبرة من سياق الآية في القرآن على مسامع أهل الشرك ، ثم أعقبه بدلالة الأمانة ، فإنّه لا يستطيع تنهية حياة الحي ، ففي الإحياء والأمانة دلالة على أنّهما من فعل فاعل غير البشر ، فالله هو الذي يحيي ويميت . فالله هو الباقي دون غيره الذين لا حياة لهم أصلاً كالأصنام إذْ لا يُعطون الحياة غيرَهم وهم فاقدوها ، ودون من لا يدفع الموت على نفسه مثل هذا الذي حاجّ إبراهيم .
وجملة { قال أنا أحيي } بيان لحاجّ والتقدير حاجّ إبراهيمَ قال أنا أحيي وأميت حين قال له إبراهيم { ربي الذي يحيي ويميت } . وقد جاء بمغالطة عن جهل أو غرور في الإحياء والإماتة إذ زعم أنّه يعمد إلى من حَكَم عليه بالموت فيعفو عنه ، وإلى بريء فيقتله ، كذا نقلوه . ويجوز أن يكون مراده أنّ الإحياء والإماتة من فِعله هوَ لأنّ أمرهما خفي لا يقوم عليه برهان محسوس .
وقرأ الجمهور ألف ضمير ( أنا ) بقصر الألف بحيث يكون كفتحة غير مشبعة وذلك استعمال خاص بألف ( أنا ) في العربية . وقرأه نافع وأبو جعفر مثلَهم إلاّ إذا وقع بعد الألفِ همزةُ قطع مضمومةٌ أو مفتوحةٌ كما هنا ، وكما في قوله تعالى : { وأنا أول المسلمين } [ الأنعام : 163 ] فيقرأه بألف ممدودة . وفي همزة القطع المكسورة روايتان لقالونَ عن نافع نحو قوله تعالى : { إن أنا إلا نذير } [ الأعراف : 188 ] وهذه لغة فصيحة .
وقوله : { قال إبراهيم } مجاوبة فقطعت عن العطف جرياً علَى طريقة حكاية المحاورات ، وقد عدل إبراهيم عن الاعتراض بأنّ هذا ليس من الإحياء المحتجّ به ولا من الإماتة المحتجّ بها ، فأعرض عنه لِمَا علم من مكابرة خصمه وانتقل إلى ما لا يستطيع الخصم انتحاله ، ولذلك بُهت ، أي عجز لم يجد معارضة .
وبهت فعل مبْني للمجهول يقال بَهَتَه فبُهت بمعنى أعجزه عن الجواب فعَجز أو فَاجَأه بما لم يَعرف دفعه قال تعالى : { بل تأتيهم بغتة فتبهتهم } [ الأنبياء : 40 ] وقال عروة العذري :
فما هو إلاّ أن أراها فُجَاءَة *** فأُبْهَتَ حتى ما أكادُ أجيب
ومنه البهتان وهو الكذب الفظيع الذي يُبهت سامعَه .
وقوله : { والله لا يهدي القوم الظالمين } تذييل هو حوصلة الحجة على قوله { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } ، وإنّما انتفى هدي الله القوم الظالمين لأنّ الظلم حائل بين صاحبه وبين التنازل إلى التأمّل من الحجج وإعمال النظر فيما فيه النفع ؛ إذ الذهن في شاغل عن ذلك بزهوه وغروره .
والآية دليل على جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقائد ، والقرآن مملوء بذلك ، وأما ما نهي عنه من الجدل فهو جدال المكابرة والتعصّب وترويج الباطل والخطإ .